فظللت استغفر الله عز وجل منها ثلاثين سنة
قلوب خاشعة ومواقف ناصعة
نحن والله أسبق في الفضائل
إياك والتخوض في المال العام
سلوكنا قد اختلف فلم اختلف؟
وبعد
هذا العنوان جزء من موقف للسري السقطي وما
أدراك من هذا الرجل أحد العباد المخلصين الذين اشتغلوا بمحبة الله عزوجل ورغم زهده
وورعه إلا أنه كان له دكانا في بغداد يتاجر فيه فالزهد عندهم كان في القلب تحرز عن
المطامع وتحرز من الحرام وكانوا مستغنين بعمل ايديهم عن التطلع لما في أيدي الخلق
فزهدهم عمل وكسب ومجاهدة لا بطالة وسماجة وتطلع لما في أيدي الخلق.
يقول الاستاذ الكبير مصطفى صادق الرافعي في وحي القلم (2/ 162)
قال ابن مسكين: وسبب معرفتي بالسري: أني سمعت يوما "غيلان
الخياط" يقول: إن السري كان اشترى كر لوز (والكر مكيال يساوي 40 أردب) بستين
دينارًا، وأثبته في دفاتره وكتب أمامه: ربحه ثلاثة دنانير3؛ فلم يلبث أن غلا السعر
فبلغ تسعين دينارًا؛ فأتاه الدلال الذي كان اشترى له فقال: أريد ذلك اللوز. قال
الشيخ: خذه. قال: بكم؟ فقال: بثلاثة وستين دينارًا. وكان الدلال رجلا صالحا، فقال
للشيخ: إن اللوز قد صار الكر بتسعين. فقال السري: ولكني عقدت بيني وبين الله عقدا
لا أحله، فلست أبيع إلا بثلاثة وستين دينارًا، فقال الدلال: وأنا قد عقدت بيني
وبين الله عقدا لا أحله، ألا أغش مسلما، فلست أشتري منك إلا بتسعين؛ فلا الدلال
اشترى منه، ولا السري باعه ... !
قال أحمد بن مسكين: فلما سمعت ذلك لم تكن لي همة إلا أن ألقى الشيخ
وأصحبه، وآخذ عنه، فلم أعرج على شيء حتى كنت في المسجد الذي يصلي فيه، فأجده في
حلقته وعنده ممن كنت أعرفهم: عبد الله بن أحمد بن حنبل، وإدريس الحداد، وعلي بن
سعيد الرازي، وحوله خلق كثير وهو فيهم كالشجرة الخضراء بين الهشيم تعلوه نضرة
روحه، وكأنما يمده بالنور عرق من السماء، فهو يتلألأ للعين؛ ولا يملك الناظر إليه
إلا أن يحس للشيخ بالهيبة والتعظيم مع في محياه من البشر الذي هو عنوان الطمأنينة
والرضا
قال ابن مسكين: وما كان أشد عجبي حين تكلم الشيخ، فقد أخذ يجيب عما
في نفسي ولم أسأله، كأن الذي في فكري قد انتقل إليه؛ فروى الحديث: "إذا عظمت
أمتي الدينار والدرهم، نزع منها هيبة الإسلام؛ وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، حرموا بركة الوحي.
✍هذا الذي ذكرنا نتفة بسيطة من سلوكه هو صاحب تللك
الجملة التى حملت عنوان والتي أخذ منها عنوان الخطبة منذ ثلاثين سنة أنا فِي
الاستغفار من قولي الحمد لِلَّهِ مرة
قال الامام القسيري في الرسالة القشيرية (1/ 46)
ويحكى عَنِ السري أَنَّهُ قَالَ: منذ ثلاثين سنة أنا فِي الاستغفار
من قولي الحمد لِلَّهِ مرة قيل: وكيف ذَلِكَ؟ فَقَالَ: وقع ببغداد حريق فاستقبلني
رجل فَقَالَ لي: نجا حانوتك، فَقُلْتُ: الحمد لِلَّهِ فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم
عَلَى مَا قُلْت: حيث أردت لنفسي خيرا مِمَّا حصل للمسلمين.
✍يا الله ما هذه الاخلاق وهذه المحبة للخلق يحب
لهم الخير حقيقة كما يحب لنفسه انه يلوم نفسه ثلاثين سنة لأنه قال مرة الحمد لله
لما نجا دكانه من الحريق
✍إن الحريق قد شب في السوق وشاع الخبر في الناس
فانطلق الناس ينقذون أموالهم فإذا برجل يقابله يقول للسري بن المغلس السقطي إن
دكانك لم تطله النار فيقول الحمد لله ...رد فعلنا جميعا ولكنه يملك قلبا غير ما
نملك ثم يسكت قليلا ثم يلوم نفسه أتحمد الله على ان نجى الله دكانك إن في الناس من
اصابته الجائحة فاحرقت دكانه وهو مهموم أو محسور كأنه رأى هذا حظ للنفس انه يحب
للناس ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه
✍فكيف بمن يشمتون في مصائب الناس كيف بمن يفرحون
بل كيف بمن يفعلون هم أو يفتعلون تلك المصائب كم يقلع زرعا أو يقتل حيوانا أويحرق
بيتا !
ثم دعني أفترض معك افتراضا
هل ترى هذا الرجل اذا كان أمامه مالا عاما هل يمد يده عليه؟!
هل يستحل مالا لغيره وهو الذي كما قلنا قد اشترى لوزا بماله اشتراه
بستين دينارا وهذا مبلغ ضخم اذا ما عرفت ان الدينار الواحد كان أربعة جرامات وربع
الجرام يعني الستين دينار هذه بمثابة ربع كيلو ذهب
ثم يضع هامش ربحه 05% نعم
خمسة % فإذا الدلال الذي كان قد اشترى له يقول أريد أن أشتري منك ما اشترت بربح
خمسين % فيقول لا انني قد عاهدت الله على ان أكسب في 60 دينارا 3 دنانير فقط فإن
كنت ستأخذه على هذا فنعم
إنها في نظر الناس فرصة
ولكن في نظر أهل الله الصادقين مصيدة من مصايد الشيطان فيقول له
الدلال لا اشتريه الا ب 90 دينارا فإني عاهدت الله ألا أغش أحدا
يا الله : لا يدري الانسان من أي الحالين يتعجب
أمن زهد السرى الذي يريد أن يربح ما يراه مناسبا أم من صدق الدلال الذي لا يرضى أن
يغش أحدا
فيقول ابن مسكين فلا الدلال اشترى ولا السري باع!
إن هذا درس بليغ للذين يستحلون أموال الناس أو
يستمرؤون أن يظلموا الناس في جهدهم
وأسوأ من هؤلاء من يستحلون المال العام فلا
يبالون بما يدخلونه على انفسهم وبيوتهم من الحرام
كنت أعرف رجلا ذهب لمحطة القطار ولكنه أدرك
القطار قبل أن يتحرك بدقيقة فلم يستطع أن يقطع تذكرة من الشباك ولم يأتيه الكمثري
حتى وصل الى وجهته فإذا به ينزل فيشتري تذكرة من المحطة ثم يقطعها فى لا يبقى في
عنقه حق من المال العام
وفي مقابل هؤلاء ربما رأيت من يستغل المال
العام فيما هو غير مسموح له باستخدامه فيهم فيجعل سيارة العمل سيارة للبيت أو يأخذ
كوبونات البنزين التى تصرفها الحكومة للسيارات العامة لقضاء مصالح جهة العمل
فيجعلها في سيارته الخاصة
رئيسة البرلمان النرويجي قدمت استقالتها لانها
سكنت في شقة حكومية خصصتها الحكومة النرويجية لمن يبعد بيته عن البرلمان ب 40 كيلو
متر ثم اتضح ان بيتها يبعد 29 كيلو متر فقط !
قد نسمع مثل هذه الاخبار فنصدم أو ننبهر ولا
ندري اننا كنا كذلك فَسُدْنَا فلما تخلينا فَسَدْنا
فها هو ابن عساكر يقول تاريخ دمشق (40/ 290)
خرج عروة بن محمد من اليمن وقد وليها سنين
وما معه إلا سيفه ورمحه ومصحفه وبلغني أنه لما دخل قال يا أهل اليمن هذه
راحلتي فإن خرجت بأكثر منها فأنا سارق.
ومثله موقف عمر بن عبد العزيز لما أطفأ المصباح لان من يكلمه سأله عن
أبناءه فاطفأ المصباح لان المصباح مال عام لا يحق حتى للخليفة أن يستخدمه في غير
ما خصص له
هذا تاريخنا تاريخ من العفة والحفاظ على المال
العام
وكيف لا يكون حالهم كذلك وهم الذين قرأوا حديث رسول الله صلى الله
غليه وسلم فيما أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 85/3118) عَنْ خَوْلَةَ
الأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ
اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ»
ومعناه كما يقول العلماء : أي يستحلون ما ليس لهم بحلال
فإياك أن تستهتر بشيئ تظن انه لا قيمة له أو تافه كمن يأخذ الورق
المخصص للعمل لاولاده ليكتبون عليه أو الأقلام ليكتب بها أو يكتب بها أبناؤه
اسمع معي هذا الحديث الخطير المقلق يا من تتجرأ على المال العام
فتأخذ منه شيئا
أخرج ابو داود في سننه بسند حسن
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلَالًا
فَنَادَى فِي النَّاسِ، فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيَخْمُسُهُ وَيَقْسِمُهُ،
فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ. فَقَالَ : "
أَسَمِعْتَ بِلَالًا يُنَادِي ثَلَاثًا ؟ ". قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : "
فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ ؟ ". فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ :
" كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَنْ أَقْبَلَهُ عَنْكَ
".
قال صاحب عون المعبود
وإنما لم يقبل ذلك منه؛ لأن جميع الغانمين لهم فيه شركة وقد تفرقوا
وتعذر إيصال نصيب كل واحد منهم منه إليه
فتركه في يده ليكون إثمه عليه؛
لأنه هو الغاصب. كذا في المرقاة.
قال المنذري: كان هذا في اليسير فما الظن بما فوقه.
يااااالله
أي بلاء هذا الذي يصيب فيه الإنسان ذنبا لا يستطيع أن يتطهر منه
انت يا من تأكل المال العام هل فكرت كيف ترده
وان نويت أتدري لمن ترده
واذا رددته وهذا واجب فهل يصل إلى مستحقيه
وإن وصل إلى مستحقيه فكيف نفعل في الوقت الذي ظل فيه في يدك والمطل
في حد ذاته ظلم !
ألا أدلك على خير من هذا
اسمع كلام العامة ابعد عن الشر وغنيله
لكن إذا استسهلت ففعلت فقد ظلمت نفسك
إن الرجل جاء بزمام شعر
يعني شيئ في منتهى البساطة ورغم ذلك لم يقبل منه
أنت بقا يا اللي فرحان انك تأخذ أقلام المكتب وأوراقه
يا اللي فرحان انك بتقضي مشاورك الشخصية بسيارة العمل الغير مصرح لك
باستخدامها في الصورة دي
فماذا ستقول امام الله وبما تبرر
إن رؤسائك في الدنيا إذا رأوا فعلك هذا وحاسبوك عليه لن تستطيع
التبرير فكيف سيكون موقفك أمام الحق غدا
فإياك إياك ان تتلوث بمثل هذه الاموال التى لا تستطيع ردها
ونموذج آخر نراه في الآونة الاخيرة وهو شكل من اشكال الافساد المتعمد
خصوصا مع طلبة المدارس حتى ان الطلاب أصبحوا يتعاقدون على انهم إذا فرغوا من آخر
يوم في الامتحانات كسروا الفصول وما فيها من اثاث يكسروا زجاج الشبابيك ويكسروا
المقاعد واللمبات ويفسدوا المراوح والاغرب انهم يتفاخرون بهذا ويصورونه والذي يفعل
هذا يشعر الرضا والتفاخر كأنما فتح عكا كما يقولون ... ان ارى ان هذه الامثلة
تحتاج الى تصحيح سلوك قبل ان تتعلم لان من لم يحترم مقدراته فكائن غريب ان الطيور
لا تفسد اعشاشها ولا تهلك ابنائها أما نحن فكمن يبول في الاناء الذي يشرب فيه وهذا
عجيب وغريب
أين ذهبت اخلاقنا ومحافظتنا على المنافع العامة انها ملك لنا جميعا
بل هي امانه عندنا لنا فيها الاستخلاف والاستغلال في حدود ما يسمح لنا به الشرع
ونعلم اننا راحلون وان الله سبحانه وتعالى يرث الارض من عليها فاذا كنت فيها ضيفا
فليس من المرؤة ان يفسد الضيف بيت من أضافه!
وأكتفي بهذا لان بعض الاخوة اشتكى من طول الخطبة الفائته
ومن اراد الاستزادة في حرمة المال العام فليبحث في صفحتى عن الخطب
السابقة بعنوان حرمة الاعتداء على المال
وآخر دعوانا أن الحمد اله رب العالمين