recent
أخبار عاجلة

خطبة الجمعةلَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ أبوحذيفةأمجدعبدالعاطي خطيب وداعية بالأوقاف

لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ



وَيُؤْثِرُونَ عَلٰى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ 

 لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ 

تعرضوا لنفحات الله


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ أمـا بـعد

الأدلة من القرآن والسنة :- 1) إنَّ اللهَ تعالى حين وصفَ المؤمنين وصفهم بصفةٍ جامعةٍ مانعةٍ فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وهذه الآية كما قال السعدي: "هذا عقدٌ، عقدَهُ اللهُ بينَ المؤمنينَ، أنَّهُ إذا وجدَ منْ أيِّ شخصٍ كانَ، في مَشرقِ الأرضِ ومَغربِها، الإيمانَ باللهِ، وملائكتِهِ، وكُتبِهِ، ورُسُلِهِ، واليومِ الآخرِ، فإنَّهُ أخٌ للمؤمنينَ، أُخوَّةً توجبُ أنْ يحبَّ لهُ المؤمنونَ ما يحبُّونَ لأنفسِهمْ، ويكرهونَ لهُ ما يكرهونَ لأنفسِهمْ".

وقد أثبت هذا المعنى رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ الذي رواه البخاري ومسلمٌ: «مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى». وهذا التشبيه من أبلغِ تشبيهاتِ السنة، لأنه يبيِّن أنَّ مشاعرَ المؤمنين ليست منفصلةً، بل متصلةٌ كاتصالِ أعضاءِ الجسد، فإذا مرض عضوٌ واحدٌ لم تستقرَّ بقيةُ الأعضاءِ حتى يشفى.

وهكذا كان السلف؛ يرون أنَّ الأمةَ جسدٌ واحدٌ، وأنَّ الرحمةَ ركنٌ من أركانِ الإيمان. روى البخاريُّ ومسلمٌ عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لا يُؤْمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ من الخيرِ». قالَ ابنُ بطّالٍ: "لأنَّ الإنسانَ يحبُّ أنْ يكونَ أفضلَ الناسِ، فإذا أحبَّ لأخيهِ مثلَهُ، فقدْ دخلَ هو في جملةِ المفضولينَ، ألا ترى أنَّ الإنسانَ يجبُ أنْ ينتصفَ منْ حقِّهِ ومظلمتِهِ، فإذا كملَ إيمانُهُ وكانتْ لأخيهِ عندَهُ مظلمةٌ أو حقٌّ، بادرَ إلى إنصافِهِ منْ نفسِهِ، وآثرَ الحقَّ، وإنْ كانَ عليهِ فيهِ بعضُ المشقةِ". (شرحُ صحيحِ البخاريِّ لابنِ بطّالٍ).

لقد فهم الصحابةُ هذا المعنى فهمًا عميقًا، وتحول عندهم من شعارٍ إلى واقع. ففي الصحيحين: "أنَّ رَجُلًا أتَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَبَعَثَ إلى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: ما معنَا إلَّا المَاءُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن يَضُمُّ -أوْ يُضِيفُ- هذا؟ فَقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أنَا، فَانْطَلَقَ به إلى امْرَأَتِهِ، فَقالَ: أكْرِمِي ضَيْفَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَتْ: ما عِنْدَنَا إلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، ونَوِّمِي صِبْيَانَكِ إذَا أرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، ونَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فأطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أنَّهُما يَأْكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أصْبَحَ غَدَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ -أوْ عَجِبَ- مِن فَعَالِكُما. فأنْزَلَ اللَّهُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر 9. (البخاري واللفظ له، ومسلم).

رفقةٌ ورحمةٌ، ومواساةٌ وبذلٌ، حتى آثروا الضيفَ على أنفسهم. لقد قاموا بتطبيق الآيةِ التي قال فيها اللهُ تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلٰى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]. قالَ القُرطبيُّ: "الإيثارُ: هو تقديمُ الغيرِ على النفسِ وحظوظِها الدنيويّةِ، ورغبةٌ في الحظوظِ الدينيّةِ. وذلكَ ينشأُ عن قوّةِ اليقينِ، وتأكيدِ المحبّةِ، والصبرِ على المشقّةِ". (تفسير القرطبي).

إنَّ من أعظمِ ما يُظهرُ وحدةَ الأمة أن يعيشَ كلُّ واحدٍ منا بضميرِ الجماعة، لا بضميرِ الفردِ المنعزل؛ ينظرُ ماذا تحتاجُ الأمة، لا ماذا يكسبُ هو فقط، ويتألمُ لما يصيبُ غيرَه، لا لما يسلمُ منه وحده.

إنَّ المؤمنَ الحقَّ هو الذي يخرجُ من حدودِ نفسِه إلى حدودِ الأمة؛ يسمعُ أنينَها، ويرى حاجتَها، ويعيشُ همَّها، لأنه جزءٌ من جسدٍ واحد.

ولذلك كان العلماءُ يقولون: إذا صلحتِ القلوبُ صلحتِ الأمة. وإذا صلحتْ علاقةُ الناسِ ببعضِهم صلحتْ أخلاقُهم، وصلحتْ أسواقُهم، وصلحتْ مصالحُهم، وصلحتْ إدارةُ مالِهم العام، لأنَّ من يعطي الناسَ من قلبِه لا يأخذُ منهم ظلمًا بيده.

وهذا هو البابُ الذي ننتقلُ منه إلى معنى عظيمٍ من معاني دينِ اللهِ، ألا وهو: أنَّ قلبَ المؤمنِ إذا رقَّ لا يمكنُ أن يظلمَ الناسَ في أموالِهم، ولا أن يعتديَ على حقٍّ من حقوقِ الجماعة، لأنَّ قلبًا يرحمُ الفردَ لا يمكنُ أن يخونَ الأمة.

2) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) متفق عليه.

هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، كما يبين كمال الإيمان،

هذا الحديث: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) نقيسه بالشمول وعموم الإسلام كله، (حتى يحب لأخيه)، وليس المراد بأخيه ابن أمه وأبيه أو أخوه من الرضاع أو أخوه لأب أو لأم، بل المراد أخوة الإسلام { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات:10]، وقال بعض العلماء: الأخوة في الإنسانية أعم من الأخوة في الإسلام؛ لأن الواجب عليك لو رأيت كافراً مشركاً -وتعلم أن نهاية الكفر والشرك إلى النار وأنت تكره ذلك- أن تحب له الإسلام لينجو من النار كما تحب ذلك لنفسك، فبعض العلماء وسع نطاق الأخوة، وجعلها في الجنس البشري، وبعضهم يقصرها على الأخوة الإسلامية.

أهمية الأخوة في الله

ينبغي إشعار المسلم بالأخوة مع المسلمين، ولو أراد إنسان أن يوفيها حقها، فعليه أن يرجع إلى أصل دعوة الإسلام وأولها، والهجرة هي أعظم حدث في الإسلام بعد النبوة، فقد هيأت المجال للإسلام أن ينطلق وينتشر، بعد أن كان محدوداً في مكة، ومحصوراً فيها، ومحاطاً من جميع الجهات، ولا يسمح له بالتحرك، فهاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وعند خروجه صلى الله عليه وسلم من بيته إلى الغار كان الصديق تارة يمشي أمامه، وتارة يمشي وراءه، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وقال: ( يا أبا بكر ! ما بالك تارة تمشي أمامي وتارة ورائي؟! أتود لو كان شيئاً أن يكون فيك يا أبا بكر ؟! قال: نعم، إن أهلك أهلك أنا وحدي، أما أنت -يا رسول الله- فإن معك الرسالة )، فمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة معناه مجيء رسالة الإسلام، وليس ذاته صلى الله عليه وسلم فقط، بل ما يحمله من رسالة ربه إلى خلقه،

وكان في المدينة الذين بايعوا عند جمرة العقبة من الأنصار، والذين خرجوا قبل رسول الله مهاجرين، مثل مصعب بن عمير الذي كان يعلم الناس الإسلام، فكان فيها بوادر الإسلام، وبجانب هذه القلة كان هناك عباد أصنام، وكان عمرو بن الجموح له صنم في بيته، وكان ولده ممن حضر بيعة العقبة شاباً يافعاً، فلم يستمع لولده، وكان من سادة قومه، وكان كلما أصبح الصباح يأتي إلى صنمه ويطيبه ويمسحه ويؤدي له حقوقه في زعمه! فجاء الولد ونكس الصنم في الليل، فجاء الأب ووجد الصنم منكساً، فعدله، ثم جاء الولد ووضع عليه بعض القاذورات، فأخذه الأب وغسله وطيبه وعدله، ثم ربط الولد صنم أبيه مع كلب ميت في حفرة خارج البيت، وألقاهما معاً، وأصبح الأب يبحث عن معبوده فلم يجده، فأخذ يبحث عنه حتى وجده مع الكلب في حفرة، فلما وجده تعجب من ذلك! وأبعد عنه الكلب، وطيبه ووضعه في محله، وجاء بالسيف ووضعه بجواره، وقال: انتقم لنفسك، فإذا مرة أخرى يأخذه الولد ويجعله بتلك الصورة، فتنبه الأب وقال: عجباً! والله! لو كنت إلهاً حقاً لما كنت مع كلب في قرن، أف لك من إله، وتركه في مكانه وأسلم.

من مظاهر الأخوة في الله

مظاهر الأخوة في عصر النبوة يعجز إنسان أن يصورها، فمن تلك المظاهر: عندما رجع صلى الله عليه وسلم من بني المصطلق تلاحى غلامان: غلام من الأنصار، وغلام من المهاجرين، وضرب غلام المهاجرين غلام الأنصار، فبلغ الأمر إلى عبد الله بن سلول رئيس المنافقين، فقال: قد قلت لكم من قبل: ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمّن كلبك يأكلك، آويناهم في المدينة، وأطعمناهم، والآن يضربونا، { لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ } [المنافقون:8]، فبلغت مقالته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاد المهاجرون والأنصار أن يفتتنوا، فأمرهم بالمسير وقت الظهيرة ليشغلهم، وجاء الوحي وبين مقالة ابن أُبي ، فقال تعالى: { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون:8] .

ويقول علماء الأصول وعلماء البلاغة: إن ابن أُبي حكم حكماً صحيحاً، فالأعز يخرج الأذل، لكن من هو الأعز ومن هو الأذل؟ هذه هي نقطة الخلاف، فالحكم صحيح، ولكن من هو الأعز، ومن هو الأذل؟ ابن أُبي يزعم بأنه العزيز في بلده، والقرآن قد رد على ابن أُبي حكمه، وبين أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكنك لا تفقه يا ابن أُبي !! فلما وصل الناس إلى المدينة، ظهرت ثمرة الأخوة في الله، جاء عبد الله بن عبد الله بن أُبي - وهو صحابي جليل، وكان من أبر الناس بأبيه رئيس المنافقين- فأمسك بزمام راحلة أبيه عند باب المدينة، واستلّ سيفه وقال: والله! لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله، وتعلم أنك أنت الأذل، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين! فما أعجب هذا الارتباط بين الولد وبين المسلمين، وفصل العرى التي بينه وبين أبيه، فرابطة النسب ضاعت؛ لأنها رابطة ماء وطين، أو رابطة زوجية، أما رابطته برسول الله فهي من الله: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [آل عمران:103]، وأي نعمة؟ إنها نعمة الإسلام: { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } [آل عمران:103]، والذي لم يدخل في الإسلام لا يزال واقفاً على شفا حفرة من النار.

وهكذا وقف الأب أمام الولد ولم يستطع أن يدخل المدينة! من الذي منعه؟ هل هو الرسول؟ لا، هل هو أبو بكر أو عمر ؟ لا.

بل منعه ولده! ثم بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه: دعه يدخل، فدخل المدينة ذليلاً حقيراً!

رابطة الإيمان مع الملائكة

إذا تجلت الأخوة بين المسلمين كان المجتمع مثالياً، وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: إن رابطة الأخوة الإيمانية لم تقف عند سطح الأرض، بل امتدت إلى السماء، وإلى حملة عرش الرحمن، وربطت بينهم وبين المؤمنين، وذلك في قوله تعالى: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [غافر:7]، فما هي الرابطة هنا؟ إنها رابطة الإيمان، { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [غافر:7-9]، أي دعاء أبلغ وأعظم وأشمل من هذا الدعاء الذي تدعو به الملائكة حملة العرش للمؤمنين؟! وهذا بسبب رابطة الإيمان.

ونقول أيضاً: إن تلك الرابطة لم تقف عند حد الدعاء بل كانت عملياً، قال الله: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [فصلت:30-31]، فهم أولياؤهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فمثلاً: في يوم بدر، نزلت الملائكة وقاتلت مع المسلمين. إذاً: ربطت الأخوة الإيمانية بين المؤمنين وبين حملة العرش.

رابطة الإيمان مع الجماد

وربط الإيمان بين مؤمني هذه الأمة وبين الجماد. فهذا العلاء بن الحضرمي حينما ذهب إلى البحرين، علم به مشركو المجوس، فرجعوا إلى الجزيرة وأخذوا السفن، وجاء العلاء ومن معه من المسلمين والبحر أمامهم، فماذا يفعلون؟ توجه العلاء إلى من معه من المؤمنين وقال: أيها الناس! إني عزمت على أمر، إن الله قد أراكم آية في البر، وهو قادر على أن يريكم آية في البحر.

وما هي الآية التي أراهم الله إياها في البر؟ لما كانوا في الطريق، نفذ عليهم الماء، وكادوا يموتون عطشاً، فنزلوا منزلاً ينتظرون الموت، وفي الظهيرة جاءت سحابة صغيرة من بعيد، ووقفت على مساحتهم ثم أمطرت! مدد من الله، أليس هذا من جنود ربك؟! بلى، جند من جند الله، فشربوا وسقوا دوابهم وتزودوا منه.

فقال العلاء : إن الذي أراكم تلك الآية في البر قادر على أن يريكم آية في البحر، قالوا: وماذا تريد؟ قال: عزمت أن أخوض هذا البحر، فتقدم إلى البحر، وهو جماد لا يدري، فقال: أيها البحر! إنك تجري بأمر الله، ونحن جند في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن حتى نعبر لنقاتل عدو الله، ثم عبر البحر بجيشه!! قرار في ثلاث كلمات (توجه إلى الله)،

والرابطة الكبرى التي تجمع بين الجميع هي الإيمان.

يقول ابن كثير في ذكر هذه القصة: (فما ترجل الفارس، ولا احتفى المتنعل، واجتازوا وقاتلوا وانتصروا).

بأي أمر استطاع العلاء أن يعبر على الماء؟ هل بشخصيته أو بقوته وجيشه؟ لا.

بل لأنه في سبيل الله، وهذا يجري بأمر الله، والكل من خلق الله.

رابطة الإيمان مع الحيوان

ذكروا عن سفينة خادم رسول الله، أنه رجع من الغزو، فإذا بالأسد يعترض الناس في الطريق، فما استطاع أحد أن يجاوزه، فتقدم إلى الأسد وقال: أيها الأسد! أنا سفينة صاحب رسول الله، عزمت عليك لتخلين الطريق لنمضي، فإذا بالأسد يذهب بعيداً، ويخلي الطريق! بماذا طرد سفينة الأسد؟! هل طرده بسيفه ورمحه؟ لا والله! إنما طرده بإيمانه وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: لو قال قائل: إن إخوة الإيمان تربط بين جميع خلق الله فلا يستبعد عن ذلك أبداً، : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه )، فالأخوة الإسلامية ذللت كل شيء لهؤلاء المسلمين.

وهذه الآثار تبين لنا معنى نفي الإيمان في هذا الحديث، وأنه نفي كمال وتمام الإيمان، كما جاء في نظير ذلك: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )، قالوا: يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

وتقدم الكلام على أن الأخوة هنا: ( أن يحب لأخيه ) هي أخوة الإيمان، وليست أخوة النسب، بل أخوة الجنس البشري، كما في رواية: ( يحب للناس ما يحب لنفسه، ويكره للناس ما يكره لنفسه )، وأشرنا إلى مدى آثار الأخوة في الله، وذكرنا قضية ابن أُبي وولده عبد الله ، وما قاله عند الرجوع من غزوة بني المصطلق، ووقوف ولده أمامه عند باب المدينة ليمنعه من دخولها حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه تبين لنا كيف ألقى الرابطة بينه وبين أبيه من جانب النسب، وقوى الرابطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعلاقة الإيمان.

4) من فضلِ اللهِ تعالى على أُمَّةِ محمَّدٍ ﷺ أنْ جعلَ لهم مواسمَ للطَّاعاتِ تتضاعفُ فيها الحسناتُ، وتُرفَعُ فيها الدَّرجاتُ، ويُغفَرُ فيها كثيرٌ من المعاصي والآثامِ والسيِّئاتِ، فالسعيدُ من اغتنمَ هذهِ الأوقاتِ وتعَرَّضَ لهذهِ النَّفحاتِ، ومن هذهِ النَّفحاتِ شهرُ رجبَ وما بعدهُ من شهورٍ؛ فنحنُ في بدايةِ موسمِ الطاعاتِ؛ فكما أنَّ لكلِّ إنسانٍ في الدنيا موسمًا تجاريًّا يَغْنَمُ ويَربَحُ فيهِ حسبَ مهنتهِ ووظيفتهِ ونشاطهِ التجاريِّ؛ فكذلك ينبغي على كلِّ إنسانٍ يريدُ أنْ يربحَ في تجارتِهِ معَ اللهِ أنْ يَتَحَرَّى موسمَ الحسناتِ والطاعاتِ والبركاتِ والنَّفحاتِ؛ لهذا حثَّنا ﷺ على اغتنامِ هذهِ النَّفحاتِ حيثُ قالَ: "اطلبوا الخيرَ دَهْرَكُم، وتعرَّضوا لنفحاتِ رحمةِ ربِّكم، فإنَّ للهِ نفحاتٍ من رحمتِهِ يصيبُ بها من يشاءُ من عبادهِ، فاسألوا اللهَ أنْ يَستُرَ عوراتِكم ويُؤمِّنَ روعاتِكم" (أخرجهُ الطبرانيُّ والبيهقيُّ)، وقالَ أيضًا ﷺ: "إنَّ لربِّكم في أيَّامِ الدهرِ نفحاتٍ، فتعَرَّضوا لها، لعلَّ أحدكم أنْ تصيبَهُ نفحةٌ فلا يشقى بعدها أبدًا" (أخرجهُ الطبرانيُّ).

ما المستفاد ؟ جاء في البداية والنهاية لابن كثير عنْ أبي بكرٍ الحربيِّ قالَ: سمعتُ السريَّ يقولُ: احترقَ السوقُ فقصدتُهُ، فلقيني رجلٌ فقالَ: أبشرْ، فإنَّ دكانَكَ قدْ سَلِمَ، قالَ السريُّ: فقلتُ الحمدُ للهِ، ثمَّ مضيتُ غيرَ بعيدٍ، فوقعَ في قلبي أني فرحتُ لنفسي، ولمْ أواسيِ الناسَ فيما همْ فيهِ، فأنا أستغفرُ اللهَ منْ ذلكَ الحمدِ منذُ ثلاثينَ سنةً.

عملياً:- إنَّ من أعظمِ ما يُظهرُ وحدةَ الأمة أن يعيشَ كلُّ واحدٍ منا بضميرِ الجماعة، لا بضميرِ الفردِ المنعزل؛ ينظرُ ماذا تحتاجُ الأمة، لا ماذا يكسبُ هو فقط، ويتألمُ لما يصيبُ غيرَه، لا لما يسلمُ منه وحده.

إنَّ المؤمنَ الحقَّ هو الذي يخرجُ من حدودِ نفسِه إلى حدودِ الأمة؛ يسمعُ أنينَها، ويرى حاجتَها، ويعيشُ همَّها، لأنه جزءٌ من جسدٍ واحد.



google-playkhamsatmostaqltradent