recent
أخبار عاجلة

خطبة الجمعة التسليم لله رب العالمين أصل الايمان وشرط القبول ️ محمد أبو النصر

 التسليم لله رب العالمين


أصل الايمان وشرط القبول

 

  الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، الذي خضعَت له الرقابُ جلالًا، وسكنتْ له القلوبُ إجلالًا، وخضعَت له الأكوانُ طوعًا وكرهًا، فكلُّ ما في الوجودِ ناطقٌ بوحدانيته، شاهدٌ بكمالِ حكمته.

 وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ عبدٍ أذعنَ وسلَّم، ورضيَ وقَبِل.

 وأشهدُ أن سيِّدَنا محمّدًا عبدُه ورسولُه، أكمَلُ الخلقِ تسليمًا، وأعظمُهم امتثالًا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سارَ على نهجه إلى يوم الدين.

أمّا بعد:

 ️إنَّ التسليمَ لله ربِّ العالمين هو ذروةُ سَنامِ الإيمان، وروحُ العبودية، وحقيقةُ الإسلام، وبه يَطمئنُّ القلبُ، وتَستقيمُ الحياة، ويَهنأ العبدُ في السراء والضراء.

 فالدنيا بحرٌ متلاطمٌ بالأمواج، مليئةٌ بالفتن والابتلاءات، لا يَسلم منها أحدٌ كائنًا من كان.

 فإذا تُرِكَ العبدُ لنفسه، يواجه هذه الأمواج بلا إيمانٍ يحمله، ولا يقينٍ يثبته، ولا رضا يسكِّن قلبه؛ أكلته الهموم، وتلاعبت به الفتن، وغرق في دوّامة الابتلاءات.

إنَّ القلب الضعيف يتكسَّر عند أول صدمة، أمّا القلب العامر بالإيمان فيثبت، ويطمئن، ويستمد قوّته من ربِّه. ومن أعظم ما يقوّي قلب العبد، ويشدُّ أركان يقينه، ويمنحه سلام الصدر وراحة النفس: الاستسلامُ لله عزَّ وجل، في أمره ونهيه، وفي قضائه وقدره.

فالأمر أمره، والملك ملكه، والكون كونه، والخلق خلقه، وهو سبحانه المالك على الحقيقة، وما سواه مملوك، وهو الربُّ المدبِّر الحكيم، وغيره عبدٌ مربوب. فإذا سلَّم العبدُ أمره لربِّه، ورضي بحكمه، واطمأنَّ لقضائه، عاش مطمئنًّا ولو اشتدَّ البلاء، قويًّا ولو تكاثرت الفتن، ثابتًا لأنَّه احتمى بركنٍ شديد، وتعلّق بربٍّ لا يخذل من توكّل عليه.

  أولًا: مفهومُ التَّسليمِ للهِ ربِّ العالمين

  معنى التسليم لغةً وشرعًا

  لغةً: الانقيادُ والخضوعُ وتركُ الاعتراض.

  شرعًا: الانقيادُ الكاملُ لأمرِ اللهِ ظاهرًا وباطنًا، والرضا بحكمه، والطمأنينةُ إلى قضائه، مع كمال المحبة والتعظيم.

"فالتسليم لله: هو الانقياد والإذعان لله بامتثال أمره واجتناب نهيه من جميع الجهات، يعني إذعان القلب وانقياده بالاعتقاد والقصد، وإذعان اللسان وانقياده بالإقرار، وإذعان الجوارح وانقيادها بالعمل

يقول الله -سبحانه وتعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [البقرة:131].  "

  ولا فرق بين التسليم لنصوص القرآن والتسليم لنصوص السنة؛ إذ السنة مفسرة للقرآن ومبيّنة له، قال الله -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر:7]

 ويقول سبحانه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]

ويقول -سبحانه-: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا[النور:51].  

وقد حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أخذ القرآن وترك ما في السنّة، فقال: "لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ"

 رواه أبو داود.  

فقد أمرنا باتباع السنة الصحيحة والأخذ بها، كما أمرنا بأخذ القرآن تماماً بدون تفريق بينهما، فالسنة هي الشارحة للقرآن، المبينة له. 

  إنَّ الإسلامَ ليس مجرَّدَ دعوى، بل تسليمٌ وانقياد،وأن يكون الهوى تبعا لما جاء به الحبيب المصطفى فقال:

 «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ»

أخرجه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (15)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (4/368) واللفظ لهما، والبيهقي في ((المدخل إلى السنن الكبرى)) (209) باختلاف يسير من حديث عبد الله بن عمرو.

وقال سبحانه : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب:36]،

وَتَمَامُ التّسلِيمِ، أَلّا يُقَدِّمَ العَبدُ بَينَ يَدَيْ رَبّهِ سبحانه وتعالى وَرَسُولِهِ ﷺ كَمَا قَالَ سُبحَانَهُ:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾. أَي: لَا تَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ، وَلَا تَأمُرُوا حَتَّى يَأمُرَ، وَلَا تُفتُوا حَتَّى يُفتِيَ، وَلَا تَقطَعُوا أَمرًاً حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَحكُمُ فِيهِ وَيُمضِيهِ.

وَقَد رَبَّى النَّبِيُّ ﷺ أَصحَابَهُ عَلَى التَّسلِيمِ لِلَّهِ وَلِأَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهُ ﷺ، فَفِي صَحِيحِ مُسلِمٍ: «لَمَّا نَزَلَت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ وَإِنْ تُبدُوا مَا فِي أَنفُسِكُم أَو تُخفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ اشتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَتَوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ! كُلِّفنَا مِن الأَعمَالِ مَا نُطِيقُ: الصّلَاةَ وَالصّيَامَ وَالجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَد أُنزِلَت عَلَيكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَتُرِيدُونَ أَن تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهلُ الكِتَابَينِ مِن قَبلِكُم: سَمِعنَا وَعَصَينَا؟! بَل قُولُوا: سَمِعنَا وَأَطَعنَا غُفرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيكَ المَصِيرُ»، فَلَمَّا اقتَرَأَهَا القَومُ وَذَلَّت بِهَا أَلسِنَتُهُم؛ أَنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِثرِهَا:﴿آمَنَ الرَّسُولُ بمَا أُنزِلَ إِلَيهِ مِن رَبِّهِ وَالمُؤمنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِه لا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِن رُسُلِه﴾، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَنزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: :﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسعَهَا لَهَا مَا كَسَبَت وَعَلَيهَا مَا اكتَسَبَت رَبَّنَا لا تُؤَاخِذنَا إِنْ نَسِينَا أَو أَخطَأنَا﴾، قال: نعم، ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحمِلْ عَلَينَا إِصرًا كَمَا حَمَلتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبلِنَا﴾  قال: نعم، ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ قال: نعم، ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغفِر لَنَا وَارحَمنَا أَنتَ مَولَانَا فَانصُرنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ﴾ قال: نعم».

  التسليمُ لله ليس ضعفًا… بل رضا وثقة بحكمه:

-وقد يقول قائل: إنَّ التسليمَ ليس إلا عجزًا وقِلَّةَ حيلة!

وهذا – والله – قولُ من لم يفقه كتابَ الله، ولم يعرف سُنَّةَ رسولِ الله ﷺ، ولم يتعرّف إلى ربِّه حقَّ المعرفة.

فالمؤمنُ الصادق يعلم يقينًا أنَّ الله سبحانه مالكٌ حكيم، لا يعبث، ولا يظلم، ولا يُقدِّر أمرًا إلا بعلمٍ وحكمةٍ ورحمة. وحين يستقرُّ هذا المعنى في القلب، يسقط الاعتراض، ويزول الوهم بأنَّ التسليم ضعفٌ أو خور.

- التسليمُ لله ليس عجزًا، بل قوَّة؛ لأنك حين تُسلِّم، تُوكِل أمرك إلى القويِّ العزيز، وحين تفوِّض، تعتمد على الحكيم الخبير. وأيُّ قوَّةٍ أعظم من أن يكون الله هو المتكفِّل بأمرك؟

إنَّ الله قد يبتلي عبدَه بأنواع البلايا، وتتنزّل عليه الرزايا، لا ليهلكه، بل ليختبر صدق تسليمه، وعمق يقينه، وحقيقة تفويضه.

 يريد سبحانه أن يرى: هل يثبت القلب عند الشدائد؟ هل يرضى العبد عند المصائب؟ هل يُسلِّم حين تضيق السبل وتنقطع الأسباب؟

والمطلوب من العبد أن يُسلِّم لله في كل صغيرة وكبيرة، وأن يستسلم لحكمه، ويصبر ويُصابِر، ويوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

قال الله تعالى:

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾

[البقرة: 155–157].

هؤلاء لم يكونوا عاجزين، بل كانوا أعلم الناس بالله، وأقواهم يقينًا، وأثبتهم عند البلاء. سلَّموا ففازوا، ورضوا فرُحموا، وصبروا فاهتدوا.

وهكذا يكون التسليم: عبوديةً خالصة، وقوَّةً راسخة، وطريقًا موصلًا إلى الطمأنينة والهداية.

  التسليم طاعه على علم:

-التسليم طاعة ليست عمياء، بل طاعة على علم وبصيرة، فما من عقل سلم من الشبهات المضللة، ولا قلب خلا من الشهوات المحرمة، إلا ووجد في التسليم لله ولكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم النجاةَ من كل كرب، ومن كل فتنة، فالاستسلام كسفينة نوح تنجيك من الفتن، ولو كانت كالجبال، وتحطك على جبل الاطمئنان، ولن يصيبك إلا ما أراد الرحمن.

  التسليمُ أصلُ الإيمانِ وحقيقته

- الإيمان لا يكتمل إلا بالتسليم، والتسليمُ هو الميزانُ الفاصلُ بين الإيمان الصادق، والإيمان المدَّعى، قال الله تعالى:

﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾

[سورة النساء: 65]

فهذه الآيةُ جمعت:

  التحكيم

  وانتفاء الحرج

  وكمال التسليم

وَهَذَا التَّسلِيمُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ يَشمَلُ التَّسلِيمَ بِكُلّ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ وَعَن رَسُولِهِ ﷺ مِن الأَخبَارِ وَالأَحكَامِ.

فَالتّسلِيمُ بِخَبَرِ اللَّهِ وَخَبَرِ رَسُولِهِ ﷺ هُوَ التّصدِيقُ بِالخَبَرِ تَصدِيقًا جَازِمًا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا رَيبَ، وَالإِقرَارُ بِهِ كَمَا جَاءَ، وَالإِيمَانُ بِهِ كَمَا وَرَدَ، سَوَاءٌ عَلِمَ العَبدُ حَقِيقَةَ مَعنَاهُ أَمْ لَم يَعلَمها، وَسَوَاءٌ أَدْرَكَ العَقلُ تَفَاصِيلَهُ أَم لَم يُدرِكهَا. قَالَ تَعَالَى:﴿ ولَمَّا رَأَى المُؤمِنُونَ الأَحزابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُهُ وصَدَقَ اللَّهُ ورَسُولُهُ وَمَا زَادَهُم إِلَّا إِيمَانًا وَتَسلِيمًا.

وَأَمّا التّسلِيمُ لِلأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَبِقَبُولِ هَذِهِ الأَحكَامِ، وَامتِثَالِ المَأمُورَاتِ وَتَركِ المَنهِيَّاتِ، وَإِن لَم يَعلَمِ العَبدُ حِكمَتَهَا،

وقال ﷺ في بيان مراتب الدين:

 «ذاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولًا»

خرَّجه مسلم (رقم 34).

وَقد نَـهَى ﷺ أَصحَابَهُ عَن مُعَارَضَةِ أَمْرِ الشَّرعِ وَمُخَالَفَتِهِ، فَفِي الصَّحِيحَينِ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا نَهَيتُكُم عَنهُ فَاجتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرتُكُم بِهِ فَافعَلُوا مِنهُ مَا استَطَعتُم، فَإِنّمَا أَهلَكَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُم كَثرَةُ مَسَائِلِهِم، وَاختِلَافُهُم عَلَى أَنبِيَائِهِم».

  التسليمُ ليس أمرًا اختياريًّا .

- التسليمُ لله ولرسوله ﷺ، والانقيادُ التامُّ لحكمهما، ليس أمرًا اختياريًّا، ولا هو من قبيل فضائل الأعمال أو كمالات الدين، بل هو أصلٌ من أصول الإيمان، وركنٌ لا يقوم الإسلام إلا به.

 وليس الخطابُ بالتسليم موجَّهًا لأصحاب الهمم العالية وحدهم، ولا خاصًّا بصفوة المتقين والصالحين، كلا والله؛ بل هو تكليفٌ لازمٌ لكل مسلمٍ ومسلمة، لا يُعذَر أحدٌ في تركه.

فمن لم يُسلِّم لحكم الله ورسوله، ولم يرضَ بقضائهما، فقد عرَّض إيمانه للخطر العظيم؛ لأن ردَّ حكم الله كفرٌ يخرج من الملّة، وهو سِمَةٌ لازمةٌ للمنافقين، لا تنفكُّ عنهم.

يصف اللهُ سبحانه المنافقين فيقول:

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا  وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ [النساء: 60–61].

وقال سبحانه:

﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ۝ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ [النور: 48–49].

فهم إذا دُعوا إلى حكم الله ورسوله أعرضوا وتولّوا، لأن قلوبهم لم تُسلِّم، ونفوسهم لم ترضَ. أمّا إذا كان الحكم في صالحهم، وإذا وافق أهواءهم ومصالحهم، جاءوا منقادين، ورفعوا شعار: لا نريد إلا الشريعة! لا حبًّا في الحق، ولكن لأن الحق وافق هواهم.

ثم يكشف الله حقيقة حالهم بقوله:

﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾

[النور: 50].

فهكذا ناقض المنافقون أعظم قاعدةٍ في الإسلام: التسليمَ لله ولرسوله، والرضا بحكمهما دون اعتراضٍ ولا تردُّد. فذمّهم الله، وفضح سرائرهم، لأنهم لم يجعلوا الشرعَ حَكَمًا على أهوائهم، بل جعلوا أهواءهم حَكَمًا على الشرع.

وما أحوج القلوب اليوم إلى صدق التسليم، وإخلاص الانقياد، حتى ينجو العبد بدينه، ويثبت على صراط الله المستقيم.

   التسليم لا يعني ترك الأخذ بالأسباب .

 - فإن الأخذ بالاسباب   جزء من التوكل على الله؛ ((قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل))

صحيح الترمذي: (2517)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي.

   التسليمُ لقضاءِ اللهِ وقدَرِه

  التسليم في المصائب والابتلاءات

من أعظم صور التسليم: الرضا بقضاء الله، والصبر على أقداره، قال تعالى:

﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [سورة التغابن: 11]

قال علقمة: هو الرجلُ تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلّم.

وقال النبي ﷺ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ… إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»

خرَّجه مسلم

  التسليمُ لحكمةِ اللهِ وإن خفيت

 - ليس كلُّ ما قدَّره اللهُ يُدرَك بالعقل، لكنَّه لا يخرج عن الحكمة، قال تعالى:

﴿وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة: 216]

وقال ﷺ:

«إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ»

خرَّجه الترمذي (رقم 2396)، وقال: حديث حسن.

  نماذجُ قرآنيةٌ ونبويةٌ في كمالِ التسليم

  نماذج من تسليم الرسل :

 التسليم هو دين الأنبياء جميعاً .

- التسليم لله هو النهج المشترك بين جميع الأنبياء، من آدم عليه السلام، إلى محمد صلى الله عليه وسلم،

لقد كان رسل الله -عز وجل- وأنبياؤه خير ترجمة حية في تطبيق الاستسلام لله -عز وجل-، والإذعان والانقياد له -سبحانه-، وقد ضرب لنا القرآن أمثلة عجيبة في التسليم لأمر الله، وتفويض الأمر إليه دون اعتراض أو منازعة، بل بقلوب ملؤها الطمأنينة والرضا واليقين بموعود الله. 

  تسليم نوح عليه السلام .

 - هذا نبيُّ الله نوحٌ عليه السلام، يضرب لنا أروعَ الأمثلة في معنى التسليم الصادق لله، حين نادَى ربَّه بعاطفة الأب المفجوع، فقال كما أخبر الله عنه:

﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ۝ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۝ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾

[هود: 45–47].

لقد قطع الكفرُ كلَّ أواصر النسب، فلم تنفع بنوّةٌ مع الشرك، ولم يبقَ إلا ميزانُ الإيمان. سأل نوحٌ ربَّه بنبض الأبوة، وبقلبٍ مكسور، ظنًّا أن وعد النجاة يشمل ولده، فذكَّره الله بالحقيقة العادلة: أن القرابة الحقيقية هي قرابة الدين، وأن الابن المشرك ليس من أهل الإيمان، ولو كان من صُلب نبي.

وهنا تتجلّى عظمة التسليم؛ فما جادل نوح، ولا اعترض، ولا فتح باب المراء، بل قطع الطريق على الشيطان ونوازع النفس، وأعلن خضوعه الكامل لأمر الله. لم يقل: لمَ؟ ولم يحتج بعاطفةٍ أو نسب، بل عاد فورًا إلى مقام العبودية الخالصة.

بل زاد على ذلك، فاستعاذ بالله أن يعود فيسأله ما ليس له به علم، وسأله المغفرة والرحمة، مع أنه نبيٌّ كريم. هكذا يكون التسليم: رجوعًا سريعًا إلى الله، وخضوعًا لحكمه، واعترافًا بكمال علمه وعدله.

وهكذا يعلّمنا نوحٌ عليه السلام أن التسليم لله ليس ضعفًا ولا انكسارًا، بل إيمانٌ عميق، ورضا صادق، وتعظيمٌ لحكمة الله، مهما كان الألم، ومهما كانت الفجيعة.

  تسليمُ إبراهيم عليه السلام .

- وهذا إبراهيم -عليه السلام- ضرب مثلاً رائعا هو وأهله في التسليم لأمر الله من أول يوم أراد الله به الخير والهداية له: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) [البقرة:131-132]. 

لقد جسّد إبراهيم -عليه السلام- الإيمان الخالص والتسليم التام لله -تعالى- على أرض الواقع، حين جاء بأهله، زوجه هاجر وولده إسماعيل -عليهما السلام- ليتركهم في بطحاء مكة، بأمرٍ من الله -عز وجل-، في وادٍ لا شجر فيه ولا ماء، ولا زاد، ولا رفقة يستأنسون بها.

وخلّفهم هناك فلحقت به هاجر -رحمها الله- وهي

تسأله وتناديه ، متسائلةً: «لمن تتركنا هنا يا إبراهيم؟ ماذا سنفعل؟  وماذا سنأكل ونشرب؟!. 

ولكن إبراهيم -عليه السلام- لم يجبها ولم يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟، قال: نعم،

فأجابت هاجر بكلمة حكيمة، وباستسلام مطلق: «إذن لن يضيعنا».

هنا يظهر التسليم المطلق من إبراهيم -عليه السلام- الذي ترك زوجَه وابنه الرضيع في أرض الغربة والخوف والجوع، ويظهر التسليم الرائع من هاجر -رضي الله عنها- التي آمنت أن ما جرى أمر الله الحكيم، فسلّمت له قلبها وإرادتها، رغم عدم إدراك الحكمة الكاملة في تلك اللحظة.

  فها هو إبراهيم -عليه السلام- يضع ولده الوحيد إسماعيل -عليه السلام- في وادٍ غير ذي زرع، فأصبح  إسماعيل شابًا ، وهنا نزل الوحي على ابراهيم ، يأمره بالذبح ، قال الله تعالى:

﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات: 102]،

ورؤيا الأنبياء وحي وحقّ، وليست مجرد اختيار أو تشاور، وهنا قال إبراهيم لابنه :﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾

استمع إلى جواب الابن البار إسماعيل:

﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102]،

وهنا اسلما الابن والاب ، قال  تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: 103]،

 قال قتادة: «أسلم هذا نفسه لله، وأسلم هذا ابنه لله»، وهكذا انتهت القضية بالاستسلام المطلق. ثم جاء تأكيد الله ومكافأته لعبده:

﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 104-107].

بهذا البلاء والاختبار تبين كمال محبة إبراهيم وصفاء قلبه، وطُرد كل حب يزاحم خلة ربه، فلم يعد للذبح من فائدة، وفُدي الذبيح بذبح عظيم.

فقال تعالى: ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: 107].

وفي المقابل، يقف إسماعيل شامخًا في الامتحان، صبورًا، مضربًا مثلًا فريدًا في التسليم لأمر الله -تعالى- من غير تردد، وهو فتى يافع، لكن أدبه مع الله كان عظيمًا، واعترف بحدود قدرته واستعان بربه على ضعفه، قائلاً:

«سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»،

لم يأخذ البطولة لشخصه، ولم يتباه بالشجاعة، ولم يندفع إلى الخطر بلا مبالاة، بل أرجع الفضل كله لله وحده، مجسّدًا معاني التسليم والإخلاص الكامل لله في أسمى صورها.

  تسليمُ النبي ﷺ في أشدِّ المواقف

في الطائف قال ﷺ:

 «إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي»

حسَّنه أهل العلم، وانظر:

 فقه السيرة : 126)

  مؤمن ال فرعون والتسليم :

- مؤمن آل فرعون في قبضة الموت، وفي مَهْلَكَة تكاد تكون واقعة؛ قال: ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44]، فماذا كانت النتيجة: ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 45].

وهنا يتجلى معنى التسليم الحقيقي، الذي لا يكتفي بالقبول النظري، بل يتجسد في الثقة بالله في أحلك الظروف، فيمنح الله من يسلم قلبه له حماية ونجاة، كما أنقذ إبراهيم وابنه، وأنقذ مؤمن آل فرعون من المكروه.

  ولعلّ سائلا يقول: تلك النماذج من أنبياء الله -تعالى-، وهؤلاء معصومون عن المعصية والاعتراض على أمر الله -تعالى-.

نقول: بل هناك نماذج أخرى غيرهم، صحابة رسول الله -عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم-، ضربوا أروع الأمثلة في الاستسلام لله ولرسوله، والانقياد لهما دون شرط أو قيد أو بحث عن علة أو سبب.  

ولو حاولنا استيفاء ما سطره الصحابة رضوان الله عليهم من أمثلة ومواقف، ما وسعنا عشرات المحاضرات والخطب  من أجل إيفاء هؤلاء العظام حقهم في التسليم لأمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-. 

  الصحابة والتسليم .

لَقَد ضَرَبَ الصَّحَابَةُ الكِرَامُ أَفضَلَ الصُّوَرِ وَأَروَعَهَا فِي القَبُولِ وَالتّسلِيمِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ، فَكَانَ يَشتَدُّ نَكيرُهم عَلَى مَن عَارَضَ شَيئًا مِمّا جَاءَ بِهِ الرّسُولُ ﷺ.

ومن هذه النماذج

   ما رواه  عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى خَاتمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: "يَعْمدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ"، فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ! لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. رواه مسلم.

   وللنساء في التسليم مثال فريد، وموقف شريف، ومشهد يذكر؛ فعنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ:"لَمَّا نَزَلَتْ: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ) [الأحزاب:59]، خَرَجَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ مِنَ الأَكْسِيَةِ" رواه أبو داود. يعني: امتثلن الأمر واستسلمن له فاحتجبن وتسترن. 

  أما موقف أم سليم الأنصارية فكان من أعجب المواقف التي سجلها تاريخ الصحابة الحافل بالمآثر والفضائل في أمر التسليم، فقد أظهرت أم سليم الأنصارية -رضي الله عنها- قوة وثباتا على تحمل المكاره والاستسلام لقضاء الله وقدره مع الرضا. 

- روى الإمام البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه- أنه قال: "مات ابن لأبي طلحة من أم سليم فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، قال: فجاء فقربت إليه عشاء، فأكل وشرب، ثم تصنَّعت له أحسن ما كانت تصنع مثل ذلك، فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوما أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك؛ فغضب وقال: تركتني حتى تلطختُ ثم أخبرتني؟. 

فصلى أبو طلحة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بما كان منهما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما".   قال سفيان راوي الحديث: قال رجل من الأنصار: "فرأيت لهما تسعة أولاد، كلهم قرؤوا القران". رواه البخاري. وكان هذا ببركة التسليم والانقياد لقضاء الله وقدره. 

  أم سلمة والتسليم لله .

قال  صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم سلمة: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها، قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم))

مسلم

، لقد كان أبو سلمة في نظرها خير الناس إلا من رسول الله، وما كانت تطمع أن يكون رسول الله لها زوجًا، فلما أسلمت قلبها لله، وأطاعت نبيها، وقالت قولتها: كان الخلف خيرًا، وأعظم أجرًا، وأصبح النبي لها زوجًا؛ لأن هذا وعد الله، والله لا يخلف وعده، ولا يكذب عهده، وهو الغفور الرحيم.

  انما الصبر عند الصدمه الاولى وهنا يظهر التسليم .

وعن أنس بن مالك: ((مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني، فإنك لم تصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى))

البخاري

، نقلها النبي صلى الله عليه وسلم من القضية الشخصية إلى قضية الأمة جميعًا، فليس للمصاب إلا الله فرجًا ومخرجًا؛ يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: "ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام"

شرح الطحاوية" (1/ 231).

 فَفِي الصّحِيحَينِ عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مِن أَصحَابِهِ يَخذِفُ -أَي يَرمِي بِالحَجرِ بَينَ إِصبَعَينِ- فَقَالَ لَهُ: لَا تَخذِف؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَكرَهُ -أَو قَالَ- يَنهَى عَن الخَذفِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُصطَادُ بِهِ الصَّيدُ، وَلَا يُنكَأُ بِهِ العَدُوُّ، وَلَكِنَّهُ يَكسِرُ السِّنَّ، وَيَفقَأُ العَينَ، ثُمّ رَآهُ بَعدَ ذَلِكَ يَخذِفُ، فَقَالَ لَهُ: «أُخبِرُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَكرَهُ أَو يَنهَى عَنِ الخَذفِ ثُمَّ أَرَاكَ تَخذِفُ؟! لَا أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً كَذَا وَكَذَا!».

وَهَذَا مِن حِرصِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم عَلَى الِاستِجَابَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَالقَبُولِ وَالِانقِيَادِ وَالتَّسلِيمِ لِمَا جَاءَ بِهِ الوَحيُ، وَالخَوفِ مِن مُعَارَضَةِ شَيءٍ مِن ذَلِكَ.

فَعَلَى العَبدِ أَن يَنقَادَ لِلشَّرعِ، وَيَتَعَبّدَ لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّصدِيقِ وَالِامتِثَالِ، وَأَلَّا يُعَارِضَ حُكمَ اللَّهِ بِالسُّؤَالِ: لِمَاذَا شَرَعَ كَذَا وَلَم يَشرَع كَذَا، وَلِمَاذَا حَرّمَ كَذَا وَأَبَاحَ كَذَا؟ وَلِمَاذَا أَوجَبَ كَذَا دُونَ كَذَا؟ فَيَسأَلَ سُؤَالَ الشّاكِّ المُعتَرِضِ، وَيَشتَرِطَ عَلَى رَبّهِ الِاقتِنَاعَ قَبلَ الِامتِثَالِ! وَكَانَ يَكفِيهِ أَن يَقتَنِعَ بِكَمَالِ حُكمِ اللَّهِ وَحَمدِهِ، وَبِعِلمِ اللَّهِ وَحِكمَتِهِ وَرَحمَتِهِ، وَبِصِدقِ رَسُولِهِ وَكَمَالِ رِسالتِهِ، ثُمّ يُؤمِنَ وَيُسَلّمَ، فإذَا عَلمَ بعدَ ذلكَ حِكمةَ الله تعالى في أَمرِه ازدادَ إيمانًا، وإذا لَم يَعلَمْها لَـم يتأثّر إيمانُهُ وتَسليمُه، اكتفاءً بيقينِهِ بكَمالِ شَرعِ الله تعالى.

وَقَد سَأَلَتِ امرَأَةٌ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا: «مَا بَالُ المَرأَةِ الحَائِضِ تَقضِي الصَّومَ وَلَا تَقضِي الصَّلَاةَ؟!»: فَقَالَت لَهَا: «أَحَرُورِيَّةٌ أَنتِ؟!» -تَعنِي: هَل أَنتِ مِن الخَوَارِجِ؟ وَقَد كَانُوا يُنكِرُونَ السُّنّةَ-، فَقَالَت: لَستُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنّي أَسأَلُ، فَقَالَت عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا: «كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤمَرُ بِقَضَاءِ الصَّومِ، وَلَا نُؤمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ».

  وفي قصة نزول آية تحريم الخمر خير دليل على الانقياد التام لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب من فضيخ زهو وتمر، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها، فأهرقتها. رواه البخاري. 

والشاهد أنهم لم يتحققوا من قول القائل بأن الخمر هل حرمت، فبمجرد السماع بالتحريم أذعنوا مباشرة وانقادوا للأمر، وأراقوا الخمر التي كانوا يشربونها من لحظتها. 

  أيها المسلمون:

يجب علينا أن نستقيم على الشريعة مهما كانت تكاليف الأمر أو تبعات النهي، فليس الإسلام دين غنائم، إذا جاءتنا استقر بنا الحال على الإسلام، وإذا حلت بنا المصائب تركنا الإسلام والاستقامة على الدين؛ كما أنه ليس موائد تُبسَط، أو ورود توزع، أو روائح تستنشق؛ بل تضحيات، وبذل، وتسليم، وانصياع لتحقيق مراد الله وشرعه، يبدأ بالوقت والمال، وينتهي بالروح والجسد.

ومن لا يوطن نفسه على هذا يُخشى أن تزل قدمه بعد ثبوتها، ويرتد على أدباره بعد أن هداه الله.

والواجب كمال التسليم لله -تعالى-، والاتباع للرسول -صلى الله عليه وسلم-، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون معارضته بخيال باطل نسميه معقولاً، أو نحمله شبهة أو شكاً، أو نقدم عليه آراء الرجال، وزبالة أذهانهم... 

وليعلم كل عبد أن تسليمنا اليوم للأمر واجتنابنا للنهي وانقيادنا للشرع إنما ذلك وفاء بالعهد، وتنفيذ للميثاق الذي أخذ الله على بني البشر، ميثاق الإيمان به والتسليم له، ونحن في ظهر أبينا آدم -عليه السلام-، قال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [لأعراف:172]، وما تسليم العباد وانقيادهم اليوم إلا وفاء لذلك العهد، وتجديد لذلك الميثاق. 

  ثمراتُ التسليمِ للهِ ربِّ العالمين :

  ثمراتٌ قلبية

  الطمأنينة

  السكينة

  زوال القلق

قال تعالى:

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾

[سورة الرعد: 28]

  ثمراتٌ سلوكية

  الاستقامة

  زيادة التدين للعبد المسلم، ورفع درجته وتزكيته عند مولاه -جل في علاه-: قال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [النساء:125]، ومعنى أسلم وجهه لله: طاعته، وإذعانه، وانقياده لله -تعالى.

  حسن الخلق

  الرضا عن الله والناس

قال ﷺ:

 «وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ»

خرَّجه الترمذي

  الاستسلام لله طريق النصر على الأعداء:

  في مشهد للموت المحقَّق، والإبادة الجماعية القريبة يطارد فرعون أتباع موسى بكل قوته وعدته وعتاده، فيصل الأمر إلى صورة المشاهدة العينية، التي تفوح منها رائحة الدم؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، نفوس خلعها الخوف، فلم يعد لها تفكير إلا ما تشاهده من الهلكة المحققة، لم يستطيعوا التفكير إلا بالمواد الأرضية، فجاءت النقلة الربانية والثقة برب البرية؛ فقال تعالى على لسان موسى: ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62]، قلوب استسلمت لربها، ووثقت عُرى إيمانها بوعده، فجعل الطمأنينة نصيبها، فكان الفرج في أبسط أمرها؛ قال تعالى: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴾ [الشعراء: 63 - 66]، انتهت القوة الفرعونية بعصًا، يكفيك أدنى سبب مع استسلام القلب وتفويض الأمر لله، فالماء الذي نجا به نوح هو الذي أغرق به فرعون، فالله مصرف الأمور والأحوال، وهو على كل شيء قدير.

  الاستسلام لله من كمال الإيمان:

  لا يمكن أن تكون على كمال الإيمان إلا بمتابعة ظاهرية تنفيذًا وعملًا، ومتابعة باطنية بانشراح وطمأنينة، ويجمع ذلك كله تفويض الأمر لله.

يصور هذا حديث عروة بن الزبير: ((أن رجلًا من الأنصار خاصَمَ الزبيرَ في شِراجٍ من الحرَّة يسقي بها النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسقِ يا زبير، فأمره بالمعروف، ثم أرسِلْ إلى جارك، فقال الأنصاري: إن كان ابنَ عمتك، فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اسقِ، ثم احبس، يرجع الماء إلى الجَدْرِ، واستوعى له حقه، فقال الزبير: والله إن هذه الآية أُنزلت في ذلك: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]))

.البخاري

  "فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان، فمن استكمل هذه المراتب وكملها، فقد استكمل مراتب الدين كلها"

تفسير السعدي.

  لا تعترض .

مِمّا يُعَينُ العَبدَ عَلَى مُلَازَمَةِ التّسلِيمِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَيُجَنّبُه الِاعتِرَاض عَلَى شَيءٍ مِمَّا جَاءَ مِنْ عِندِهِ؛ أَنْ يَعلَمَ العَبدُ أَنّ هَذَا الِاعتِرَاضَ طَرِيقَةُ إِبلِيسَ اللَّعِينِ.

فَقَد كَانَ إِبلِيسُ أَوَّلَ المُعتَرِضِينَ عَلَى اللَّهِ إِبَاءً وَكِبْرًا، وَأَوَّلَ مَن رَفَضَ التّسلِيمَ لِأَمْرِ رَبِّ العَالَمِينَ تَعَالِيًا وَكُفرًا، قَالَ تَعَالَى:﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبلِيسَ لَم يَكُن مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾.

قَالَ ابنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:

 «لَأَن يَلقَى اللَّهَ العَبدُ بِذُنُوبِ الخَلَائِقِ كُلِّهَا -مَا خَلَا الشِّركَ بِهِ- أَسلَمُ لَهُ مِن أَن يَلقَى اللَّهَ وَقَد عَارَضَ نُصُوصَ أَنبِيَائِهِ بِرَأيِهِ... وَهَل طَرَدَ اللَّهُ إِبلِيسَ وَلَعَنَهُ وَأَحَلَّ عَلَيهِ سَخَطَهُ وَغَضَبَهُ إِلّا حَيثُ عَارَضَ النَّصَّ بِالرَّأيِ وَالقِيَاسِ ثُمَّ قَدَّمَهُ عَلَيه؟».

وَذَلِكَ -عبادَ الله- لِأَنَّ الِاعتِرَاضَ عَلَى حُكمِ اللَّهِ، يَحمِلُ فِي طَيّاتِهِ التَّشكِيكَ فِي عِلمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، أَو الِارتِيَابَ فِي عَدلِهِ سبحانَه وَرَحمَتِهِ، أَو الطَّعنَ فِي حَمدِهِ وَكَمَالِ شَرِيعَتِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا الِاعتِرَاضُ مَرَضًا فِي القَلبِ، وَفَسَادًا فِي الإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ المُنَافِقِينَ: ﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالمُؤمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحكُمَ بَينَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعرِضُونَ * وَإِنْ يَكُن لَهُمُ الحَقُّ يَأتُوا إِلَيهِ مُذعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيهِم وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَولَ المُؤمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَينَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ﴾.

  التسليم سبب للنجاة من عذاب الله؛ قال -تعالى-: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [لقمان:22]، أي: فقد أخذ موثقا من الله متينًا أنه لا يعذبه.

  الخاتمة .

إنَّ التسليمَ لله ربِّ العالمين ليس ضعفًا، بل قُوَّة، وليس استسلامًا أعمى، بل ثقةٌ بعليمٍ حكيم، وهو الطريقُ الأقصرُ إلى السلامة في الدنيا، والفوز في الآخرة.

فاجعل حياتك كلها لله، تصرفاً، وقصداً، وإرادةً. فمن سلّم أمره لله، نال منه الأمان والطمأنينة في الدنيا، والعاقبة الحسنة والنجاة في الآخرة. لنجعل شعارنا ومنهجنا هو التسليم التام لـ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.

  الدعاء    

اللَّهُمَّ ارْزُقْنا التَّسلِيمَ لِشَرْعِك، والرِّضَا بِأَمرِك، والانقِيَادَ لِحُكمِكَ، وارْزُقْنَا إِيمَانًا كَامِلًا، ويَقِينًا صادِقًا، وَأَصلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي إِلَيهَا مَعَادُنَا، واجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، واجْعَلِ المَوتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

نسألُ اللهَ أن يجعلنا من عباده المُسَلِّمين، الراضين بقضائه، المطمئنين بحكمه، المتعلِّقين به وحده،

  اللهم قوِّ قلوبنا بالإيمان، واجعل حظنا من دينك الاستسلام.

اللهم إنا نسألك بأحب الأسماء وأحسن الصفات، ندعوك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت، أن تقذف في قلوبنا التسليم والانقياد والخضوع لك ولرسولك، وأن تجعلنا من عبادك الصالحين.

اللهم اجعل شعار حياتنا "سمعنا وأطعنا"، اللهم اجعلنا على درب رسولك سائرين، ولسنته رافعين.

  اللهم انا نسألك أن تهدينا إلى السنن، ونعوذ بك من الفتن.

اللهم اهدنا إلى السنن، وأعذنا من الفتن وارزقنا الاقتداء بنبيك، والاقتداء بسنته، والتمسك بها في هذا الزمن الذي سيطرت فيه الفتن. 

  اللهم ما أحببت من خير فحببه إلينا ويسره لنا، وما كرهت من شر فكرهه إلينا وجنبنا إياه، ولا تنزع منا الإسلام بعد إذ أعطيته لنا يا أرحم الراحمين.

  ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 53].

  ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8].

  اللهم اهدنا بهداك، واجعل عملنا في رضاك يا أكرم الأكرمين.

  اللهم كف عن المسلمين كيد الكفار، ومكر الفجار، وشر الأشرار، وشر طوارق الليل والنهار، يا عزيز، يا غفار.

﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 وصلّى اللهُ على سيِّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

google-playkhamsatmostaqltradent