توقير الكبير من هدي البشير النذير
الحمد لله الذي خلق الإنسان ضعيفاً ثم أمده بالصحة والعافية فكان به حليماً لطيفاً خبيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله بالحق بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراَ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً؛ أما بعد : أيها الإخوة المؤمنون، فإن سنة الله في خلقه اقتضت أن يخرج كل إنسان من الرحم ضعيفاً ثم يكون طفلاً بإذن الله؛ وفي مرحلة الطفولة يكون الطفل محفوفاً برحمة والديه وشدة حرصهم عليه وسهرهم أن لا يصل مكروه إليه؛ ثم يغدو بعد مراحل الطفولة والصبا شاباً يمده الله بالقوة؛ وفي حال الشباب والقوة يكون بعد عون الله معتمداً على قوته وقدرته وإمكاناته، ثم تمر السنون والأعوام فيتدرج به الحال حتى يصير إلى المشيب والكبر والشيخوخة والهرم؛ فيعود إلى الضعف شيئاً فشيئاً حتى يكون شيخاً كبيراً قد شاب شعره وكبر عمره، وضعف بدنه، وقل سمعه وبصره، وتثاقلت حركته، ووهن عظمه ورقّ جلده وصار يعجز عن كثير مما كان يقوم به بنفسه، وقد تضعف ذاكراته حتى لا يعلمَ شيئاً ممن كان يعلم فيَعُودَ مُحْـتَاجًا مَرَّةً أُخْرَى إِلَى المُسَاعَدَةِ وَالعَوْنِ، وَالعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ؛ قال تعالى { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] وقال تعالى (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ) (النحل : ٧٠ )
والإنسان كما يحتاج إلى من يقوم به ويحسن إليه في مرحلة ضعف الطفولة يحتاج كذلك إلى من يعتني به ويحسن إليه في شيبته وشيخوخته.
أيها المسلمون؛ وإن المتأمل في نظرة الإسلام إلى كبار السن؛ لتتبدَّى له حقيقة ثابتة، ألا وهي أن الإسلام - من منطلق الكرامة الإنسانية التي قررها لكل فرد من بني آدم - قد اهتم بالإنسان في جميع مراحل حياته؛ حيث يقول الله - تعالى - ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [الإسراء: 70]،
والإسلام هذا الدين الشامل كما اهتم بالإنسان في طفولته وصغره، ووجه للاعتناء به؛ فكذلك فعل معه حال شيخوخته وكبره، فأمر الإسلام جميع أفراد المجتمع بالاهتمام بهم والاعتناء بشأنهم بل وإلى إكرامهم والإحسان إليهم وذهبَ الإسلامُ في تقديرِ الكبارِ، إلى أبعد من ذلك فعَدَّ تكريمَهم من إجلالِ اللهِ وتعظيمِه، روى أبو داود في سننه بسند صحيح عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله ﷺ " إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ -أَيْ: تَبْجِيله وَتَعْظِيمه - إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ ]- إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ - أَيْ: تَعْظِيمُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ فِي الْإِسْلَام، بِتَوْقِيرِهِ فِي الْمَجَالِس، وَالرِّفْقِ بِهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَنَحْو ذَلِكَ -
ويبيِّن لنا نبيُّنا أنَّ مَن أحسن إلى الكبيرِ في الدنيا هيَّأ الله لذلك المحسِنِ عند كِبَر سنِّه ورقَّةِ عَظمه من يجازيه بهذا العمَلِ الصّالح، فيقول ﷺ (( مَا مِن مسلمٍ يكرِم ذا الشَّيبةِ إلاَّ قيَّض الله له من يكرِمه في سِنِّه)) رواه الترمذي
إن هؤلاء الكبار قضوا أعمارهم وأفنوا شبابهم في تربية أولادهم، وخدمة أوطانهم ومجتمعاتهم، وعبادة ربهم فكانت مراعاتهم عند كبرهم وضعف أجسادهم وقلة حيلهم من باب رد الجميل، ومقابلة الإحسان بالإحسان { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } [ الرحمن:60] فإذا أكرمتَ ذا الكِبَر لسنِّه قيَّض الله لك في حياتِكَ من يجازيك بمثلِ ما عمِلتَ، فيكرمُك ويحسِن إليك.
وكيف لا نجلهم ونوقرهم وهم أفضلنا قال ﷺ " ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعَمّر في الإسلام؛ لتحميده وتسبيحه وتكبيره وتهليله " راوه الإمام أحمد من حديث طلحة رضي الله تعالى عنه
وقال ﷺ " وخير الناس من طال عمره وحسن عمله"، رواه الإمام أحمد من حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه،
وكيف لا نجلهم ونقدرهم وهم بركة المجتمعات، وأهل الخيرات، وأصحاب الخبرات، وذوو الرأي والمشورات، جعل الله الخير معهم، والبركة عندهم، بركة الرأي والمشورة، وبركة المجالسة والمؤانسة، وبركة البر والإحسان، تبحثون عن البركة معاشر الشباب، ورسولكم ﷺ يقول ( الخير في أكابركم) وفي رواية قال ﷺ ( البركة في أكابركم ) رواه ابن حبان.
وكما أمر عليه الصلاة والسلام باحترام الكبار وتوقيرهم، فقد حذر من عدم معرفة حقهم وترك توقيرهم؛ فمن لم يعرف حق الكبير فهو على خطر عظيم؛ روى أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو أن النبي ﷺ قال ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا ) وقال ﷺ " مَن لم يرحم صغيرنا ويعرِفْ حقَّ كبيرنا، فليس منا " [ رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود ]
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء شيخ يريد النبي ﷺ فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال النبي ﷺ ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا)(الترمذي)
وفي رواية يقول الرَسُول ﷺ " لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا" ( رواه أحمد وقال الأرناؤوط حسن لغيره) وفي رواية قال ﷺ ( ليس منا من لم يوقر الكبير، ويرحم الصغير ) [رواه أحمد]
وكان ﷺ يبين لأصحابه مغبّة ظلم كبير السن؛ سواء كان شيخاً كبيراً أو عجوزاً. فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ الله ﷺ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ قَالَ " أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ؟ قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ الله بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ، إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا. قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ الله ﷺ " صَدَقَتْ صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ " [أخرجه ابن ماجه )
أيّها المسلمون، بالعودة لهدي النبي ﷺ تنضبط الأمور وتستقيم الحياة، ويعطي كل ذي حق حقه، فيعم الخير وينتشر الود والحب بين أفراد المجتمع؛ وإنَّ نبيَّنا ﷺ ضرب لنا أروع المثل في احترامه لكبير السن؛ ففي مسند الإمام أحمد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جاء بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله ﷺ يوم الفتح، يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله حتى يسلم بين يديه، فقال رسول الله ﷺ لأبي بكر الذي جاء بأبيه وقد كبرت سنُّه، ووهن عظمه، قال « لو أقْرَرْتَ الشيخَ في بيتِه لأتَيناه » أي لو تركته في مكانه نحن نأتيه، ثم دعاه ﷺ للإسلام فأسلم
ولما أتى الحُصَين ( والد عمران بن الحصين ) إلى رسول الله- وكان شيخاً كبيراً- وكانت قريش تعظِّمه فقالوا له : كلِّم لنا هذا الرجل لعله يسمع منك، فإنَّه يذكر آلهتنا ويسبُّهم، فجاؤوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبي؛ فلما أقبل على النبي ﷺ قال النبي لأصحابه: ( أوسعوا للشيخ ) لكبر سنه، فقال له ما قال ينكر عليه... الحديث ) والشاهد قوله ﷺ أوسعوا للشيخ وما فيه من توقير واحترام وتقدير للحصين لكبر سنه مع انه كان على غير الإسلام.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يتعهَّد امرأة مع ابنتها، فيقوم بحلب شاتهما ليطعمهما، الأم وابنتها تعرفان أن الذي يحلب شاتهما هو أبوبكر، فلما تولى الخلافة قالا: من يحلب لنا الشاة بعد أن تولى الخلافة، فقال - رضي الله عنه " بل لأحلبنها لكم وأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه" أي: لا يغيرني ما تولَّيت من ولاية عظمى عن أن أقوم بشأنكم، وأسير على ما كنت عليه من صالح العمل.
وهذا عمر رضي الله عنه أمير المؤمنين يتعهد عجوزًا عمياءَ في سواد الليل والناس نيام، لكن الله لا ينام، عمر يتعهدها ويقوم بخدمتها وإصلاح الطعام لها ورعايتها، والاهتمام بشؤونها، وهي لا تعرفه، لكن الله يعرفه.
وفي كتاب ( الخراج ) لأبي يوسف القاضي " أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه مر بباب قوم وعليه سائل يسأل شيخ كبير ضرير البصر فضرب عضده من خلفه فقال: من أي أهل الكتب أنت؟ قال يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الحاجة، والسن؛ قال : فأخذ عمر - بيده، فذهب به إلى بيته، فأعطاه بعض ما عنده، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وأمثاله، والله ما أنصفناه إذا أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم! {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ...} [التوبة:60]، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضَع عنه الجزية وعن أمثاله ومَن هُم في سِنه في جميع البلاد الإسلامية؛ ألا فلتسمع الدنيا ولتسمع بخالد بن الوليد عندما صالح أهل الحيرة وجاء في صلحه معهم أنه قال: "وجعلت لهم أيّما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته، وعِيل من بيت مال المسلمين"
أيها المسلمون؛ إنّ احترام الكبير وتوقيره دين وخُلق وليس مجرَّدَ تقاليد جميلة، أو أعراف أو عادات يتعودها الإنسان في مجتمعه؛ وإنما هي سلوكيات راقية نُؤَدِّيها عن طِيبِ خاطرٍ، ورضا نفسٍ، التماسا للأجْرٍ، وابتغاء للثواب، وطلبا لرضا الله تعالى.. وهي من مفاخر هذا الدين العظيم، فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله وكفي وصلاة وسلاما علي عباده الذين اصطفى وبعد؛ فيا أيها المسلمون، لقد جاءت شريعة الإسلام رحمة للبشرية، ومن صور هذه الرحمة أن الله عز وجل خص كبار السن ببعض الأحكام؛ رحمةً بهم وإشفاقًا عليهم، مراعاةً لحالتهم الصحية والبدنية، من ذلك :
أنه أمر بتخفيف الصلاة مراعاة لكبار السن والمرضى، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال " إذا صلى أحدكم للناس فليخفِّف، فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطوِّل ما شاء"
وأمر باعتبار هذا السن الكبير والالتفات إليه وعدم تجاهله حال حضورهم العبادات، فإذا تساوى الأئمة في حفظهم لكتاب الله، يصلي بهم الأكبر سنًّا، لِقَوْلِهِ ﷺ " إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ: فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ"(رواه البخاري) أَيْ: أَكْبَرُكُمْ سِنًّا، وَذَلِكَ عِنْدَ تَسَاوِيْهِمْ في شُرُوطِ الإِمَامَة.
وجعل لهم الرخص والمعاذير، فمن لم يقدر على الصلاة قائماً صلى قاعداً، ومن ضعف عن الصيام وضع عنه الصيام وأمره بالإطعام، حين عجزه، والإطعام عن كل يوم مسكيناً أخذاً بقول الله تعالى : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184].
ومن كتب عليه الحج ولم يتحمل بدنه شرع له أن ينيب من يحج عنه؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأةٌ من خثعم عام حجة الوداع قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: ((نعم)) رواه البخاري.
ومن أحكام كبار السن أنه أمر أن يُبدأ بتقديم الشرب للأكابر، ففي الحديث أن رسول الله ﷺ كان إذا سُقي قال (( ابدؤوا بالكبراء ))، أو قال: (( بالأكابر )).
ومرةً جاءه عيينة بن حصن وعنده أبو بكر وعمر وهم جلوس على الأرض، فدعا لعيينة بوسادة وأجلسه عليها، وقال: ((إذا أتاكم كبير قوم فأكرموه)).
وفي السقاية يقدم الأكبر، فعن ابن عباس، قال " كان رسول الله ﷺ إذا سقى قال: ابدؤوا بالكبير. [ مسند أبي يعلى الموصلي ] وذكره ابن حجر في الفتح.
حتى في السلام الصغير يبدأ بالسلام على الكبير، روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ " يُسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير"
ومن أحكام كبار السن أن الشريعة نهت عن قتل كبير السن من العدو الكافر حال الجهاد، فقد كان رسول الله ﷺ يوصي أصحابه عند بعث السرايا والجيوش في الغزوات أن لا يقتلوا صغيرًا ولا امرأةً ولا شيخاً كبيرًا، روى الطبراني عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان رسول الله ﷺ إذا بعث جيشًا أو سريةً دعا صاحبهم فأمره بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً ثم قال (( اغزوا بسم الله وفي سبيل الله، لا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً ولا شيخاً كبيراً)).
فما أعظم هذا الدين الذي يراعي الحقوق!! ومع كل هذا الذي ذكرناه أصبح وللأسف كبير السن اليوم غريبًا حتى بين أهلِه وأولاده، إلا من رحم الله، ثقيلاً حتى على أقربائه وأصدقائه، لا يجالسه أحد! هذا إن كان معافًى فكيف بغير ذلك؟! نرى عدداً من صغارنا لا يُوقّرُ كبار السن؛ إذا تكلم قاطعه، وإذا أبدى رأيه سفَّهه فأصبحت حكمته وخبرته في الحياة إلى ضياع وخسران...
أيها الأحبة : كبارُنا خيارنا، أهل الفضل والحلم، هم قدوتنا وأئمتُنا إلى الطاعة والبر، هم خبرات تنتظر من يستفيد منها، ويوظّفها لصالح العباد والبلاد بدلاً من إضاعتها سدًى؛ وقد جعل الله لهم حقاً على المجتمع إذا احتاجوا أن يعينهم، وإذا افتقروا أن ينفق عليهم، فلا يهملهم ويتركهم لعوادي الزمن، وإنما كما خدموا في شبابهم يخدموا في هرمهم، وكما قدموا للمجتمع في قوتهم يحملهم المجتمع في حال ضعفهم وعجزهم، حتى وإن كانوا غير مسلمين؛ فاتقوا الله وأحسنوا لكبار السن، لا سيما الوالدين فإن الله أمر الأولاد بأن يحسنوا إلي والديهم في كبرهم كما أنهم سبق وأحسنوا هم إليهم في صغرهم، قال تعالى { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [ الإسراء: 22، 23]
وأمرهم بحسن صحبتهم وإن سعوا في كفرهم وعملوا على إضلالهم، فقال سبحانه: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًاۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ لقمان:14، 15] اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت؛ اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر؛ وأقم الصلاة.