recent
أخبار عاجلة

خطبة الجمعة توقير كبار السن وإكرامهم الشيخ أحمد أبو اسلام

توقيركبارالسن وإكرامهم



إنَّ من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم
رأي الكبار مقدم على رأي الصغار
ما ينبغي فعله مع الكبار
أعلى درجات الوجوب مع الوالدين

الحمدُ لِلَّهِ الَّذي أَنْعَمَ عَلَيْنا بِالإِسْلامِ، وَجَعَلَ الإِحْسانَ إِلى الكَبِيرِ مِنْ دَلائِلِ الإِيمانِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي إِلى البِرِّ وَالإِحْسانِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَن تَبِعَهُمْ بِإِحْسانٍ إِلى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ ـ جَلَّ وَعَلَا ـ فَإِنَّهَا وَصِيَّةُ اللَّهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قالَ تَعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النِّساءِ: 131].
إنَّ من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم

أيُّهَا الأَحِبَّةُ فِي اللهِ
= قَدْ خَصَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بَعْضًا مِنْ عِبَادِهِ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ، وَجَعَلَ لَهُمْ حُقُوقًا يَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى مَعَهُمْ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ"، أَيْ: إِنَّ مِنْ تَبْجِيلِ اللهِ وَتَعْظِيمِهِ وَأَدَاءِ حَقِّهِ، "إِكْرَامَ"، أَيْ: تَعْظِيمَ وَتَوْقِيرَ، "ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ"، أَيْ: الشَّيْخِ الكَبِيرِ فِي السِّنِّ.
وَانْظُرُوا إِلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ وَدَخَلَ المَسْجِدَ، أَتَى أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ يَقُودُهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ: "هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ؟
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إِلَيْهِ، فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَسْلِمْ" فَأَسْلَمَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ).
= فَكِبَارُ السِّنِّ الصَّالِحُونَ هُمْ خَيْرُ النَّاسِ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ»؛ [صَحِيحُ الجَامِعِ/ 3297].
فَحُسْنُ العَمَلِ مَعَ طُولِ العُمُرِ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي يُغْبَطُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا، بِعَكْسِ سُوءِ العَمَلِ مَعَ طُولِ العُمُرِ؛ فَهِيَ مِمَّا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ.
وَقَدْ جَعَلَ الإِسْلَامُ الشَّيْبَ نُورًا وَوَقَارًا وَثَوَابًا وَأَجْرًا كَبِيرًا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ القِيَامَةِ) [رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ]، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الإِسْلَامِ إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً) [أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ].
= وَكِبَارُ السِّنِّ الصَّالِحُونَ خَيْرُ النَّاسِ فَقَدْ دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مَرَّةً الْمَسْجِدَ، فَوَجَدَ فِي الْمَسْجِدِ رَجُلًا كَبِيرَ السِّنِّ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا فُلَانُ، تُحِبُّ أَنْ تَمُوتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: ذَهَبَ الشَّبَابُ وَشَرُّهُ، وَجَاءَ الْكِبَرُ وَخَيْرُهُ، فَأَنَا إِذَا قُمْتُ قُلْتُ: بِسْمِ اللهِ، وَإِذَا قَعَدْتُ قُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يَبْقَى لِي هَذَا.
رأي الكبار مقدم على رأي الصغار
====================
وَكِبَارُ السِّنِّ هُمْ أَهْلُ التَّجْرِبَةِ وَالْخِبْرَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، دَرَّبَتْهُمُ الْمَوَاقِفُ، وَأَنْضَجَتْهُمُ الْأَحْدَاثُ، فَفِي صُحْبَتِهِمْ بَرَكَةٌ، وَلَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْخَيْرُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ»، وَفِي رِوَايَةٍ «الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ». قَالَ الْمَنَاوِيُّ: فَجَالِسُوهُمْ لِتَقْتَدُوا بِرَأْيِهِمْ، وَتَهْتَدُوا بِهَدْيِهِمْ.
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ
لَقَدْ عَلَّمَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآدَابَ كَمَا عَلَّمَنَا أَحْكَامَ الدِّينِ، وَطَبَّقَ ذَلِكَ فِي مَوَاقِفِ الْحَيَاةِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ عَاصَرُوهُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
قصة
====
يَرْوي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَسَهْلُ بْنُ أبي حَثْمَةَ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ عبدَ الله بنَ سَهْلٍ ومُحَيِّصَةَ بنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهما ذَهَبَا إلى خَيْبَرَ في حاجةٍ لهما، وخَيبَرُ: قَرْيةٌ كَبيرةٌ كان يَسكُنُها اليَهودُ، وكانت ذاتَ حُصونٍ ومَزارِعَ، على بُعدِ 173 كيلومترًا تَقْريبًا مِن المَدينةِ إلى جِهةِ الشَّامِ، فتفرَّقَا -أي: عبدُ اللهِ بنُ سَهْلٍ ومُحَيِّصَةُ- في النَّخْلِ، فقُتِل عبدُ اللهِ بنُ سَهْلٍ، فوَجَده مُحَيِّصَةُ في عَيْنِ ماءٍ مَطْروحًا قد كُسِرت عُنُقُه وهو يَتَشَحَّطُ في دَمِه، فجاء عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ سَهْلٍ أَخُو عبدِ اللهِ المقتولِ، وحُوَيِّصَةُ وأخُوه مُحَيِّصَةُ ابنَا مَسْعُودٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَكلَّموا -أي الثَّلاثةُ- في أمرِ صاحبِهم عبدِ اللهِ المَقتولِ، فبَدَأ عبدُ الرَّحْمَنِ أخو القتيلِ بالكلامِ، وكان أصغرَ القومِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُعلِّمًا له: «كَبِّرِ الكُبْرَ»، أي: قَدِّمِ الأكبرَ سِنًّا فلْيَتكلَّمْ هو؛ إرشادًا إلى الأدَبِ في تقديمِ الأسَنِّ، وذلك لِيَتكلَّموا في تَحقيقِ صُورةِ القصَّةِ وكَيفيَّتِها، فتَكلَّموا فيما وقع لصاحِبِهم من القَتلِ في خيبرَ دونَ معرفةِ القاتِلِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَتستحِقُّون قَتِيلَكم»، أي: تأخُذون دِيَتَه، «أو قال: صاحِبَكم» الشَّكُّ من أحدِ رُواة الحديثِ، «بِأَيْمَانِ خمسين» رجُلًا «منكم؟» يحلِفون أنَّ فلانًا قتَلَه، فيُحَدِّدونه شخصًا إن كانوا متأكِّدين من ذلك، قالوا: «يا رسولَ الله، أْمرٌ لم نَرَهُ» فكيف نَحلِفُ عليه؟ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فَتُبْرِئُكُمْ»، أي: تُخَلِّصُكم «يَهُودُ» خيبرَ مِن اليَمِين «في أَيْمَانِ خَمْسين» رجلًا «منهم» فيَحلِفون أنَّهم لا يَعلَمونَ القاتِلَ، وتَبْرَأُ إليكم مِن دَعْواكم؟ قالوا: «يا رسولَ الله، قومٌ كُفَّارٌ» فكيف نَأخُذُ بأَيْمَانِهم؟ والحاصلُ: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَدَأ بالمُدَّعِينَ في الأَيْمَانِ، فلمَّا نَكَلُوا رَدَّها على المُدَّعَى عليهم، فلمْ يَرْضَوْا بأَيْمَانِهم، «فوَدَاهُم»، أي: أعطاهُم رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دِيَتَه مِن عندِه، أو مِن بَيْتِ المالِ.
وفي الحَديثِ: إكرامُ الكَبيرِ، وابتداءُ الأكْبرِ بالكلامِ والسُّؤالِ.
وفيه: فضيلةُ السِّنِّ عند التساوي في الفَضائِلِ.
وفيه: مُرَاعَاةُ الإمامِ للمَصالِحِ العامَّةِ، والاهتمامُ بإصلاحِ ذاتِ البَينِ، وقطْعُ النِّزاعِ بيْن المُتنازِعين وجَبْر خَواطرِهم.
فالكبير مقدم في الكلام والمكان وفي كل شيء
فعن ابن عمرَ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَرَانِي فِي الْمَنَامِ أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَذَبَنِي رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الْأَصْغَرَ مِنْهُمَا ‌فَقِيلَ ‌لِي: ‌كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الْأَكْبَرِ) (رواه مسلم).
ــ فلا بد من إِنْزَالُ الكَبِيرِ مَنْزِلَتَهُ اللَّائِقَةَ بِهِ : رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ شِهَابِ بْنِ عَبَّادٍ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ وَفْدِ عَبْدِ القَيْسِ وَهُمْ يَقُولُونَ: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاشْتَدَّ فَرَحُهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى القَوْمِ أَوْسَعُوا لَنَا فَقَعَدْنَا، فَرَحَّبَ بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَانَا، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: مَنْ سَيِّدُكُمْ وَزَعِيمُكُمْ؟ فَأَشَرْنَا جَمِيعًا إِلَى المُنْذِرِ بْنِ عَائِذٍ.. فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ المُنْذِرُ أَوْسَعَ القَوْمُ لَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَقَعَدَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَحَّبَ بِهِ وَأَلْطَفَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ بِلادِهِمْ..".
وَهَذَا غَيْضٌ مِنْ فَيْضٍ، وَبَعْدُ، فَإِنَّ تَوْقِيرَ الكَبِيرِ ذُو الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ سِمَةٌ مِنْ سِمَاتِ المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ.
ما ينبغي فعله مع الكبار
===============
وَهُنَا أُذَكِّرُكُمْ بِبَعْضِ الْمُمَارَسَاتِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي يَنْبَغِي الْأَخْذُ بِهَا تِجَاهَ كَبِيرِ السِّنِّ بِشَكْلٍ مُخْتَصَرٍ:
أَوَّلًا: بَدْؤُهُ بِإِلْقَاءِ التَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ …»؛ [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
ثَانِيًا: تُقَدِّمُهُ عِنْدَمَا تَمْشِي مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَعِنْدَ الدُّخُولِ لِلْبَيْتِ، وَلَا تَسْبِقُهُ بِالْجُلُوسِ وَتُقَدِّمُهُ فِي مُقَدِّمَةِ الْمَجْلِسِ، وَلَا تَسْبِقُهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَعِنْدَ التَّحَدُّثِ لَا تُقَاطِعُهُ بَلْ تَسْتَمِعُ لِحَدِيثِهِ بِأَدَبٍ، فَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامًا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ، فَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّ هَا هُنَا رِجَالًا هُمْ أَسَنُّ مِنِّي"؛ [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
ثَالِثًا: مِنَ التَّوْقِيرِ لِلْكَبِيرِ وَاحْتِرَامِهِ عَدَمُ الْأَكْلِ قَبْلَهُ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي يَجْمَعُكَ مَعَهُ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ.
رَابِعًا: مُخَاطَبَتُهُ بِالْعِبَارَاتِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي تُنَبِّئُ عَنْ احْتِرَامِكَ لَهُ، وَسُؤَالُكَ لَهُ عَنْ صِحَّتِهِ بِلُطْفٍ وَلَبَاقَةٍ، وَتَسْتَشِيرُهُ فِيمَا أَرَدْتَ مِنْ أُمُورِكَ، فَذَاكَ يُشْعِرُهُ بِمَكَانَتِهِ وَأَهَمِّيَّتِهِ.
خَامِسًا: الْقِيَامُ بِخِدْمَتِهِ مَا أَمْكَنَكَ ذَلِكَ، مَعَ الدُّعَاءِ لَهُ بِطُولِ الْعُمُرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ.. وَهَذَا يَشْمَلُ كَبِيرَ السِّنِّ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ.
سَادِسًا: وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ عِبَادَتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَهُوَ الشَّكُورُ قَدْ شَكَرَ لَهُمْ مَا قَدَّمُوهُ فِي سَالِفِ الْأَعْمَارِ، فَلَمَّا كَبِرَتْ أَسْنَانُهُمْ، وَضَعُفَتْ أَبْدَانُهُمْ يُسِّرَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ لَهُمُ الرُّخَصَ وَالْمَعَاذِيرَ، فَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّلَاةِ قَائِمًا صَلَّى قَاعِدًا، وَمَنْ ضَعُفَ عَنِ الصِّيَامِ وُضِعَ عَنْهُ الصِّيَامُ وَأُمِرَ بِالْإِطْعَامِ، وَمَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلَمْ يَتَحَمَّلْ بَدَنُهُ شُرِعَ لَهُ أَنْ يُنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ. وَأَمَرَ بِاعْتِبَارِ هَذَا السِّنِّ الْكَبِيرِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ وَعَدَمِ تَجَاهُلِهِ حَالَ حُضُورِهِمُ الْعِبَادَاتِ، فَقَالَ: (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ، وَالسَّقِيمَ، وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ، فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ)[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
أعلى درجات الوجوب مع الوالدين
=====================
ويزداد الأمر إلى أعلى درجات الوجوب في حق الوالدين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].
واسمع ما كان يقوله أبو هريرة -رضي الله عنه- لأُمِّه، إذا أراد الخروج من البيت، كان يقف على الباب ويقول لأُمِّه: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا بني ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتِني صغيرًا، فتقول: رحمك الله كما بررْتَني كبيرًا، وإذا أراد أن يدخل صنع مثله؛ [التبصرة لابن الجوزي].
فَحِفْظُ حَقِّ الكَبِيرِ ضَرُورِيٌّ، وَرِعَايَتُهُ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا؟ وَكَيْفَ إِذَا كَانَ جَارًا؟ وَكَيْفَ إِذَا كَانَ قَرِيبًا؟ وَكَيْفَ إِذَا كَانَ أَبًا وَأُمًّا؟
بَلْ يُصْبِحُ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ، وَأَجَلِّ الْوَسَائِلِ لِلْفَوْزِ فِي الدَّارَيْنِ، وَتَفْرِيجِ الْكُرُوبِ، وَتَيْسِيرِ الْأُمُورِ، كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ قِصَّةُ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَتَوَسَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِ، فَكَانَتْ وَسِيلَةُ أَحَدِهِمْ قِيَامَهُ بِهَذَا الْحَقِّ الْعَظِيمِ، حَقِّ أَبَوَيْهِ الشَّيْخَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ، وَرِعَايَتِهِ حُقُوقَهُمَا، مَا أَدَّى إِلَى نَيْلِ مَطْلَبِهِ، حَيْثُ قَالَ فِي تَوَسُّلِهِ:
«اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أَرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدِي، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا، حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ».
وَعَلَى النَّقِيضِ يُحْكَى أَنَّ اِمْرَأَةً عَجُوزًا ذَهَبَ بِهَا ابْنُهَا إِلَى الْوَادِي عِنْدَ الذِّئَابِ يُرِيدُ الِانْتِقَامَ مِنْهَا، وَتَسْمَعُ الْمَرْأَةُ أَصْوَاتَ الذِّئَابِ، فَلَمَّا رَجَعَ الِابْنُ نَدِمَ عَلَى فِعْلَتِهِ، فَرَجَعَ وَتَنَكَّرَ فِي هَيْئَةٍ حَتَّى لَا تَعْرِفَهُ أُمُّهُ، فَغَيَّرَ صَوْتَهُ وَغَيَّرَ هَيْئَتَهُ، فَاقْتَرَبَ مِنْهَا.
قَالَتْ لَهُ: يَا أَخَا، لَوْ سَمَحْتَ هُنَاكَ وَلَدِي ذَهَبَ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ، اِنْتَبِهْ عَلَيْهِ لَا تَأْكُلْهُ الذِّئَابُ.
يَا سُبْحَانَ اللهِ... يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَهَا وَهِيَ تَرْحَمُهُ، وَلَكِنْ هَكَذَا تَصْنَعُ الذُّنُوبُ، وَهَكَذَا يَصْنَعُ الْعُقُوقُ بِالْأُمَّهَاتِ.
أَعَقِّ النَّاسِ وَأَبَرِّهِمْ":
===========
يَرْوِي الأَصْمَعِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ خَرَجَ يَبْحَثُ عَنْ أَعَقِّ النَّاسِ (أَيْ أَشَدِّهِمْ عُقُوقًا لِوَالِدَيْهِ) وَأَبَرِّ النَّاسِ (أَعْظَمِهِمْ بِرًّا بِوَالِدَيْهِ). وَأَخَذَ يَتَنَقَّلُ بَيْنَ الْقَبَائِلِ حَتَّى شَاهَدَ صُورَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ تَمَامًا:
أَوَّلًا: أَعَقُّ النَّاسِ
رَأَى شَيْخًا كَبِيرًا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فِي عُنُقِهِ حَبْلٌ يَجُرُّهُ لِيَسْتَقِيَ دَلْوًا كَبِيرًا تَعْجِزُ عَنْهُ الإِبِلُ، وَخَلْفَهُ شَابٌّ يَضْرِبُهُ بِحَبْلٍ غَلِيظٍ حَتَّى شَقَّ ظَهْرَهُ.
فَاسْتَنْكَرَ الأَعْرَابِيُّ وَقَالَ لِلشَّابِّ:
أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذَا الشَّيْخِ الضَّعِيفِ؟
أَلَا يَكْفِيهِ أَنَّهُ يَجُرُّ الْحَبْلَ حَتَّى تَزِيدَ عَلَيْهِ الضَّرْبَ؟
فَقَالَ الشَّابُّ:
"إِنَّهُ مَعَ هَذَا أَبِي".
فَزَادَ اسْتِنْكَارُ الرَّجُلِ وَقَالَ:
أَفَعَلْتَ هَذَا بِأَبِيكَ؟ لَا جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا!
فَرَدَّ الشَّابُّ:
"اُسْكُتْ، فَهَكَذَا كَانَ هُوَ يَصْنَعُ بِأَبِيهِ، وَكَذَا كَانَ أَبُوهُ بِجَدِّهِ".
أَي إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ يَعُقُّ وَالِدَهُ، فَجَاءَ الِابْنُ يُقَلِّدُ مَا فَعَلَهُ بِهِ وَالِدُهُ مِنْ قَبْلُ.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: هَذَا أَعَقُّ النَّاسِ.
الْمَعْنَى:
هَذِهِ أَسْوَأُ صُورَةٍ لِلْعُقُوقِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ يُعَامِلُ أَبَاهُ بِهَذِهِ الْقَسْوَةِ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ الأَبَ فَعَلَ مِثْلَهَا مَعَ أَبِيهِ سَابِقًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُقُوقَ عَادَةٌ سَيِّئَةٌ تُوَرَّثُ بَيْنَ الأَجْيَالِ.
ثَانِيًا: أَبَرُّ النَّاسِ
ثُمَّ رَأَى شَابًّا آخَرَ يَحْمِلُ عَلَى رَقَبَتِهِ سَلَّةً (زُنْبِيلًا) فِيهَا شَيْخٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، كَأَنَّهُ طَائِرٌ صَغِيرٌ مِنْ شِدَّةِ الْهُزَالِ. وَكَانَ الشَّابُّ يُنْزِلُهُ كُلَّ قَلِيلٍ وَيُطْعِمُهُ بِيَدِهِ كَمَا يُطْعِمُ الطَّائِرُ فِرَاخَهُ.
فَسَأَلَهُ:
مَا هَذَا؟
فَقَالَ الشَّابُّ:
"هَذَا أَبِي، وَقَدْ خَرِفَ (أَي ضَعُفَ عَقْلُهُ)، وَأَنَا أَكْفُلُهُ وَأَخْدِمُهُ".
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: هَذَا أَبَرُّ النَّاسِ.
الْمَعْنَى:
هَذِهِ أَرْقَى صُوَرِ الْبِرِّ؛ شَابٌّ قَوِيٌّ يَحْمِلُ أَبَاهُ الضَّعِيفَ وَيُطْعِمُهُ وَيَرْعَاهُ كَمَا كَانَ الأَبُ يَفْعَلُ لَهُ صَغِيرًا.
رعاية كبار السن واجب أخلاقي وديني
=========================
= فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واعلموا أنَّ رعاية كبار السن ليست خيارًا نأخذ به متى شئنا، ونتركه متى شئنا، بل إنه واجب ديني وأخلاقي، وجزءٌ لا يتجزَّأ من تعاليم ديننا الحنيف، وويل لمن تساهل بشيء من ذلك، فلقد جاء عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «ليس منَّا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا»؛ [رواه أبو داود].
=إذاً فكبير السن في المجتمع المسلم يعيش في كنف أفراده ، ويجد له معاملة خاصة تتميز عن الآخرين ، ولم تقتصر هذه الرعاية على المسن المسلم ، بل امتدت يد الرعاية لتشمل غير المسلم طالما أنه يعيش بين ظهراني المسلمين.
فها هي كتب التاريخ تسطر بأحرف ساطعة موقف عمر - رضي الله عنه- مع ذلك الشيخ اليهودي الكبير ، فيذكر أبو يوسف يف كتابه " الخراج "، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- مر بباب قوم وعليه سائل يسأل ، شيخ كبير ضرير البصر ، فضرب عضده من خلفه فقال : من أيّ أهل الكتب أنت ؟ قال : يهودي. قال : فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال : أسأل الجزية والحاجة والسن . قال: فأخذ عمر - رضي الله عنه - بيده فذهب به إلى منزله، فرضخ له - أي أعطاه- من المنزل بشيء ثمَّ أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه ، فوالله ما أنصفناه إذا أكلنا شبيبته ثمَّ نخذله عند الهرم: (( إنما الصدقات للفقراء والمساكين )) فالفقراء هم المسلمون والمساكين من أهل الكتاب ، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه )).
= وإضافة لتلك الرعاية الخاصة يمكننا: أن نلمس صوراً من الرعاية العامة لكبار السن ، وذلك حينما تعجز الأسر عن تقديم الرعاية اللازمة للمسن ، أو حينما لا يكون هناك ثمة راعٍ أو معين لذلك المسن ، فلقد برز في المجتمع المسلم ما يسمى ( بالأربطة ) وهي أماكن تُهيَّأ وتُعد لسكنى المحتاجين، وأصبح بعضها ملاجئ مستديمة لكبار السن، فالأصل هو رعاية المسن في أسرته فهو قربة لله عز وجل ثمَّ الفرع وهو ظهور هذه المؤسسات الاجتماعية مثل: الأربطة، والأوقاف، والدور الاجتماعية، وهي في نبعها جهود شعبية من أفراد المجتمع المسلم، ثمَّ دخلت الدولة في تنظيمها والإشراف عليها.
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَعَاشِرَ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ فِي آبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ بُلُوغِهِمُ الْكِبَرَ، أَحْسِنُوا صُحْبَتَهُمْ، وَسَارِعُوا فِي مَرْضَاتِهِمْ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ، وَأَبْشِرُوا بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيَا أَيُّهَا الشَّبَابُ تَخَلَّقُوا بِهَذَا الْخُلُقِ الْجَمِيلِ، وَهُوَ إِجْلَالُ الْمُسِنِّينَ وَاحْتِرَامُهُمْ وَرَحْمَتُهُمْ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَأَعِينُوهُمْ عِنْدَ قَطْعِ الطَّرِيقِ أَوْ حَمْلِ الْمَتَاعِ، وَبِإِيثَارِهِمْ بِالْمَقَاعِدِ فِي أَمَاكِنِ الِانْتِظَارِ فِي صَالَاتِ الْمَطَارِ أَوِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَزِيدُكُمْ إِلَّا رِفْعَةً وَسُمُوًّا.
وَمَنْ كَانَ لَهُ كَبِيرٌ يَرْعَاهُ فِي كِبَرِهِ وَمَرَضِهِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِيهِ، وَلْيَحْتَسِبِ الْأَجْرَ فِي الرِّفْقِ بِهِ، وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى رِعَايَتِهِ، فَذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ الْعَظِيمِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

google-playkhamsatmostaqltradent