هلّا شققتَ عن قلبه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره
ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
أيها الإخوة في الله،
حديثنا اليوم يدور حول درس عظيم، وخطب
جليل، تعلّمه الصحابة من معلم البشرية صلى الله عليه وسلم. إنه درس
"النية" و"حسن الظن"، الذي تجسّد في موقف لا يحتمل المجاملة.
القصة المؤيدة:
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال:
بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرَقَة، فصبّحنا القوم فهزمناهم. قال
أسامة: "فلحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا
الله. فكف الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته". يشعر أسامة بثقل ما فعل في
نفسه. وعندما يبلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول له: "يا أسامة،
أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟". يعتذر أسامة قائلاً: "يا رسول
الله، إنما كان متعوذاً، إنما قالها خوفاً من السلاح".
فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم
بتلك الكلمات التي تهز القلب: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم
لا؟". يكرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام على أسامة حتى يتمنى أسامة
ألا يكون أسلم قبل ذلك اليوم، من شدة ما وجد من الألم والندم .
الدروس والعبر:
· الحكم بالظاهر: الموقف يؤصل قاعدة
عظيمة، وهي أن الأحكام في الدنيا تُبنى على الظاهر، أما السرائر والقلوب فالله
يتولاها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقف آخر: "إني لم أومر أن
أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم" .
· اجتناب سوء الظن: هذا الموقف النبوي هو
تطبيق عملي للآية الكريمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
فسوء الظن بالآخرين يحزن الأفئدة،
ويفسد الفرح، ويطفئ الابتسامة، ويفرق بين الأحبة .
· التماس الأعذار: من أخلاق المؤمنين أن
يلتمسوا لأخوانهم الأعذار. يقول سعيد بن المسيب: "ضع أمر أخيك على أحسنه، ما
لم يأتك ما يغلبك" .
ويقول جعفر بن محمد: "إذا بلغك عن
أخيك الشيء تنكره، فالتمس له عذرا واحدا إلى سبعين عذرا" .
التطبيق في حياتنا:
أفلا شققت عن قلب أخيك حين تأخر في
زيارتك؟ لعله كان مشغولاً في معاشه، أو طريحاً على فراشه .
أفلا شققت عن قلب صاحبك حين قال كلمة
آلمتك؟لعله كان يمازح، أو كان يقصد النصيحة فخانته العبارة .
أفلا شققت عن قلب زوجتك حين قصرت في
حقك
لعل ذلك كان أثر التعب والجهد، أو
غضباً عابراً تذهب روحه وتبقى حسرته .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على
توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
أيها المؤمنون، لقد علّمنا النبي صلى
الله عليه وسلم في هذا الموقف أن نعامل الناس بما يظهرون من خير، وأن نكل نياتهم
إلى عالمها. وهو صلى الله عليه وسلم، وإن كان يعلم بالوحي ما في قلوب المنافقين،
كان يجري عليهم أحكام المسلمين في الظاهر، ولا يحكم بتكفير أحد قال "لا إله
إلا الله" بلسانه .
موقف نبوي آخر:
جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: "إن امرأتي ولدت غلاماً أسود"، فأراد أن ينفيها.
فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك من إبل؟" قال: نعم. قال:
"فما ألوانها؟" قال: حمر. قال: "هل فيها من أورق؟" قال: نعم.
قال: "فأنى لها ذلك؟" قال: عسى أن يكون نزعه عرق. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق" . إنه حسن الظن حتى في أحلك
المواقف.
خاتمة وتوصية:
أحسنوا الظن بإخوانكم، تذهب عنكم
الشكوك، وتحلوا حياتكم بالسعادة والطمأنينة. واذكروا دائماً أن {اللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [السجدة:
28]. فمن أظهر لنا خيراً قبلناه وقرّبناه، وليس لنا من سريرته شيء، والله يحاسبه
على سريرته .
اللهم فهمنا سنن نبيك
وارزقنا اتباع هديه في كل قول وعمل...