هلَّا شقَقْتَ عن قَلْبِه؟
الأمر بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر .
إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث .
حسن الظن بالآخرين سلامة وراحة للقلب .
الحمدُ للهِ الكريمِ المنانِ، باسطِ يديه إلى خلقِه بالإحسانِ،
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا
مُحمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، فاللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ عليه وعلى آلِه وصحبِه
أجمعينَ، وعلى من تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ . . أما بعد :
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه
قال: " بعثَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى
اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ سريَّةً إلى الحُرقاتِ فنَذروا بنا فَهَربوا فأدرَكْنا
رجلًا فلمَّا غشيناهُ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فضَربناهُ حتَّى قتلناهُ
فذَكَرتُهُ للنَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ: من لَكَ بِ ( لا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ يومَ القيامةِ فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّما قالَها مَخافةَ
السِّلاحِ. قالَ: أفلا شقَقتَ عن قلبِهِ حتَّى تعلمَ مِن أجلِ ذلِكَ قالَها أم لا؟
مَن لَكَ بلا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يومَ القيامةِ؟ فما زالَ يقولُها حتَّى وَدِدْتُ
أنِّي لم أُسلِم إلَّا يومئذٍ " ، أخرجه أبو داود (2643) واللفظ له، وأخرجه
البخاري (4269)، ومسلم (96) باختلاف يسير .
في رواية لمسلم: قال أسامة رضي الله
عنه: (قلتُ يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققتَ عن قلبه
حتى تعلم أقالها أم لا، فمازال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ). وفي رواية
ذكرها ابن القيم في زاد المعاد: (أفلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أمْ كاذب؟).
وفي رواية لأبي داود وصححها الألباني: (أفلا شقَقتَ عن قلبه حتَّى تعلم من أجل ذلك
قالها أم لا؟).
هذا الحديث والموقف النبوي مع أسامة بن
زيد رضي الله عنه فيه: دلالة واضحة على وجوب الحكم بالظاهر, والتحذير الشديد من
تجاوز الظاهر إلى السرائر، والحكم على ما في القلوب دون بينة ودليل .
قال الخطابي: "فيه من الفقه أنَّ
الكافر إذا تكلَّم بالشهادة وإن لم يصف الإيمان وَجَبَ الكَفُّ عنه والوقوف عن
قتله سواء أكان بعد القدرة أم قبلها".
وقال ابن حجر: "وفيه دليل على
ترتُّب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة".
وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه في قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله، وذلك لما
قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم ذهيبة (قطعة ذهب صغيرة) ـ بعث بها علي بن أبي طالب
رضي الله عنه من اليمن ـ على المؤلفة قلوبهم، فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه:
(.. وكم من مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم).
قال النووي: "معناه إني أمرت
بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر".
وقال ابن حجر: "كلهم أجمعوا على
أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر"،
وقال الشوكاني: "(لم أومر أن أنقب
عن قلوب الناس) فإن ذلك يدل على قبول ظاهر التوبة وعصمة من يصلي، فإذا كان الزنديق
قد أظهر التوبة وفعل أفعال الإسلام كان معصوم الدم".
وعن عبيد الله بن عدي رضي الله عنه
قال: (إن رجلًا سارَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلمه سراً)، فلم ندْرِ ما
سارَّه به حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يستأمر في قتل رجل من
المنافقين، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أليس يشهد أن لا إله إلا
الله؟ قال الأنصاري: بلي يا رسول الله، ولا شهادة له، قال: أليس يشهد أن محمداً
رسول الله؟ قال بلي ولا شهادة له، قال: أليس يصلي؟ قال بلى ولا صلاة له، قال:
أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم) رواه أحمد وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله
رجال الصحيح.
كل هذه المواقف والأمثلة من السيرة
النبوية تبين بجلاء أنه ينبغي على المسلم أن يعامل الناس بما يظهر من أقوالهم
وأفعالهم، ويترك سريرتهم إلى الله تعالى، وأن المعاملات والأحكام الفقهية
والقضائية في هذه الدنيا تجري على مقتضى شرائع الإسلام الموضوعة للعباد وعلى ما
يظهر منهم من أفعالهم وأقوالهم, دون إيغال في النيات، أو تحسس في المقاصد، وقد قال
صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أمْ
لا.. ). وأما في الآخرة فالآثار والنتائج للأفعال تتجاوز الظواهر إلى السرائر
والضمائر والنيات، لأن الله تعالى هو الذي يتولاها بنفسه، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى،
قال الله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ
وَأَخْفَى}(طه:7) .
المسلم مأمور بأن يحسن الظن
بإخوانه، وأن يحمل ما يصدر عنهم من قول أو فعل على محمل حسن ما لم يتحول الظن إلى
يقين جازم،
يقول الله تعالى : " يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ {الحجرات:12}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول
الله ﷺ قال: " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا،
ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا
كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا،
التقوى ههنا ويشير إلى صدره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على
المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم،
ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "
[أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب لا
يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع برقم (5143) ، ومسلم في البر والصلة، باب
تحريم الظن والتجسس والتنافس، برقم (2563) ].
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال:
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: " ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم
حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك، ماله
ودمه، وأن يظن به إلا خيراً " . رواه ابن حبان وغيره.
فكم أوقع سوء الظن السيئ من فراق بين
المتحابين، وقطيعة بين المتواصلين، ولو لم يكن الظن على درجة عظيمة من الخطورة والأهمية
في إضعاف روح الموالاة بين المؤمنين لما أكد الباري عز وجل على ذلك في الكتاب
والسنة.
وإحسان الظن بالناس يحتاج إلى كثير من
مجاهدة النفس لحملها على ذلك خاصة وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ولا يكاد
يفتر عن التفريق بين المؤمنين والتحريش بينهم وأعظم أسباب قطع الطريق على الشيطان
هو إحسان الظن بالمسلمين .
قال أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي
كما في الحلية لأبي نعيم (2/285): ( إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر
جهدك؛ فإن لم تجد له عذراً فقل في نفسك: لعلَّ لأخي عذراً لا أعلمه).
وكان معروف الكرخي قاعدا يوم على دجلة
ببغداد فمر به صبيان في زورق يضربون بالملاهي ويشربون فقال له أصحابه:أما ترى
هؤلاء يعصون الله تعالى على هذا الماء؟ادع عليهم فرفع يديه إلى السماء وقال:الهي
وسيدي كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة. فقال له صاحبه:أنما سألناك
أن تدعو عليهم ولم نقل ادع لهم, فقال:إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا ولم
يضركم هذا. ابن الملقن : طبقات الأولياء 1/47.
إذا ساء فِعلُ المرءِ ساءت ظُنونُه**
وصَدَّق ما يعتادُه من توَهُّمِ
وعادى محبِّيه بقولِ عِداتِه **
وأصبَح في ليلٍ من الشَّكِّ مُظلِمِ
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم
ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .
(الخطبة الثانية).
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ،
وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
فليس أريح لقلب العبد في هذه الحياة
ولا أسعد لنفسه من حسن الظن، فبه يسلم من أذى الخواطر المقلقة التي تؤذي النفس،
وتكدر البال، وتتعب الجسد .
إن حسن الظن يؤدي إلى سلامة الصدر
وتدعيم روابط الألفة والمحبة بين أبناء المجتمع، فلا تحمل الصدور غلاًّ ولا حقدًا
ولا حسدا .
فيصبح العبد من أحب وأفضل الناس إلي
الله تعالي .
روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال
قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب صدوق
اللسان» قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي لا إثم
فيه ولا بغي ولا غلّ ولا حسد» ( ابن ماجه كتاب الزهد، ح6024).
وسلامة الصدر طريق إلى الجنة أيضاً،
فقد أخرج أحمد في مسنده من حديث عبدالله بن عمرو قال: قال عليه الصلاة والسلام:
«يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من الوضوء»،
تكرّر ذلك ثلاث مرات في ثلاثة أيام، فأحب عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يعرف
خبيئة هذا الرجل، فبات عنده ثلاثاً فلم يره كثير صلاة ولا صيام فسأله فقال:
"هو ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً
على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق"
(أحمد: 63221)،
ولقد كان سلفنا الكرام رحمهم الله،
ورضي الله عنهم من أروع من ضرب جميل الأمثلة في حسن الظن بالآخرين.
فهذا فاروق الأمة الأوَّاب عمر بن
الخطاب رضي الله عنه يقول: «لا يحل لا مرئٍ مسلمٍ سمع من أخيه كلمة يظن بها سوءًا،
وهو يجد لها في شيءٍ من الخير مخرجًا»[1].
وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه
«من علم من أخيه مروءة جميلة، فلا يسمعن فيه مقالات الرجال، ومن حسنت علانيته فنحن
لسريرته أرجى»[2].
وقال سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى-:
"كتب إليَّ بعض إخواني من أصحاب رسول
-صلى الله عليه وسلم-: أن ضعْ أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظننَّ
بكلمةٍ خرجت من امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً" رواه البيهقي.
ومن جميل ما يُذكر في هذا الباب: عن
رجلٍ من أجواد العرب أن امرأته قالت له يومًا: «ما رأيت قومًا أشد لؤمًا من
إخوانك، وأصحابك، قال: ولم؟ قالت: أراهم إذا اغتنيت لزموك، وإذا افتقرت تركوك،
فقال لها: هذا - والله - من كريم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم،
ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بواجبهم».
الله أكبر! ما أجمل وأحلى، وأرقى،
وأنقى حسن الظن بالآخرين!
فانظروا كيف جعل قبيح فعلهم حسنًا،
وظاهر غدرهم وفاءً، لماذا؟ لأن حسن الظن بالآخرين راحةٌ في الدنيا، وسلامة في
الآخرة.
وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول:
«من أحب أن يُختم له بخير فليحسن الظن بالناس "
أسأل الله الرحيم أن يغفر لنا ويتجاوز
عنا، وأن يرزقنا حسن الظن بإخواننا! ربنا لا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا،
واغفر لنا ربنا؛ إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا
من الرياء وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة.
اللهم أحسن خاتمتنا يا رب العالمين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب ، اللهم
صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين