هلا شققت عن قلبه
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
النبي كان يتعامل على حسب ظواهر الناس
هل لنا أن نطعن في نية صديق أو قريب؟
لَنَا الظَّاهِرُ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ
أفلا شَققتَ عن قلبِ من حولك لترى ؟
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ
وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ
فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آلِ
عِمْرَانَ: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ
بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النِّسَاءِ: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾
[الأَحْزَابِ: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ
نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هُوَ المِثَالُ وَالقُدْوَةُ الَّتِي وَجَّهَنَا القُرْآنُ الكَرِيمُ
إِلَى اتِّبَاعِهَا وَالسَّيْرِ عَلَى خُطَاهَا، كَيْ نَنَالَ الفَلَاحَ
وَالسَّعَادَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَاليَوْمَ الآخِرَ﴾ (الأَحْزَابِ: 21).
وَقَدْ حَثَّنَا وَأَمَرَنَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّعَامُلِ بِحُسْنِ
الأَخْلَاقِ مَعَ الوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجَةِ، وَالأَقْرِبَاءِ وَالجِيرَانِ،
وَالعُمَّالِ وَالخَدَمِ، وَالفُقَرَاءِ وَالأَيْتَامِ، وَالأَصْدِقَاءِ
وَالأَعْدَاءِ، وَمَعَ النَّاسِ جَمِيعًا، فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اتَّقِ
اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا،
وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ.
قَالَ ابْنُ عُثَيْمِين: "وَالمَعْنَى: عَامِلِ النَّاسَ بِالأَخْلَاقِ
الحَسَنَةِ بِالقَوْلِ وَبِالفِعْلِ".
وَمِنْ هَدْيِ وَخُلُقِ نَبِيِّنَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ النَّاسِ عَامَّةً:
مُعَامَلَتُهُمْ عَلَى حَسَبِ ظَوَاهِرِهِمْ، دُونَ البَحْثِ فِي نِيَّاتِهِمْ
وَمَقَاصِدِهِمْ، وَتَرْكُ سَرَائِرِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ
الشَّاطِبِيُّ: "إِنَّ أَصْلَ الحُكْمِ بِالظَّاهِرِ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي
الأَحْكَامِ خُصُوصًا، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاعْتِقَادِ فِي الغَيْرِ
عُمُومًا، فَإِنَّ سَيِّدَ البَشَرِ مَعَ إِعْلَامِهِ بِالوَحْيِ يَجْرِي
الأُمُورَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فِي المُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ عَلِمَ
بَوَاطِنَ أَحْوَالِهِمْ".
النبي
كان يتعامل على حسب ظواهر الناس
والسيرة النبوية مليئة بالمواقف الدالة
على معاملة النبي صلى الله عليه وسلم الناس على حسب ظواهرهم، وترك سرائرهم لله عز
وجل، ومنها
:
فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ
اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ
وسَلَّمَ- إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ،
وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا
غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ،
فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ،
فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ-،
فَقَالَ: "يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ؟"، قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ
السِّلاَحِ، فَقَالَ: "أَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟،
أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟"،
فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ
أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
واللهِ إنَّه لدرسٌ كبيرٌ، وصرخةُ
نذيرٍ، من رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- لحبيبِه وابنِ حبيبِه أُسَامَةَ
بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ -رضيَ اللهُ عنهما-، درسٌ لم يكنْ يحتملُ التَّأجيلَ
ولا المجاملاتِ، درسٌ لا ينبغي فيه الإطالةُ ولا المُقدِّماتُ، إنَّها النِّيَّاتُ
وما أدراكَ ما النِّياتُ، وهل يعلمُ النِّياتِ إلا ربُّ الأرضِ والسَّماواتِ، فهو
العزيزُ العظيمُ الرَّحيمُ الغفورُ، الذي يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصدورُ.
هل لنا أن نطعن في نية صديق أو قريب؟
فهل لنا -بعدَ هذا الموقفِ الرَّهيبِ(
موقف النبي مع أسامة) - أن نطعنَ في نيَّةِ صديقٍ أو قريبٍ؟ يقولُ سعيدُ بنُ
المسيَّبِ -رحمَه اللهُ-: "كتبَ إليَّ بعضُ إخواني من أصحابِ رسولِ اللهِ
-صلى اللهُ عليه وسلمَ-: أن ضَعْ أمرَ أخيكَ على أحسنِه، ما لم يأتِكَ ما
يَغلبُكَ، ولا تظنَّنَّ بكلمةٍ خَرجتْ من امرئٍ مُسلمٍ شَرًّا، وأنتَ تَجدُ لها في
الخيرِ مَحملًا".
إساءةُ الظَّنِّ بما في قلوبِ
الآخرينَ، يُحزِنُ أفئدتَنا؟، ويُفسدُ فرحتَنا؟، ويُطفئُ ابتسامتَنا؟، ونَفقِدُ
بسببِه أحبَّتَنا؟، وأعظمُ من ذلكَ معصية ربِّنا وخالقِنا، الذي أوصانا وقالَ لنا:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا)[الْحُجُرَاتِ: 12]، ولذلكَ لا تجدُ مؤمنًا
حقيقيًّا في إيمانِه، إلا وهو سليمُ الصَّدرِ لإخوانِه، يلتمسُ لهم المُبرِّراتِ
والأعذارَ، ولو من قاعِ المُحيطاتِ والبحارِ.
ألا إنَّ بعضَ الظنِّ إثمٌ فلا تكنْ
*** ظَنُونًا لِمَا فيهِ عليكَ أَثَامُ
لَنَا الظَّاهِرُ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو إِلَى حُسْنِ الظَّنِّ وَالحُكْمِ عَلَى النَّاسِ
بِالظَّاهِرِ لَا بِالبَاطِنِ.
رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي
قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّقِ
اللَّهَ"، وَذَلِكَ لَمَّا قَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذُهَيْبَةً (قِطْعَةَ ذَهَبٍ صَغِيرَةٍ) ـ بَعَثَ بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ اليَمَنِ ـ عَلَى المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ،
فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (.. وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ
يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ
عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: "مَعْنَاهُ
إِنِّي أُمِرْتُ بِالحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ".
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "كُلُّهُمْ
أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ
يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ".
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: "(لَمْ
أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ) فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى
قَبُولِ ظَاهِرِ التَّوْبَةِ وَعِصْمَةِ مَنْ يُصَلِّي".
وَيَقُولُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
-رَحِمَهُ اللَّهُ-:
"إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ الشَّيْءُ
تُنْكِرُهُ، فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرًا وَاحِدًا إِلَى سَبْعِينَ عُذْرًا، فَإِنْ
أَصَبْتَهُ وَإِلَّا قُلْ: لَعَلَّهُ لَهُ عُذْرٌ لَا أَعْرِفُهُ".
وَهَذِهِ ـ وَاللَّهِ ـ أَخْلَاقُ
العُظَمَاءِ الأَكَابِرِ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِيَوْمٍ تُبْلَى فِيهِ
السَّرَائِرُ.
وَلَقَدْ صَدَقَ القَائِلُ:
تَأَنَّ وَلَا تَعْجَلْ بِلَوْمِكَ
صَاحِبًا *** لَعَلَّهُ لَهُ عُذْرٌ وَأَنْتَ تَلُومُ
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
(إِنَّ رَجُلًا سَارَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَلَّمَهُ سِرًّا)، فَلَمْ نَدْرِ مَا
سَارَّهُ بِهِ حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْمِرُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ المُنَافِقِينَ، فَجَهَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
«أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ؟»
قَالَ الأَنْصَارِيُّ: بَلَى يَا
رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ،
قَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟»
قَالَ: بَلَى وَلَا شَهَادَةَ لَهُ،
قَالَ: «أَلَيْسَ يُصَلِّي؟»
قَالَ: بَلَى وَلَا صَلَاةَ لَهُ،
قَالَ: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِيَ
اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ»)
رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ
الهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: "وَهَذَا
بِخِلَافِ إِجْرَاءِ الأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ عَلَيْهِمْ".
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: "فِيْهِ
دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الوَاجِبَ المُعَامَلَةُ بِمَا يَظْهَرُ".
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ:
"إِنَّ المُنَافِقِينَ كَانُوا فِي
الظَّاهِرِ مُؤْمِنِينَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يَحْكُمْ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ الكُفَّارِ".
فَهَذِهِ المَوَاقِفُ تَدُلُّ عَلَى
أَنَّ المُسْلِمَ يُعَامِلُ النَّاسَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ، وَيَكِلُ
سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأُسَامَةَ:
«أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟».
وَأَمَّا فِي الآخِرَةِ فَاللهُ
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى.
قَالَ تَعَالَى:
﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ (طه: 7).
أيها الحبيب
أفلا شَققتَ عن قلبِ أخيكَ، لترى لماذا
لم يَزُركَ
في بيتِكَ شهرًا كاملًا، أو لم يتَّصلْ
بكَ ولو على الأقلِ مُجامِلًا، ألا يمكنُ أن يكونَ مشغولًا في معاشِه؟ أو يكونَ
طريحًا على فراشِه؟ فتلومُ وأنتَ الملومُ، وتَعتِبُ وعليكَ العتبُ، وحتى لو كانَ
أخوكَ مُقصِّرًا، للخيرِ مانعًا، فلا تكنْ أنتَ لصلةِ الرَّحمِ الواجبةِ قاطعًا،
فإيَّاكَ أن تسمعَ كلامَ عدوِّكَ الشَّيطانِ، فإنَّه يسعى بالتَّفرقةِ بينَ
الإخوانِ، (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ
يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا
مُبِينًا)[الْإِسْرَاءِ: 53]، وصدقَ القائلُ:
إذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَـاءَتْ
ظُنُونُهُ *** وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِن تَوَهُّمِ
وَعَادَى مُحِبِّيهِ بِقَوْلِ
عُـدَاتِهِ *** وَأَصْبَحَ في لَيْلٍ مِنَ الشَّكِّ مُظْلِمِ
أعلمُ أنك لو شَتمتني لم تُرِد إلا
الخيرَ
أفلا شَققتَ عن قلبِ صاحبِكَ؛
لتعرفَ
لماذا قالَ تلكَ الكلمةَ، أو لماذا فعلَ تلكَ الحركةَ، ألا يمكنُ أن يكونَ مازحًا،
أو يكونَ ناصحًا؟ قد يكونَ أخطأَ واستعجلَ، وأنتَ للعفوِ والمغفرةِ أهلٌ، أو قد
يكونَ خانَه التَّعبيرُ والكلامُ، أو قد يكونَ سُوءُ فِهمٍ منكَ فلا يُلامُ، دخلَ
الرَّبيعُ بنُ سُليمانَ على الشَّافعي -رحمَه اللهُ- وهو مريضٌ فقالَ له:
"قوَّى اللهُ ضَعفَك" -أخطأَ في التَّعبيرِ-، فقال الشافعي: "لو
قوَّى اللهُ ضَعفي لقتلني"، فقالَ الرَّبيعُ: "واللهِ ما أردتُ إلا
الخيرَ"، قالَ الشَّافعيُّ: "أعلمُ أنك لو شَتمتني لم تُرِد إلا الخيرَ".
أفلا شققت عن قلب زوجتك
أفلا شَققتَ عن قلبِ زوجتِكَ، لتعلمَ
لماذا لم تسمعْ لكلامِك، أو لماذا أساءتْ إلى مقامِك، ألا يمكنُ أن تكونَ في قِمةِ
الغضبِ؟ أو تكونَ هذه آثارُ الجُهدِ والتَّعبِ؟ أو قد يكونُ العتبُ والدَّلالُ؛
لأنَّكَ منذُ زمنٍ لم تتغزَّلْ بالجَمَالِ، أيُعقلُ أن تَنسى عِشرةَ السَّنواتِ
بسببِ موقفٍ أو بعضِ كلماتٍ، اسمع كيفَ علَّمَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-
هذا الرَّجلَ حُسنَ الظَّنِّ بأهلِه في أعظمِ مَقامٍ للشَّكِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي
وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: "هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:
"فَمَا أَلْوَانُهَا؟"، قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: "هَلْ فِيهَا مِنْ
أَوْرَقَ؟"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ؟"،
قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: "وَهَذَا عَسَى أَنْ
يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ".
أفلا شَققتَ عن قلبِ العالمِ أو
الدَّاعيةِ
أفلا شَققتَ عن قلبِ ذلكَ العالمِ أو
الدَّاعيةِ أو الخطيبِ لتعلمَ أن كلامَه للرِّياءِ والسُّمعةِ، أو لينالَ بها في
عالَمِ الشُّهرةِ لُمعةً، ألا يمكنُ أن يكونَ ممنْ إذا أصابَ فلهُ أجرانِ؟ أجرُ الاجتهادِ
والإصابةِ، وإذا أخطأَ فله أجرٌ واحدٌ وهو أجر الاجتهادِ، كما جاءَ في الحديثِ:
"إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ،
وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"، فإن أصابَ فمن
توفيقِ الرَّحمنِ، وإن أخطأَ فمن نفسِه والشَّيطانِ.
إياكم والظن
= أفلا شَققتَ عن قلبِ ذلك العابدِ
والواعظِ لتعلمَ أن موعظتَه كانتْ لغيرِ اللهِ، وأن دمعتَه كانتْ لغيرِ اللهِ،
يقولُ مكحولٌ -رحمَه اللهُ-: رأيتُ رجلًا يُصلي، وكلما ركعَ وسجدَ بكى؛ فاتهمتُه
أنه يُرائي، فَحُرِمْتُ البُكاءَ سنةً، واسمعْ لرسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه
وسلمَ- وهو يُحذِّرُ أمَّتَه فيقولُ لهم: "إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ
أكذبُ الحديثِ، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا
تباغضوا، وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا".
وما أجملَ ظَنَّ أبي أيوبَ الأنصاريِّ
وما أجملَ ظَنَّ أبي أيوبَ الأنصاريِّ
-رضيَ اللهُ عنه- في عائشةَ -رضيَ اللهُ عنها في حادثةِ الإفكِ، فعندما دخلَ على
امرأتِه أمِّ أيوبَ، قالت له: "يا أبا أيوبَ، ألا تسمعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ
فِي عَائِشَةَ؟، قَالَ: بلى، وَذَلِكَ الكذبُ، أكنتِ يا أمَّ أيوبَ فاعلةً
ذَلِكَ؟، قَالَتْ: لا واللهِ مَا كنتُ لأفعله، قَالَ: فعائشةُ -واللهِ- خيرٌ
منكِ"، فأنزلَ اللهُ -تعالى-: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ
مُبِينٌ)[النُّورِ: 12].
أيُّها الحبيبُ:
أفلا شققتَ عن قلوبِ النَّاسِ حولَكَ
لترى ما فيها لكَ من الاحترامِ والتَّقديرِ والحبِّ الخالصِ الكبيرِ، وتعلمَ ما
فيها لكَ من القَدرِ العظيمِ، والمقامِ الكريمِ، ولكنَّ كثيرًا من النَّاسِ لا
يستطيعُ التَّعبيرَ عن مشاعرِه الجَليلةِ، ولا يستطيعُ النُّطقَ بكلماتِه
الجميلةِ، إمَّا حياءً أو خجلًا، وإما خوفًا أو وَجلًا، ولذلكَ ترى مشاعرَهم في
قَسَماتِ وجوهِهم، وفي نظراتِ عيونِهم، دونَ نُطقِ ألسنتِهم، فترى حُبَّهم مواساةً
في الأتراحِ، ومساندةً في الأفراحِ، ويبذلونَ من أجلِك الأرواحَ حُبًّا صامتًا
عمليًّا لا قوليًّا.
تعلم من النملة
فَأَحْسِنِ الظَّنَ بما في قلوبِ
المسلمينَ، ولا تتَّهم ما لا تراهُ العينُ، واسمع إلى اعتذارِ النَّملةِ
الرَّزينِ: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا
أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ
وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[النَّمْلِ: 18]، فاعتذرتْ عنهم أنَّهم إن
حَطموكم فليسَ عن قَصدٍ منهم ولا شُعورٍ، فما أجملَ هذا الشُّعورَ.
فانظرْ إلى قلوبِ النَّاسِ نظرةً
نظيفةً، واحملْ ما فيها على النَّوايا الشَّريفةِ، واجعل مشاعرَك تجاهَهم خالصةً
عفيفةً، يَذْهَب ما في قلبِك من الشَّكِ والرَّيبِ، وَتَحْلُو حياتُكَ بالسَّعادةِ
وتطيب، وإذا ما أخطأَ عليكَ حبيبٌ يومًا واعتذرَ، فتذكَّرْ ما في العفوِ من
الشَّهامةِ والأجرِ، (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ)[الشُّورَى: 40].
إذا أنتَ لم تَعفُ عن صَاحبٍ ***
أساءَ، وعاقبتَـه إن عَثرَ
بَقيتَ بِلا صَاحبٍ فاحتَمِلْ ***
وكُنْ ذا قَبولٍ إذا ما اعتَذرَ
اللهمَّ أصلح نياتِنا وذريتِنا، وألِّف
بينَ قلوبِنا، وأخرجنا من الظلماتِ إلى النورِ، وأدخلنا دارَ السلامِ، أَحْيِنَا
مؤمنينَ وتوفَّنا مسلمينَ، وألحقنا بالصالحينَ، غير خزايا ولا مفتونينَ، اللهم إنا
نسألُك الخلاصَ من الفتنِ، اللهم نجنا في الدنيا وفي الآخرةِ يا ربَّ العالمينَ.