شَرَفُ الدِّفَاعِ عَنِ
الْأَوْطَانِ
الحمدُ للهِ الرَّحيمِ الرَّحمنِ،
المَلِكِ الديّانِ، العزيزِ الغفورِ المنّانِ، الذي جعلَ حراسةَ الدِّينِ وصيانةَ
الأوطانِ من أعظمِ أسبابِ رِفعةِ الإنسانِ، وعمَّرَ بذِكرِه الكونَ والإنسانَ.
وأشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا
شريكَ له، أمرَ بالعدلِ والإحسانِ، وجعلَ حبَّ الوطنِ غريزةً في قلوبِ أهلِ
الإيمانِ.
وأشهَدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً عبدُه
ورسولُه، المؤيَّدُ بالمعجزاتِ والبُرهانِ، والمبعوثُ رحمةً للثَّقلَينِ، وهدايةً
للإنسِ والجَانِّ.
اللَّهُمَّ صلِّ على سيِّدِنا محمَّدٍ
وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَن تبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ يُبعَثُ الثَّقلانِ.
أمَّا بعدُ:
فإنِّي أوصيكم – عبادَ اللهِ – ونفسي
الخاطئةَ المقصِّرةَ أوَّلاً بتقوَى اللهِ في السِّرِّ والإعلانِ، فهي وصيَّةُ
اللهِ للأوَّلينَ والآخرينَ، ووصيَّةُ نبيِّ الإنسِ والجَانِّ، قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ
أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾.
فاتَّقوا اللهَ – عبادَ الرَّحمنِ –
تَفوزوا برضا ربِّكم في الدُّنيا، ويومَ يقومُ النَّاسُ لربِّ العالمينَ للحسابِ
والميزانِ.
ثمَّ أمَّا بعدُ:
أيُّها الأحبَّةُ في اللهِ: إنَّ مِن
أعظمِ القُرُباتِ، وأشرفِ الطاعاتِ، أن يقفَ المرءُ مُدافعاً عن دينِهِ وأرضِهِ
وأهلِهِ، فإنَّ الدِّفاعَ عن الأوطانِ عزيمةٌ وإيمانٌ، وكرامةٌ وشرفٌ يُسطِّرُه
التَّاريخُ في صَحائفِ الخالدينَ، ويكتُبُه المُخلِصونَ في سِجِلِّ الفاتحينَ،
فهوَ ميدانُ التَّضحيةِ والفداءِ، ومَعرِضُ البُطولةِ، وشرفٌ لا ينالُه إلَّا مَن
صدَقَ اللهَ فكانَ من الصادقينَ المُخلِصينَ.
فشرفُ الدِّفاعِ عن الأوطانِ لا يَعرفُ
قدرَه إلَّا الأحرارُ الأباةُ، ولا يَفوزُ بوسامِهِ إلَّا المُضحُّونَ الثَّابتونَ.
أيُّها الأحبَّةُ في اللهِ:
لقد جاء الإسلامُ مُقرِّراً مبدأَ
الدِّفاعِ عن الأوطانِ، وجعلَه من أرفعِ صورِ الجهادِ، قال النَّبيُّ ﷺ:
«مَن قُتِلَ دُونَ مالِهِ فَهُوَ
شَهِيدٌ، ومَن قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، ومَن قُتِلَ دُونَ دِينِهِ
فَهُوَ شَهِيدٌ، ومَن قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» [رواه أبو داودَ
والتِّرمذي].
فانظُروا – رحمكم اللهُ – كيف جعَلَ
رسولُ اللهِ ﷺ الدِّفاعَ عن الدِّينِ والعِرضِ والأهلِ والمالِ شرفاً يُبلِّغُ
صاحبَه منزلةَ الشُّهداءِ.
فمن منزلة الشُّهداءَ أنهم لا يشعرونَ بالموتِ، ولا
يُعانونَ من سكراتِهِ التي تعوَّذَ منها المصطفى ﷺ، إلَّا كما يجدُ الواحدُ منَّا
مِن لَسعةِ البرغوثِ أو البعوضةِ، قال ﷺ: «مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ
القَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ القَرْصَةِ» (رواه التِّرمذي
وأحمد).
كذلكَ الشهداء في ذاكرةِ الأمَّةِ
مُخلَّدون، وعندَ ربِّهم أحياءٌ يُرزَقون؛ حياةً أبديَّةً لا مِثلَ لها ولا نظيرَ،
قال تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ
بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ
لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 ـ 171].
وقال النبيُّ ﷺ في تفسيرِها: «أرواحُهم
في جَوفِ طَيرٍ خُضرٍ، لها قناديلُ مُعلَّقةٌ بالعرشِ، تسرَحُ منَ الجنَّةِ حيثُ
شاءتْ، ثمَّ تأوي إلى تلك القناديلِ، فاطَّلعَ إليهم ربُّهم اطِّلاعةً، فقال: هل
تشتهونَ شيئاً؟ قالوا: أيُّ شيءٍ نشتهي ونحنُ نسرَحُ منَ الجنَّةِ حيثُ شِئنا،
ففعلَ ذلكَ بهم ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا رأوا أنَّه لن يُترَكوا مِن أن يُسألوا،
قالوا: يا ربِّ، نُريدُ أنْ تُردَّ أرواحُنا في أجسادِنا حتَّى نُقتَلَ في سبيلِك
مرَّةً أُخرى، فلمَّا رأى أنْ ليسَ لهم حاجةٌ تُرِكوا» (رواه مسلم).
وكذلكَ جعلَ الله للشهداءِ كِتابَ
حسناتِهم مفتوحاً، وحسناتُهم في ازديادٍ إلى يومِ القيامةِ، قال ﷺ: «كُلُّ مَيِّتٍ
يُختَمُ على عملِه إلَّا الذي ماتَ مُرابِطاً في سبيلِ اللهِ، فإنَّه يُنمَى له
عملُه إلى يومِ القيامةِ، ويأمنُ من فتنةِ القبرِ» (رواه التِّرمذي).
أيُّها المسلمون:
إنَّ حراسةَ مُقدَّراتِ الوطنِ
والدِّفاعَ عنها قد تعلو على كثيرٍ من العباداتِ، فما تنفعُك صلاتُك وزكاتُك
وحجُّك وأنت لا تنصُرُ وطنَك، ولا تُدافعُ عن عِرضِك وشرفِك ومُقدَّساتِك! فمن بات
ساهراً مُرابطاً على ثغورِ وطنِه؛ ليكسِرَ مطامعَ الأعداءِ، ويصدَّهم عن تحقيقِ
مآربِهم، فهو على جهادٍ عظيمٍ يبلُغُه أعاليَ الجِنانِ.
فعن سيِّدِنا أبي هريرةَ رضي الله عنه،
قال: مَرَّ رجلٌ من أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ بشِعبٍ فيه عُيَيْنَةٌ من ماءٍ عذبةٍ
فأعجبَته، فقال: لو اعتزلتُ النَّاسَ فأقمتُ في هذا الشِّعبِ، فذكرَ ذلكَ لرسولِ
الله ﷺ فقال: «لا تفعلْ، فإنَّ مُقامَ أحدِكم في سبيلِ اللهِ أفضلُ من صلاتِه في
بيتِه سبعينَ عاماً، ألا تُحبُّون أن يغفِرَ اللهُ لكم ويدخِلَكم الجنَّةَ؟ اُغزوا
في سبيلِ اللهِ، مَن قاتلَ في سبيلِ اللهِ فُواقَ ناقةٍ وجبَت له الجنَّةُ» [رواه
الترمذي وحسَّنه].
لا شرفَ أعلى من إنسانٍ باتَ حارساً
للنَّاسِ حينَ يخافون، ويسهرُ حينَ ينامون. حتَّى قال صاحبُ الإمامِ أبي حنيفةَ،
أبو يوسفَ القاضي رحمه الله تعالى: «إذا احتاجَ المسلمونَ إلى حَرَسٍ، فالحَرَسُ
أفضلُ مِنَ الصَّلاةِ (قيام الليل)، فإذا كانَ في الحَرَسِ مَن يكفيهِم ويستغنونَ
به، فالصلاةُ أفضل؛ لأنَّه قد يحرُسُ أيضاً وهو في الصَّلاةِ، حتَّى لا يغفُلَ عن
كثيرٍ ممَّا يجبُ عليه، فيجمعُ أجرَهما جميعاً أفضلُ» [الرد على سير الأوزاعي].
وأعلى من ذلك ما جاء عن سيِّدِنا ابنِ
عمرَ رضي الله عنهما، عن النبيِّ ﷺ قال: «ألا أُنبِّئُكم بليلةٍ أفضلَ من ليلةِ
القدرِ؟: حارسٌ حرسَ في أرضِ خوفٍ، لعلَّه ألَّا يرجعَ إلى أهلِه» [رواه النسائي
في السنن الكبرى، والبيهقي في شعب الإيمان].
وعن سيِّدِنا ابنِ عبَّاسٍ رضي الله
عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «عينانِ لا تمسُّهما النَّارُ: عينٌ بكتْ من
خشيةِ اللهِ، وعينٌ باتتْ تحرُسُ في سبيلِ اللهِ» [رواه الترمذي].
فاتَّقوا اللهَ – عبادَ اللهِ – وكونوا
أوفياءَ لأوطانِكم، حامدينَ لنعمةِ الأمنِ والسَّكينةِ، شاكرينَ للجنودِ
المُرابطينَ والمُضحِّينَ بأرواحِهم، داعينَ لهم بالنصرِ والتأييدِ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ
العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنَّه هو
الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي بذِكرِه تُطمئِنُّ
القلوبُ وتَسكنُ الأرواحُ وتُستَجلى الأحزانُ.
وأشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه
لا شريكَ له، شرعَ لعبادِه شريعةً تُصلِحُ الأبدانَ والأذهانَ.
وأشهَدُ أنَّ سيِّدَنا محمَّداً عبدُه
ورسولُه، أكرمُ مَن نطقَ بالبيانِ، وأطهرُ مَن سعى لنشرِ الحقِّ في الأكوانِ.
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على
سيِّدِنا محمَّدٍ، وعلى آلهِ وأصحابِه الكرامِ، ومَن سارَ على نهجِهم بإيمانٍ
وإحسانٍ، إلى يومِ يُبعَثُ الثَّقلانِ.
أمَّا بعدُ:
عبادَ اللهِ:
شرفُ الدِّفاعِ عن الوطنِ لا يقتصرُ
على الجُنديِّ المرابِطِ في الثَّغرِ، بل يشملُ كلَّ مَن يقومُ بواجِبِه في
مجالِه؛ فكلُّ إنسان يعيشُ على أرضِ هذا الوطنِ ، يجب أن ينظُرَ في أثرِ عملِه
ومدى نفعِه لوطنِه. فالجنديُّ يستعِدُّ بالعُدَّةِ والعَتادِ للدِّفاعِ عن الوطنِ
حتَّى يكونَ صادقاً في وطنيَّتِه، والصانعُ يجبُ عليه أن يُجيدَ صنعتَه ويُحكِمَها
حتَّى يكونَ نافعاً لوطنِه، والطَّالبُ يُذاكرُ دروسَه ويهتَمُّ بتعليمِه حتَّى
يكونَ صادقاً في محبَّتِه لوطنِه، والمُوظَّفُ يَمتنِعُ عن أكلِ الرَّشاوى وعن
تعطيلِ مصالحِ النَّاسِ حتَّى يكونَ صادقاً في محبَّتِه لوطنِه.
وهكذا في كلِّ عملٍ يعمله الإنسانُ؛
فالعالِمُ بسلاحِ علمِه يَحمي وطنَه بنشرِ الوعيِ والمعرفةِ التي تُحصِّنُ
المجتمعَ من الجهلِ والتطرُّفِ، ويُسهِمُ في بناءِ جيلٍ واعٍ مُثقَّفٍ قادرٍ على
الدِّفاعِ عن دينِه ووطنِه فكريّاً وعمليّاً، والطَّبيبُ بخدمتِه يُعالِجُ المرضى،
والفَلَّاحُ بعطائِه يُنمِّي الأرضَ، والعمَّالُ بجهودِهم يرفَعونَ البُنيانَ.
كلٌّ بحسبِ موقعِه، يُشارِكُ في صَونِ الوطنِ وبنائِه، ولكلٍّ منهم نصيبٌ من شرفِ
الجُنديَّةِ إذا خلُصَت نيَّتُه للهِ تعالى، وكانَ هدفُه خدمةَ وطنِه وأمَّتِه.
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلَموا
أنَّ الوطنَ أمانةٌ في أعناقِنا، فلنحافِظ عليهِ بإخلاصٍ وجدٍّ وعملٍ صالحٍ.
اللَّهُمَّ احفَظ أوطانَنا آمنةً
مطمئنَّةً، سخاءً رخاءً، وسائرَ بلادِ المسلمينَ.
اللَّهُمَّ وفِّق وُلاةَ أمورِنا لما
تُحبُّ وترضى.
اللَّهُمَّ اجعل هذا الوطنَ عزيزاً
منصوراً، واحفَظ جنودَه ورِجالَ أمنِه، وسدِّد رميَهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم
على عدوِّك وعدوِّهم.
اللَّهُمَّ اجعلنا من الباذلينَ
لأوطانِنا، العاملينَ بإخلاصٍ لرفعةِ دينِنا وأمَّتِنا.
وصلَّى اللهُ على سيِّدِنا محمَّدٍ،
وعلى آلهِ وصحبِه أجمعينَ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.