هب أنك مت الآن ؟ماذا تركت من أثر؟
الحمدلله والصلاة والسلام علي رسول الله أما بعد فياعباد الله فحديثنا إليكم اليوم أترك لك أثراً طيباً وسيرة حسنة فالإنسان سيرة ..قال الله تعالي على لسان إبراهيم عليه السلام :-"رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ"(الشعراء83-85).
يقول الطبري في تفسيرها :
"واجعل لـي فـي الناس ذكراً جميلاً، وثناءً حسناً، بـاقـياً فـيـمن يجيء من القرون بعدي".
روى أشهب عن مالك قال قال الله عز وجل:"وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ " لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحاً ويُرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله تعالى؛ وقد قال الله تعالى:"وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي"(طه: 39) وقال:"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـنُ وُدّاً"(مريم: 96) أي حبا في قلوب عباده وثناء حسنا، فنبّه تعالى بقوله: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ }
قال ابن العربي: قال المحققون من شيوخ الزهد في هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن.
عبد الله
انك في هذه الحياة الدنيا من حين
استقرت قدمك على الأرض وأنت مسافر إلي الله عز وجل ، مسافر إلى الدار الآخرة ،
وانَّ مدة سفرك هي عمرك الذي كتبه الله عز وجل لك ، والأيام والليالي مراحل هذا
السفر ، فكل يوم وليلة مرحلة من هذه المراحل ، فلا تزال تطويها مرحلة بعد مرحلة
حتى ينتهي السفر
.
قطعت شهور العمر لهواً وغفلةً
ولم
تحترم فيمـا أتيت المحرّما
فلا رجب وافيت فـيه بحقه
ولا صمت
شهر الصوم صوماً متمما
ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي
مضى كنت قواماً ولا كنت محرما
فهل لك أن تمحي الذنوب بـتوبةٍ
وتبكي عـليها حسرةً وتندما
أخي الحبيب :
إنَّ الأعمار مضروبة ، و الآجال مقسومة
، و كل واحد منا قد قُسم له نصيبه في هذه الحياة ، فهذا يعيش خمسين سنة ، و ذاك
يعيش ستين سنة ، و ذاك يعيش عشرين سنة ،و أنت منذ أن خرجت إلى الدنيا ، و أنت تهدم
في عمرك و تُنقص من أجلك.
أخي الكريم :
هب أنك الآن في عداد الموتى.
ما هي الكلمات التي تتوقع أن يصفك
الناس بها بعد موتك ؟
هل سألت نفسك
ما هو المشروع الذي تريد أن يُثبت في
صحيفة عملك بعد وفاتك؟
تأمل مشوار حياتك كم مسلماً علّمته من الخير ؟ كم تائهاً إلى طريق الخير هديت ؟
كم كلمةً طيبة غرست؟ كم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بلّغت ؟ كم مرةٍ بين متخاصمين أصلحت ؟
أخي الكريم:
الناس في رحلتهم خاسرون :"إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ "(العصر/3).
فكن ذلك الرجل المبارك في حله وترحاله
، كالغيث أينما وقع نفع , وليكن لك قلبٌ عامر وعقلٌ يثابر .
تقيُ خفي ، نقي أبي .نفعه متعد ، وخيره عام .
يتجذر هداه في كل أرض أقام فيها .إذا قال أسمع ، وإذا وعظ جعل القلوب لربها تخشع .
كن مسلماً مُحمَّدي الخُلق ، صِدّيقيّ
الإيمان ، عُمَريّ الشكيمة ، عُثمانيّ الحياء ، علويّ الصلابة. .
مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
وقال تعالى:"إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي
الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ
فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ".
وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ أي في
حياتهم وَآثَارَهُمْ أي ما تركوه بعد وفاتهم.ونظيره قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا
قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ "(الانفطار: 5) وقوله:"يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ
بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ" (القيامة: 13)، وقال:"اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ
نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ"(الحشر: 18 )
فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعد
الإنسان من خير أو شر يجازى عليها: من أثر حسن؛ كعلمٍ ٍعلَّمه، أو كتاب صنَّفه،أو
بناءٍٍ بناه من مسجدٍ أو رِباط أو نحو ذلك. أو أثرٍٍ سيء كإعانة ظالم , ، أو صدّ
عن سبيل الله ,أو غير ذلك مما يُغضب الله وتبقى آثاره ,وقيل :المراد بها في الآية
آثار المشَّاءين إلى المساجد.
ولقد قال صلى الله عليه وسلم كما في
الصحيح:"مَنْ سَنَّ في الإِسْلام سُنةً حَسنةً فَلَهُ أَجْرُهَا، وأَجْرُ منْ
عَملَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ ينْقُصَ مِنْ أُجُورهِمْ شَيءٌ ،
ومَنْ سَنَّ في الإِسْلامِ سُنَّةً سيَّئةً كَانَ عَليه وِزْرها وَوِزرُ مَنْ
عَمِلَ بِهَا مِنْ بعْده مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزارهمْ شَيْءٌ "( مسلم)
.
وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم
أموراً سبعة ً يجري ثوابها على الإنسان في قبره بعد ما يموت , وذلك فيما رواه
البزار في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال :" سبعٌ يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته :من عَلّم علماً, أو أجرى
نهراً , أو حفر بئراً , أو غرس نخلاً , أو بنى مسجداً , أو ورّث مصحفاً , أو ترك
ولداً يستغفر له بعد موته "( صحيح الجامع ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره , وولداً صالحاً تركه , ومصحفاً ورثه أو مسجداً بناه , أو بيتاً لابن السبيل بناه , أو نهراً أجراه , أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته "(صحيح ابن ماجه).

الآثار بعد الموت
علمٌ علّمه ونشره:
إن الإسلام حث على العلم ورغّب فيه،
وجعل طلبه فرضا على التعيين أو الكفاية، وهذا يقتضي أن يكون هناك علماء يعلمون،
وطلاب علم يتعلمون.
وقد أخذ الله الميثاق على العلماء أن
يعلّموا العلم ولا يكتموه، قال تعالى:"إِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ
أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ "(آل
عمران:187).
وتوعّد الذين يكتمون فقال:"إنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ
مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ
وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"( البقرة:159-160).
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يُرغِّب
في نشر العلم وتعليمه، فكان يقول:
"بلِّغُوا عَنِّي ولَوْ آيَةً "(البخاري)
.
"نَضَّرَ الله امْرءاً سمِع مِنا شَيْئاً ، فبَلَّغَهُ كما سَمعَهُ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعى مِنْ سَامِع" الترمذيُّ وقال : حديثٌ حَسنٌ صَحيحٌ .
"منْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ
الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ منْ تَبِعَهُ لا ينْقُصُ ذلِكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئاً" مسلم
"أَلاَ إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ ، مَلعون مَا فيها ، إِلاَّ ذِكْرَ اللَّه تعالى ، ومَا وَالاَه وَعالماً وَمُتَعلِّماً "الترمذي وقال : حديثٌ حسنٌ .
"إنَّ اللَّه وملائِكَتَهُ وأَهْلَ
السَّمواتِ والأرضِ حتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وحتى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ
عَلى مُعلِّمِي النَّاسِ الخَيْرْ" الترمذي وقالَ : حَديثٌ حَسنٌ .
فيا شباب الإسلام، تعلّموا وعلّموا،
فإن هذا والله جهاد عظيم، قال الله تعالى:"وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ
لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ
إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"التوبة122
والله – يا طالب العلم – ((لأن يهدي
الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم)) متفقٌ عليهِ، وهنيئا لك تموت ويظلّ أجر
ما قدّمت من التعليم، وما أخرت من العلم، يأتيك إلى يوم القيامة.
ولدٌ صالح تركه:
وهذا الإطلاق يفيد انتفاع الوالد بولده
الصالح سواء دعا له أم لا. كمن غرس شجرةً فأكل منها الناس، فإنه يحصل له بنفس
الأكل ثواب، سواءً دعا له من أكل أم لم يدع. فالوالد ينتفع بصلاح ولده مطلقاً، وكل
عملٍ صالح يعمله الولد فلأبويه من الأجر مثل أجره، من غير أن ينقص من أجره شيء،
لأن الولد من سعي أبيه وكسبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن أطيب ما أكل
الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه" ، والله عز وجل يقول:"وَأَن لَّيْسَ
لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى"النجم:39.
مصحفٌ ورَّثّه:
فمن اشترى مصحفاً ووضعه في البيت ليقرأ
فيه أولاده أو وضعه في المسجد ووقفه لله تعالى، فإنه يأتيه من ثواب ذلك المصحف بعد
موته ويلحق بالمصحف كتب العلم الشرعي، ككتب العقيدة الصحيحة، والتفسير، والحديث،
والفقه، ونحوه ذلك من العلوم الشرعية، فإذا اشترى الرجل كتباً منها ووضعها في بيته
ليقرأ فيها أولاده، أو وضعها في المسجد ووقفها لله تعالى، فإنه لا يزال يأتيه من
ثواب هذه الكتب إلى يوم القيامة.
فاحرصوا – رحمكم الله – على إنشاء
مكتبات في بيوتكم وفي مساجدكم، وساهموا فيها بشراء المصاحف والكتب، فإنها مما
ينفعكم بعد موتكم.
مسجدٌ بناه: إن الله تعالى اتخذ في
الأرض بيوتاً لعبادته:
"يسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِِ رجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ
وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ
الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ" النور:36-37
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم
يرغّب في بناء المساجد فيقول: "من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله
في الجنة"البخاري : في الصلاة ، باب من بنى مسجدا 648 / 1.
فجودوا – رحمكم الله – على بيوت الله
ولا تبخلوا، فما تضعونه في بيوت الله من أموالكم يأتيكم ثوابه بعد موتكم، وتجدون
بره وثوابه يوم الدين.
ويلحق بالمساجد المدارس ونحوها مما
يعود نفعه على المسلمين.
بيتٌ لابن السبيل بناه: فمن بنى بيتاً
ووقفه على ابن السبيل يأوي إليه وينزل فيه في سفره فإنه يأتيه من ثواب ذلك بعد
موته.
ومعنى ذلك أن الإسلام يُرغِّب في بناء
بيوت المسافرين – التي تُعرف بالفنادق – تطوعاً، لينزل فيها المسافرون مجاناً، لأن
الغالب على المسافرين الحاجة وقلة المال، ولذا كثر في القرآن الكريم الوصية بابن
السبيل.
نهرٌ أجراه:
إنَّ أهمية الماء في الحياة لا تخفى
على أحد، فقد جعل الله من الماء كل شيء حي.
والإسلام يُرغِّب في العمل على توفير
الماء للمحتاجين , وسقاء العطشى ,فمن أجرى نهراً يشرب منه الناس ويستقوا، فإن له
الجنة، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال: ((من حفر بئر ذرومة فله
الجنة)). وكانت لرجلٍ من بني غفار عين في المدينة ، وكان يبيع منها القربة بمد،
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله!
ليس لي ولا لعيالي غيرها. فبلغ ذلك عثمان بن عفان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم
ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي فيه ما جعلته له؟ فقال: نعم، قلل:
قد جعلتها في المسلمين)).
فمن استطاع منكم أن يُجري نهراً، أو
يحفر بئراً , ويجعلها للمسلمين فليفعل وله مثل ذلك في الجنة.
صدقة أخرجها من ماله: حالة كونه يخشى
الفقر ويأمل الغنى، فإن هذه الصدقة يأتيه من ثوابها بعد موته ما شاء الله .
صدقة جارية ومنها المشاريع الاقتصادية
التي ينفع الله بها الأمة.
فالبدار البدار..والمسارعة إلى أن
تدَّخر لك أخي الكريم عند الله ما ينفعك غداً
{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا
بَنُونَ اِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }الشعراء89-88
فالأيام تطحن الأعمار طحن القمح في
الرحى.. ثم تذرى الأعمال أدراج الرياح؛ ولا يبقى إلا ما رضيه الله سبحانه، وأحبه
من الأقوال والأفعال.
إنا لنفرح بالأيام نقطـعها --- وكل يوم
مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً ---
فإنما الربح والخسران في العمل
أخي الحبيب :
بادر الأيام بالعمل الصالح، وأملأ
خزائنها بالفرائض والنوافل قبل أن تبادرك هي بموتٍ أو عجز، وقبل أن تجدها فارغة
خاوية تقول
:
{يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي
}الفجر24
أخي الكريم :
خذ لك زادين من سيرةٍ
ومن عملٍ
صالح يُدّخر
وكن في الطريق عفيف الخُطا
شريف
السماع كريم النظر
وكن رجلاً إن أتوا بعده
يقولون مرّ
وهذا الأثر
قال تعالي" لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ "(النحل: 25)..
آية مرعبة في كتاب الله تعالى لمن تأملها مخيفة لمن استشعر معانيها، وفهم مدلولها؛ فهي تعلمنا أن أعمال العباد محسوبة محصاة في كتاب، وأن آثارهم التي تركوها بعد موتهم يحاسبون عليهم، فإن كانت خيرًا فحسنات مستمرة بعد مماته، وإن كانت شرًّا فسيئات تصله إلى قبره بعد موته؛ " لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ "(النحل: 25)..
فكل ما نقوله أو نعمله في حياتنا ويبقى ويستمر بعد وفاتنا نحن محاسبون عليه،
مجزيون به؛ قال تعالى:"إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا
قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ "(يس:
12)؛ يقول مجاهد رحمه الله في تفسيرها: أي ما أورثوا من الضلالة.
ومعني قوله تعالي:"إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي الْمَوْتَى."؛ أي: نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال، ﴿
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا ﴾ من الخير والشر، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في
حال حياتهم، ﴿ وَآثَارَهُمْ ﴾ وهي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في
إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم
وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، أو أمره
بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في
حياته وبعد موته، أو عمل خيرًا، من صلاةٍ أو زكاةٍ أو صدقةٍ أو إحسان، فاقتدى به
غيره، أو عمل مسجدًا، أو محلًا من المحال التي ينتفع بها الناس، وما أشبه ذلك،
فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر، ولهذا: « من سن سنة حسنة فله أجرها
وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها
إلى يوم القيامة»، وهذا الموضع، يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى اللّه والهداية إلى
سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك، ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمامِ فيه،
وأنه أسفل الخليقة، وأشدهم جرمًا، وأعظمهم إثمًا).
وعن سعيد بن جبير رحمه الله في قوله: ﴿ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ﴾؛ يعني: ما أثروا. يقول: ما سنوا من سنة، فعمل بها قوم من بعد موتهم، فإن كان خيرًا فله مثل أجورهم، لا ينقص من أجر من عمله شيئًا، وإن كانت شرًّا فعليه مثل أوزارهم، ولا ينقص من أوزار من عمله شيئًا).
نعم أعمال العباد محصية مدونة، يجازى
بما عمل يوم القيامة، ويجري عليه إثر تلك الأعمال بعد موته، فإن كانت أعمال تدعوا
للخير وتبين الحق، وينتفع الناس بها كانت حسنات تجري له وهو في قبره، وإلى هذا
المعنى جاءت كثير من الأحاديث الشريفة، منها: قال عليه الصلاة والسلام: « سبع يجري
للعبد أجرهنَّ وهو في قبره بعد موته: من علَّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر
بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورَّث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد
موته».
وسيأتي تفصيل القول في هذه الآثار
التي ينتفع بها العبد بعد موته
فمن توفيق الله للعبد أن يوفقه لأن
يستثمر لما بعد موته فلا ينقطع عنه الأجر ولا يحرم من الحسنات، فالكيس الذي يعمل
لما بعد الموت، عندما ينتقل من دار العمل إلى دار الحساب، حيث يتمنى ركعة أو صدقة
فلا يستطيع أن يفعلها.
فيا أخي وأختي قبل أن تنشر مقطعًا أو
تسجيلا انظر إليه وتأمل فيه، أين يكون يوم القيامة، هل في ميزان حسناتك أو ميزان
سيئاتك، فإن كان خيرًا فانشره وأن كان شرًّا فأحجم، وخصوصا في هذا الزمن الذي
يتسابق فيه الناس على نشر مقاطع لهم والتفاخر بعدد المتابعين لهم الذين يحاولون
نيل إعجابه واستمرار متابعتهم لهم، فينشرون كل ما وقع بأيديهم لا يسألون أهو حرام
أم لا ثم يرجعون إلى بيوتهم يتفاخرون فيما بينهم أن الفيديو الذي نشره فلان، أو
صورته المشهورة بنت فلان قد نال إعجاب ملايين الناس، وحاز على رضاهم، وما علم هذا
المسكين وهذه المسكينة أن هؤلاء سيأتون يوم القيامة ويعطون من حسناتهم، فإن فنيت
حسناتهم أخذ من سيئاتهم ووضعت عليهم، فيهلكون، وليعلم الجميع أن الحساب شديد، وأن
العذاب أليم، فكيف بمن يأتي وعلى ظهره أوزار غيره يجرها، ويحاسب عليها … نسأل الله
السلامة
عبادَ اللهِ: لقد سطَّرَ التاريخُ سيرَ
الأنبياءِ والصّالحينَ، وعلى رأسِهِم أكرمُ الخلقِ نبيّنا محمدٌ -صلى اللهُ عليهِ
وسلّم-؛ فقد تركوا آثاراً وأعمالًا جليلةً في خدمةِ دينِ اللهِ -جلّ وعلَا-
ونشرِه، وهكذا سائرُ العلماءِ منَ السّلفِ ومَنْ بعدَهمْ إلى وقتِنا الحاضِر, ومن
كريمِ فضلِ اللهِ -تعالى- على عبادِه الصالحينَ أنْ اصطفاهمْ من بينِ خلقِهِ، ثمّ
زرعَ في قلوبِهم الإخلاصَ له ومحبتِهِ وخشيتِهِ ووفقهمْ وأعانهمْ على العملِ بما
يُرضيهِ، ثمّ كتبَ لهم كلّ ما يقومونَ بهِ منَ الأعمالِ والأقوالِ والنياتِ
الصّالحةِ في كتابٍ لا يترُكُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصَاهَا.
وممّا وردَ في ذلكَ قولهُ -جلّ وعلًا-:"إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ
شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين)[يس:12]؛ وسببُ نزولِ هذهِ الآيةِ كما
رُوِيَ عن أَبُي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ -رضيَ اللهُ عنهُ-: كَانَ بَنُو سَلِمَةَ
فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ
الْمَسْجِدِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ), فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ آثَارَكُمْ تُكْتَبُ فَلِمَ
تَنْتَقِلُونَ؟"(رواه أحمد), وفي روايةٍ أخرى قَالَ: شَكَتْ بَنُو سَلِمَةَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بُعْدَ مَنَازِلِهِمْ
مِنَ الْمَسْجِدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تعالى-: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآثَارَهُمْ), فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
"عَلَيْكُمْ مَنَازِلَكُمْ؛ فَإِنَّمَا تُكْتَبُ آثَارُكُمْ"(رواه
عبدالرزاق في مصنفه).
وقدْ أشارَ ربُّنا -جلّ وعلَا- في هذهِ
الآيةِ إلى أربعةِ أشياءَ: أنَّه يُحيِي الموتَى، وأنّهُ يكتبُ ما قدّموا في
الدُّنيا، وأنّهُ يكتبُ آثَارهم، وأنّهُ أحصى كلَّ شيءٍ في كتابٍ بيّنٍ واضحٍ.
في تفسيرِ القرطبيُّ -رحمهُ اللهُ-
لهذهِ الآيةِ: "يقولُ -تعالى- ذكرُهُ: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى)
مِنْ خلقِنا, (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا) في الدُّنيا منْ خيرٍ وشرٍّ، وصالحِ
الأعمالِ وسيئِها". وقال البغويُّ -رحمهُ اللهُ-: "(إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي الْمَوْتَى) عِنْدَ البعثِ، (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا) مِنَ الأعمالِ منْ
خيرٍ وشرٍ, (وَآَثَارَهُمْ)؛ أيْ: مَا سَنّوا مِنْ سُنّةٍ حسنةٍ أو سيئةٍ".
وقالَ السعديُّ -رحمهُ الله-:
"أيْ: نبعثُهم بعدَ موتِهمْ لنُجازيهمْ على الأعمالِ، مِنَ الخيرِ والشّرِّ،
وهو أعمالُهم التي عمِلُوهَا وباشرُوهَا في حالِ حياتِهِم، (وَآَثَارَهُمْ) وهي
آثار الخير وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم".
عبادَ اللهِ: ومِنْ أعظمِ النّعَمِ
الّتِي يمنُّ بها اللهُ -جلّ وعلَا- على عبادِهِ أنْ يجعلَ لهمْ آثارًا طيبةً؛
يُحْيِي بها ذِكْرَاهُمْ، ويُجري بها أجرَهم، ويمدُّ بها أعمارَهم بدوامِ الحسناتِ
بعدَ موتهِمْ، وكذلك إذا كانَ العملُ الصالحُ بدايته نيةٌ صالحةٌ جعلَ اللهُ أثرهُ
يزدادُ رسوخاً وعمراً وقبولاً.
والعاقلُ اللبيبُ هو الذي يجعلُ
الآخرةَ نَصبَ عينيهِ، ويُزكّي نفسَهُ وعملَهُ بما يوافقُ قولَه فعلَه، يقولُ -جلّ
وعلَا-: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة:112], وهوَ الذي
يتركُ أثراً بعدَ رحيلهِ عنِ الدّنيا، يقولُ -صلى اللهُ عليهِ وسلّم-: "إِنَّ
مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ، وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ:
عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا
وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ،
أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ
وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ"(رواهُ ابنُ ماجةَ، وحسَنهُ
الألباني)؛ فجميلٌ أنْ يتركَ المسلمُ أثراً طيّباً لنفسهِ ولغيرهِ في سائرِ أبوابِ
الخيرِ
ومنْ أعظمِ ما يُقدَّمُ في هذا البابِ
الدعوةُ إلى اللهِ -جلّ وعلَا-, ونشرِ العلمِ الشّرعيِّ عن طريقِ العلماءِ
الربّانيينَ, الذينَ يقومونَ بجهودٍ كبيرةٍ لنشرِهِ ونفعِ النّاسِ بهِ، وكذلكَ
الأوقافُ الإسلاميةُ التي تركها أهلُها للنفعِ العامِ والمتعدي، وهكذا في سائرِ
أبوابِ الخيرِ؛ فالأمّةُ -وللهِ الحمدُ والمِنّةُ - مليئةٌ بالصورِ المشرقةِ منذُ
عهدِ الصحابةِ وحتى وقتِنا هذا
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله أما بعد عباد الله
صورِ من صناعةِ الأثرِ في حياةِ المسلمينَ
أيّها المؤمنون والمؤمنات: ومِنْ صورِ
صناعةِ الأثرِ في حياةِ المسلمينَ ما يلي:
كَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ
خطواتِ العبدِ إلى المسجدِ
تُكتبُ له بها الحسناتُ، وتُرفعُ بها الدرجاتُ، وتُزالُ بها الخطيئاتُ؛ فكلّما
كانَ المسجدُ بعيداً كانَ الأجرُ عظيماً، قالَ -صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ-:
"أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا في الصّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ
مَمْشَى، وَالّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتّى يُصَلّيهَا مَعَ الْإِمَامِ
أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الّذِي يُصَلّي ثُمّ يَنَامُ"( البخاريُّ،
ومسلم)، وقالَ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم-:"أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا
يَمْحُو اللهُ بِهِ الُخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدّرَجَاتِ؟" قَالُوا:
بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ،
وَكَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وانتظارُ الصّلاةِ بَعْدَ الصّلَاةِ؛ فَذَلِكُمُ
الرِّبَاطُ"( رواهُ مسلم)، والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ.
الصدقةُ وآثارُها في حياةِ
العبدِ: لمّا قدمَ النبيّ -صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ- والمهاجرونَ المدينةَ استنكرَ
المهاجرونَ ماءَهَا إذْ لمْ يكنْ فيها ماءٌ عذبٌ إلّا ماءَ بئرِ رومةَ، كانتْ
لرجلٍ من بني غفار، وكان لا يسمحُ بالشّربِ منها إلّا بثمنٍ, فكانَ يبيعُ منها
القربةَ بِمُدِّ. فقالَ لهُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلّم-: "تَبِيعُنِيهَا
بعينٍ في الجَنّةِ؟"، فقالَ: يا رسولَ الله! ليسَ لِي ولَا لِعِيالي غيرُها،
فبلغَ ذلكَ عثمانَ بنَ عفّان -رضي اللهُ عنهُ-، فاشتراها من صُلبِ مَالِهِ بخمسةٍ
وثلاثينَ ألفِ درهم، وقيلَ بغيرِ ذلك، ثمّ أتَى النبيَّ -صلّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ- فقالَ: أَتَجْعَلُ لي فيها ما جعلتْ لهُ؟ قَالَ:"نَعَمْ".
قَالَ: قدْ جعلتُها للمسلمينَ. وفي روايةٍ أنّ النبيّ -صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ-
قالَ لهُ: "اجْعَلْهَا سِقَايةً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَجْرُهَا لَك"؛
فجَعلهَا وقفًا في سبيلِ اللهِ للفقيرِ والغنيِّ وابنِ السبيلِ، وهي إلى الآن
يستمرُّ نفعُهَا للمسلمينَ وأجرُها يَجْرِي للصّحَابيِّ الجليلِ عثمانَ -رضي الله
عنهُ-.
التربيةُ والتنشئةُ الصالحةُ
للأولادِ؛ فمَنْ حفَّظَ ابْنَهُ كتابَ اللهِ -جلّ وعلَا-، وعلَّمهُ العلمَ الشّرعي
وعَمِل بهما كانَ ذلكَ ثمرةً طيبةً لهُ في حياتِهِ وبعدَ مماتِهِ، ومنَ القَصَصِ
الجميلة في ذلك: ما رُوِيَ عن أمّ سليمٍ
-رضيَ اللهُ عنها- أنّها أسلمتْ مع السّابقينَ إلى الإسلامِ من الأنصارِ وتركَ لها
زوجُها ابنَها أنسَ بن مَالك، ولمّا قدِمَ النبيُّ الكريمُ -صلى الله عليه وسلمَ-
إلى المدينةِ لمْ تجدْ شيئًا تقدمُه إليه سِوى فلذةِ كبدِها وقُرّةُ عينِها، قال
أنسُ -رضي اللهُ عنهُ-: جاءتْ بي أمّي إلى رسولِ اللهِ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ-،
وقدْ أزرتنِي -أي جعلتْ نصف خمارِها إزارًا لي- بنصفِ خمارِها، وردَّتني بنصفهِ
-أي جعلت بقيةَ النصفِ رداءً لي-، فقالتْ: يا رسول الله! هذا أنسُ ابني, أتيتُك به
يخدِمُك فادْعُ اللهَ لهُ، فقال: "اللّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ
وَوَلَدَهُ"(رواه مسلم)؛ فكانَ أكثرَ الناسِ مالاً وذرّيّةً وبركةً؛ فقدْ
خرجَ من صلبهِ الإمامُ مالكُ بنُ أَنَسٍ -رحمهُ اللهُ-، والذي انتشرَ علمه في
الآفاقِ بفضلِ دعوةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- لوالده، وعاش من أحفاد أنس في
حياته ما يزيد على مائة نفس.
وروى أهلُ التّاريخ عن الإمام أحمدَ بن
حنبلَ -رحمه اللهُ- أنّ أباهُ قد ماتَ عنهُ وهو صغيرٌ, فقامتْ أمُّهُ على تربيتهِ،
ونشأتهِ على حبّ اللهِ ورسولِهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ-، يقولُ -رحمهُ اللهُ-:
"حفظتني أمِّي القرآنَ وأنا ابنُ عشرِ سنينَ, وكانت توقظني قبلَ صلاةِ
الفجرِ, وتُحمّي لي ماءَ الوضوءِ في ليالي بغدادَ الباردةِ، وتُلبسُني ملابسي، ثم
تتخمرُ وتتغطى بحجابِها، وتذهبُ معي إلى المسجدِ للصلاةِ ولطلبِ العلمِ؛ لبُعدِ
بيتِنَا عن المسجدِ ولظلمةِ الطريقِ"؛ فغرستْ فيه غراسَ الإيمانِ منذ
الصِّغَرِ؛ ليصبحَ فيما بعدُ إمامًا لأهلِ السنةِ والجماعةِ؛ وليجمعَ بين علومِ
الشّريعةِ وعلى رأسِها الفقهُ والحديثُ وبين الزهدِ والورعِ، وكلّ ما قدَّمهُ هذا
الإمامُ في ميزان حسناتِ أمّهِ التي أحسنتْ تربيتَهُ, وأعانتهُ على سلوكِ طريقِ
العلمِ
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم:"إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا* وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا*
وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا* يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا* بِأَنَّ
رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا* يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا
أَعْمَالَهُم..."
: فاتَّقوا اللهَ -أيها المؤمنون
والمؤمنات- واعلمُوا أنَّ ما تقدموهُ لأنفسكمْ في هذهِ الدنيا يُكتبُ لكم في كتابٍ
عند ربًّ لا يضل ولا ينسى.
الدعوة إلى الله تعالى
عبادَ اللهِ: ومن صورِ صناعةِ الأثرِ:
إرشادُ الناسِ إلى صراطِ اللهِ المستقيمِ، وتعليمُهم الخير، وتحذيرُهم من الشر،
وتأليفُ الكتبِ النافعةِ، وإلقاءُ الدروسِ والمحاضراتِ، وإلقاءُ الكلماتِ وغير ذلك
من الأعمالِ التي يقومُ بها العلماءُ الربانيونَ والدعاةُ المصلحونَ منذُ سلفِنَا
الصّالِح إلى وقتِنَا الحاضِر.
ومنْ جميلِ الأثرِ مَا وردَ في قصّةِ
أصحابِ الأُخْدُودِ عندما أسلمُوا جميعُهم بسببِ كلمةِ الغلامِ الصّالِحِ, الذي
قال لملكِ قومِه حينما أرادَ قتله: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا
آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ
وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ, ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعْ
السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ, ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ,
ثُمَّ ارْمِنِي؛ فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ
فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ, وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ
كِنَانَتِهِ, ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ, ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ
اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ, ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ,
فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ, فَقَالَ النَّاسُ:
آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ, آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ, آمَنَّا بِرَبِّ
الْغُلَامِ.
التحذير من الأثر السيء
عباد الله: وعكسُ ذلكَ الآثارُ السيئةُ
لأقوامٍ لا يستحيونَ من ربّهمْ، ولا يخافونَ من سطوتِهِ؛ فيحاربونِ دينَهُ،
ويبارزونَهُ بالمعاصِي والذنوب، وينشرونَ الفسادَ في أرضِهِ، أولئك حَرَمُوا
أنفسَهم من رحمتِهِ ورضوانِهِ.
ولا شكَّ أنّ كلّ صانعِ سوءٍ يضرُّ
نفسَه ومجتمعَه وأمتَه من خلالِ مواقِعِ إلكترونيةٍ يزينُ بها الشهواتِ, وينشرُ عن
طريقِها الشبهاتِ، عليه آثامُ كلَّ من تبعَهُ، قال -جلّ وعلَا-: (لِيَحْمِلُوا
أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُم بغير ألا ساء ما يزرون) [النحل: 25]، وقال -صلى الله عليه وسلم-:
"مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى, كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ
تَبِعَهُ, لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا, وَمَنْ دَعَا إِلَى
ضَلَالَةٍ, كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ, لَا
يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أوزارهم شَيْئًا".
أسألُ اللهَ -جلّ وعلَا- أنْ يجعلَنا
ممنْ تُكتبُ آثارهُم بكلّ خيرٍ، وأنْ يعصمَنا وإيّاكُمْ من الغِوَايةِ والزّلَلِ،
إنّهُ وليُّ ذلكَ والقادِرُ عليهِ.
وصلّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى فقدْ أمركم اللهُ بذلكَ فقالَ جلّ مِنْ قائلٍ عليمًا: (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
آية مرعبة لمن تأملها مخيفة لمن استشعر
معانيها، وفهم مدلولها؛ فهي تعلمنا أن أعمال العباد محسوبة محصاة في كتاب، وأن
آثارهم التي تركوها بعد موتهم يحاسبون عليهم، فإن كانت خيرًا فحسنات مستمرة بعد
مماته، وإن كانت شرًّا فسيئات تصله إلى قبره بعد موته؛ ﴿ لِيَحْمِلُوا
أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ [النحل: 25].. فكل ما
نقوله أو نعمله في حياتنا ويبقى ويستمر بعد وفاتنا نحن محاسبون عليه، مجزيون به؛
قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12]؛ يقول
مجاهد رحمه الله في تفسيرها: أي ما أورثوا من الضلالة.
ويقول الشيخ السعدي في تأويل هذه الآية:"إِنَّا
نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى... ﴾؛ أي: نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال، ﴿
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا ﴾ من الخير والشر، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في
حال حياتهم، ﴿ وَآثَارَهُمْ ﴾ وهي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في
إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم
وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، أو أمره
بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في
حياته وبعد موته، أو عمل خيرًا، من صلاةٍ أو زكاةٍ أو صدقةٍ أو إحسان، فاقتدى به
غيره، أو عمل مسجدًا، أو محلًا من المحال التي ينتفع بها الناس، وما أشبه ذلك،
فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر، ولهذا: « من سن سنة حسنة فله أجرها
وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها
إلى يوم القيامة»، وهذا الموضع، يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى اللّه والهداية إلى
سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك، ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمامِ فيه،
وأنه أسفل الخليقة، وأشدهم جرمًا، وأعظمهم إثمًا). أ. هـ
وعن سعيد بن جبير رحمه الله في قوله: ﴿
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ﴾؛ يعني: ما أثروا. يقول: ما سنوا من سنة،
فعمل بها قوم من بعد موتهم، فإن كان خيرًا فله مثل أجورهم، لا ينقص من أجر من عمله
شيئًا، وإن كانت شرًّا فعليه مثل أوزارهم، ولا ينقص من أوزار من عمله شيئًا).
فأعمال العباد محصية مدونة، يجازى بما
عمل يوم القيامة، ويجري عليه إثر تلك الأعمال بعد موته، فإن كانت أعمال تدعوا
للخير وتبين الحق، وينتفع الناس بها كانت حسنات تجري له وهو في قبره، وإلى هذا
المعنى جاءت كثير من الأحاديث الشريفة، منها: قال عليه الصلاة والسلام: « سبع يجري
للعبد أجرهنَّ وهو في قبره بعد موته: من علَّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر بئرًا،
أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورَّث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته».
فمن توفيق الله للعبد أن يوفقه لأن
يستثمر لما بعد موته فلا ينقطع عنه الأجر ولا يحرم من الحسنات، فالكيس الذي يعمل
لما بعد الموت، عندما ينتقل من دار العمل إلى دار الحساب، حيث يتمنى ركعة أو صدقة
فلا يستطيع أن يفعلها.
فيا أخي وأختي قبل أن تنشر مقطعًا أو
تسجيلا انظر إليه وتأمل فيه، أين يكون يوم القيامة، هل في ميزان حسناتك أو ميزان
سيئاتك، فإن كان خيرًا فانشره وأن كان شرًّا فأحجم، وخصوصا في هذا الزمن الذي
يتسابق فيه الناس على نشر مقاطع لهم والتفاخر بعدد المتابعين لهم الذين يحاولون
نيل إعجابه واستمرار متابعتهم لهم، فينشرون كل ما وقع بأيديهم لا يسألون أهو حرام
أم لا ثم يرجعون إلى بيوتهم يتفاخرون فيما بينهم أن الفيديو الذي نشره فلان، أو
صورته المشهورة بنت فلان قد نال إعجاب ملايين الناس، وحاز على رضاهم، وما علم هذا
المسكين وهذه المسكينة أن هؤلاء سيأتون يوم القيامة ويعطون من حسناتهم، فإن فنيت
حسناتهم أخذ من سيئاتهم ووضعت عليهم، فيهلكون، وليعلم الجميع أن الحساب شديد، وأن
العذاب أليم، فكيف بمن يأتي وعلى ظهره أوزار غيره يجرها، ويحاسب عليها … نسأل الله
السلامة!.
إخوة الإيمان: تعالوا اليوم نتأمل آية
في كتاب الله، فالقرآن الكريم فيه رحمة وهدى وموعظة وشفاء.
يقول سبحانه ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي
الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ
فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12]. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أربعةَ أشياء:
الأول: أنه يحيي الموتى مؤكداً ذلك
متكلماً عن نفسه بصيغة التعظيم.
الثاني: أنه يكتب ما قدموا في الدنيا.
الثالث: أنه يكتب آثارهم.
الرابع: أنه أحصى كل شيء في إمام مبين
أي: في كتاب بين واضح. (أضواء البيان 6 /654).
وسوف نركز حديثنا حول الثالث وهو
الآثار ونعرض للبقية باختصار.
قال سبحانه ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي
الْمَوْتَى ﴾ قال السعدي: أي: نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال.
وفي الجملة التي بعدها قال ابن جرير: ﴿
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا ﴾ في الدنيا من خير وشر، وصالح الأعمال وسيئها.
وفي قوله ﴿ وَآثَارَهُمْ ﴾ قولان
مشهوران لأهل العلم وكلاهما صحيح ولا تعارض بينهما بل لكل منهما شواهد من القرآن
والسنة.
التفسير الأول: قال الحسن وقتادة: (
وآثارهم ) يعني: خطاهم؛ فعن جابرِ بنِ عبدِاللهِ قال: خلتِ البقاعُ حول المسجدِ.
فأراد بنو سلمةَ أن ينتقلوا إلى قربِ المسجدِ. فبلغ ذلك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ
عليهِ وسلَّمَ. فقال لهم: " إنَّهُ بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قربَ
المسجدِ ؟" قالوا: نعم. يا رسولَ اللهِ! قد أردنا ذلك. فقال: " يا بني
سلمةَ! ديارَكم. تُكتبُ آثارُكم. ديارَكم. تُكتبُ آثارُكم " رواه مسلم.
ومما يشهد لهذا المعنى من القرآن قوله
سبحانه في المجاهدين" وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ "(التوبة: 121).
فخطواتك إن كانت في خير كتبت لك أجرا
وإن كانت في معصية كتبت عليك وزرا!.
قال قتادة: لو كان الله تعالى مغفلا شيئا
من شأنك يا ابن آدم، أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم
أثره وعمله كله، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله أو من معصيته، فمن
استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله، فليفعل.
والتفسير الثاني: آثار الخير وآثار
الشر فيموت الإنسان ويبقى أثر عمله الذي عمله في حياته، وما سنّه في حياته وصار
فيه قدوة. قال السعدي: "﴿ وَآثَارَهُمْ ﴾ وهي آثار الخير وآثار الشر، التي
كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من
أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه
ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في
كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيراً، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو
إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس،
وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر " اهـ.
وقال في أضواء البيان: " وأن معنى
آثارهم: هو ما سنوه في الإسلام من سنة حسنة أو سيئة فهو من آثارهم التي يعمل بها
بعدهم " اهـ وفي حديث ابن مسعود " ليس من نفسٍ تُقتلُ ظلمًا، إلا كان
على ابنِ آدمَ الأولُ كِفلٌ من دَمِها - لأنَّهُ أولُ من سنَّ القتلَ " أخرجه
الشيخان.
قال النووي: "وهذا الحديث من
قواعد الإسلام، وهو: أن كل من ابتدع شيئا من الشر كان عليه مثل وزر كل من اقتدى به
في ذلك العمل مثل عمله إلى يوم القيامة، ومثله من ابتدع شيئا من الخير كان له مثل
أجر كل من يعمل به إلى يوم القيامة ". ومما يشهد لهذا التفسير قوله تعالى ﴿
لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ
الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ﴾ [النحل: 25]
ويشهد لهذا التفسير أيضاً حديث "
من سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنةً، فله أجرُها، وأجرُ مَن عمل بها بعدَه. من غير
أن ينقص من أجورِهم شيءٌ. ومن سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سيئةً، كان عليه وزرُها
ووزرُ مَن عمل بها من بعده. من غير أن يَنقصَ من أوزارهم شيءٌ " رواه مسلم. و
من هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا مات الإنسانُ انقطع عنه
عملُه إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جاريةٍ. أو علمٍ ينتفعُ به. أو ولدٍ صالحٍ يدعو
له " رواه مسلم.
إخوة الإيمان:
إن آثار الإنسان باب عظيم للخير كما
أنه باب عريض للشر كذلك، وفي الحديث: " إنَّ هذا الخيرَ خزائنُ، ولتلكَ
الخزائنُ مفاتيحَ، فطوبَى لعبدٍ جعلهُ اللهُ مِفتاحًا للخيرِ مِغلاقًا للشرِّ،
وويلٌ لعبدٍ جعله اللهُ مِفتاحًا للشرِّ مِغلاقًا للخيرِ " رواه ابن ماجه
وحسنه الألباني.
معشر الكرام: تعالوا إلى بعض الأمثلة
من آثار الخير والشر و نسأل الله الصواب والسداد.
يتجر الإنسان بحثا عن الرزق، وقد تدخل
تجارته أو بعضها في آثار الخير أو الشر! فمن آثار الشر من يبيع الدخان فربما شرب
الدخان بسبب بيعه مئات أو آلاف له مثل آثامهم!
ومثل ذلك من يبيع الملابس النسائية
الفاضحة، ولعله لا يستشعر أن إثم لابسة هذا سيكون له منه نصيب! بل وإثم من نظر
إليهم أو افتتن بها! بينما من يوفر اللباس الساتر مأجور فهو يعين الناس على الحشمة
والخير. وهذا ينطبق كذلك على المستوردين والمصنعين.
وقريب منهم كذلك أصحاب دور النشر
والمكتبات فلا تستوي كتب تحوي نفعا وكتب تحوي ضررا!
وقد تكون آثار الإنسان بسبب كلمة
يقولها أو يكتبها! ولعله مر بكم سبب تصنيف البخاري لكتابه الصحيح، قال البخاري:
كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة النبي صلى الله
عليه وسلم، قال: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح. الله أكبر لقد
أثمرت كلمة إسحاق بن راهوية أصح كتاب بعد القرآن الكريم وكم من النفع العظيم الذي
حصل به خلال القرون!! وللحديث بقية.. نسأل الله أن يستعملنا في طاعته وأن يوفقنا
لمرضاته وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه.
أمور سهلة وخيرها عظيم الأثر
من الأمور السهلة وخيرها عظيم
الأثر :
تعليم الفاتحة وقصار السور للطفل فإنه
إذا حفظها بتعليمك له سيكون له بإذن الله مثل ثوابه كلما قرأها في صلاة أو غيرها!
وكذلك تعليم الطفل الصلاة وأذكارها! وكم في ذلك من الأجور! وأطفال اليوم هم رجال
الغد فلعلهم يعلمون غيرهم وهكذا فيكون لك خيراً مستمراً. سُجل القرآن صوتياً منذ
خمسين سنة وأكثر وسجلت أغان كذلك، فكم من الأجور لأهل القرآن ولمن علموهم! وكم من
الأوزار على أهل الغناء ومن نشروا لهم!
حين يهتدي بسببك كافر للإسلام فأنت
شريك في أجور عباداته ومن يهتدي بسببه، أسلم فلبيني بسبب كتيب عن التوحيد وصار
داعية فيما بعد وأسلم على يديه أكثر من عشرة آلاف! كلهم بإذن الله في صحيفة صاحب
الكتيب، " فوالله لأَن يهديَ اللهُ بك رجلاً واحداً، خيرٌ لك من أن يكونَ لك
حُمْرُ النَّعَمِ " (أخرجه الشيخان).
قد توقف كتاباً كرياض الصالحين أو
كتيباً كحصن المسلم فيكون له نصيب من أجور من تعلم منه وعمل به علما أن حصن المسلم
صغير الحجم عظيم النفع ويباع بريال واحد!
قد توقف مصحفاً أو تهديه فتحصل على مثل
ثواب القارئ وهذه من أبواب الخير المتيسرة ولله الحمد.
ومن أبواب الخير العظيمة اليسيرة دلالة
غيرك على الخير، جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: إني أُبدِعَ
بي فاحمِلْني. فقال ( ما عندي ) فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ! أنا أدلُّه على من
يحملُه. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ( من دَلَّ على خيرٍ فله مثلُ
أجرِ فاعلِه ). رواه مسلم.
أيها الأحبة:
اليوم صارت مواقع التواصل تحتل جزءا
كبيرا من حياة الناس، وبعض الموفقين يستفيد منها من نواح دنيوية ودينية فينشر من
خلالها علما أو صدقة فتكون من آثار الخير الباقية الجارية للإنسان وبعضهم هي عليه
وزر وآثار فهو ينشر عبرها محرمات فتكون أوزاراً مستمرة فيجد مع أوزاره يوم القيامة
أوزار ملايين بسبب ما نشره! وعدد مشاهدات مقاطع الفيديو في أحد المواقع الشهيرة
عشرات الملايين فهنيئا لمن استغلها في الخير وما أعظم خسارة من استخدمها في شر!.
قد تغتاب مسلمًا في مجلس فيروى غيبتك
بعض الحاضرين في مجالس أخرى أو يتناقلها الناس في وسائل التواصل فتكون آثامهم عليك
لأنها من آثار عملك! قد تطلق على شخص لقباً فيبقى أجيالاً ينبز به فتكون تسببت
لنفسك بآثام كثيرة هي من آثار عملك السيئ!.
ومن أبواب الخير العظيمة في زماننا
المساهمة في الأوقاف الخيرية وهي كثيرة متنوعة فبعضها لمصارف القرآ