recent
أخبار عاجلة

خطبة الجمعة علو الهمة لفضيلة الشيخ صلاح عبدالخالق

 علو الهمة

  تعريف علو الهمة وضده

  أهمية علو الهمة للإنسان والمجتمع

  أدلة من الوحي على علو الهمة

  صور تطبيقية من علو الهمة

  مظاهر دنو الهمة في واقعنا

  أسباب ضعف الهمة

  وسائل رفع الهمة

  الهمة في مجالات الحياة

  التربية على علو الهمة

  علو الهمة في القرآن والسنة والسلوك

  التحذير من القناعة بالدون

  دعوة للتغيير

  خاتمة

الحمدُ للهِ الكريمِ الوَهّاب، رافِعِ الهممِ، وباعثِ الطاقاتِ، ومُعزِّ من اتقاه واتبع هداه. نحمدُهُ سبحانه حمداً يليقُ بجلاله، ونشكرُه على نعمائه التي لا تُعدّ ولا تُحصى، ونشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، لهُ الحمدُ أولاً وآخِرًا، وظاهِرًا وباطنًا. ونشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، سيّدُ أصحابِ الهممِ العالية، وإمامُ السائرين إلى الله، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلّمَ تسليمًا كثيرًا.

عبادَ اللهِ! أُوصِيكم ونفسي الخاطئةَ المقصّرةَ بتقوى اللهِ عَزّ وجلّ، فمن كانت تقواهُ للهِ عظيمةً، كانت هِمّتُهُ إلى المعالي عظيمة، ومن كانت تقواه صادقة، سمت همته عن الرغباتِ السافلة، والشهواتِ التافهة، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18].

أمّا بعد،

أيها الأحبّة في الله! تأملوا حالَ الإنسانِ؛ حين يعيشُ بلا هدفٍ، بلا غايةٍ، بلا هِمّةٍ تشدُّه إلى علياءٍ أو تُحَلّقُ به في سُموٍّ! يُشبهُ جسدًا بلا روح، وسفينةً بلا شراع، يتخبّطُ في دوامةِ الأيامِ، تأكله السنين كما تأكلُ النارُ الحطبَ، لا بصمةَ له، ولا أثرَ يُذكر.

إنها الهممُ يا عباد الله! ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ [الشمس: 9]، وقد خاب من غفلَ عنها أو وأدَها تحتَ ترابِ التواكلِ والخمولِ.

الناسُ صنفان:

- نفوسٌ عظيمةٌ تتوقُ إلى المعالي، تسمو في عبادتها، تُبدع في عطائها، وتبني بأحلامها مجدَها.

- ونفوسٌ صغيرةٌ تهيمُ في أوديةِ الدنيا، تمضي أعمارُها في سفاسف الأمور، لا همّ لها إلا اللذةُ العاجلةُ أو المتعةُ الزائلة.

قال الإمام ابن القيم: "علو الهمة ألا تقف دون الله، ولا تتعوّض عنه بشيءٍ سواه". (مدارج السالكين، ج3، ص44).

بل حدّثوا أنفسكم  رعاكم الله-: أما آن لنا أن نرفعَ رؤوسنا إلى السماء، أن ننظر إلى من سبقنا في مضمارِ العزِّ والإيمان؟

أما آن لأرواحنا أن تقول: لا أرضى بالدُّون، لا أرتضي حياة الخمول؟!

أيها المؤمنون! علو الهمة:

- هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وتركُ الدنايا، ورفضُ التوافه، والتطلعُ لما يُرضي اللهَ ويُنفع العبدَ في الدنيا والآخرة.

- هو السموُّ عن الكسل، والتحليقُ فوقَ التفاهة، والعزيمةُ على التميز في الطاعة والعطاء والعمل الصالح.

ولا تَغتَرُّوا بالطموحِ الماديِّ المجردِ!

فكم من طموحٍ لم يكن هِمّة؛ بل كان عبوديةً للمالِ أو للجاهِ أو للذاتِ!

علو الهمة ليس شهرةً، ولا ثروةً، ولا منصبًا؛ بل هو ما سمَتْ به النيّةُ، وارتفع به القلبُ، واتّصل فيه الطريقُ بالدار الآخرة.

وضده: دنوّ الهمة، الكسل، التسويف، اللهو، التفاهة.

قال ابن الجوزي رحمه الله: "من علت همّته طال همُّه" (صيد الخاطر، ص44).

عباد الله! علو الهمة:

- هو سرُّ التميز والخلود في سجلات العظماء،

- وهو مفتاح النجاح الدنيوي والأخروي.

- وما تقدّم السابقون، ولا ساد المجتهدون، ولا سعد الصالحون، إلا بعلو هممهم.

- هو علامةُ صدق الإيمان، ودليلُ قوةِ التوكلِ على الله، وسِرُّ السبق في ميادين الخير. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69].

- وبه تُبنى الأمم، وترتقي المجتمعات، وتُهذّب النفوس.

الله سبحانه لا يرضى من عبده إلا المعالي؛ لذا:

- قال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: 133]،

- وقال: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذاريات: 50]،

- وقال: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26].

- بل واسمعوا رسولَ الله ﷺ يربّي أمّتَه على معالي المقاصد: «إذا سألتمُ اللهَ؛ فاسألوهُ الفِردوسَ الأعلى» [رواه البخاري: 2790].

- وفي حديث آخر: «إنَّ اللهَ يحبُّ معاليَ الأمورِ، ويكرهُ سفسافَها»

[رواه الطبراني في "الكبير" (831)، وصحّحه الألباني].

انظروا إلى:

* أعظم الخلقِ همةً؛ محمد ﷺ!:

- لم يرتَح يومًا من البلاغ،

- لم يتوقف عن دعوة،

- نام جائعًا، وبات ساجدًا، وقاتل وجاهد، وعلَّم وربّى، حتى قال الله فيه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ [التوبة: 128].

* وأبو بكرٍ الصدّيقُ رضي الله عنه، أنفق كلّ مالِه يوم الحاجة! ولمّا قال له ﷺ: «ما أبقيتَ لأهلك؟» قال: "أبقيتُ لهم اللهَ ورسولَه" [رواه الحاكم في المستدرك (3/324) وقال: صحيح الإسناد].

و* عمرُ رضي الله عنه في عدلِه وقيادتِه،

* وعثمانُ رضي الله عنه حين جهّزَ جيشَ العسرة بألف بعيرٍ،

* وعليٌّ رضي الله عنه، في علمِه، وشجاعتِه، وبلاغتهِ، وبذلهِ في نصرةِ الدينِ.

* وتأملوا سفيانَ الثوري، والإمام أحمد، وابن المبارك... الليلُ عندهم مجالسُ علمٍ أو تهجّد، والنهارُ ساحاتُ تعليمٍ أو جهادٍ أو نصحٍ أو طلبِ علم. قال الإمام أحمد: "طلبتُ الحديثَ وأنا ابنُ خمسَ عشرةَ سنةً، وطُفتُ فيه البلدان" (سير أعلام النبلاء، ج11، ص182).

وقال ابن المبارك: "نحن إلى قليلٍ من الأدبِ أحوجُ منّا إلى كثيرٍ من العلم" (الجامع لأخلاق الراوي، للخطيب البغدادي، ج1، ص162).

أيها المسلمون! همّةُ القلوبِ هي مِحرَكُ الحياة، ومن سمتْ همّتُه، سمتْ عبادتُه، وخلُصت نيتُه، واستقامت طريقتُه.

إذا كانت النفوسُ كبارًا ** تعبتْ في مرادِها الأجسامُ

ومن يتهيبْ صعودَ الجبالِ ** يعشْ أبدَ الدهرِ بين الحفرِ

أيُّها الأحبَّةُ المؤمنون! ليسَ ما يُدمِي القلبَ في زماننا فقط هو قلَّةُ العملِ؛ بل هُبوطُ الهِمَم، واستِمراءُ الخمولِ، والتصالحُ مع الدُّون!:

- لقد أصبحنا في زمنٍ يعبدُ فيه كثيرٌ من الناسِ الراحةَ، وكأنها الغايةُ والمقصد، لا وسيلةً لاستعادةِ النشاطِ والانطلاقِ.

الركونُ إلى الراحةِ واللهو صار نمطَ حياة، حتى باتت أعمارٌ كاملةٌ تُهدر بين سريرٍ ناعمٍ، وشاشةٍ صامتةٍ، وثرثرةٍ فارغة، لا تسبيحةَ فيها، ولا مجلسَ علمٍ، ولا ركعةَ تهجّد!

- والتساهلُ في طلبِ العلمِ والدينِ جُرحٌ نازفٌ في صدرِ الأمة؛ كم من شابٍّ يملك ذكاءً متقدًا، وعقلاً ناضجًا، ثم يُنفقُ عمرَه في تتبُّعِ التوافه، ويعجزُ عن قراءةِ جزءٍ من كتابِ الله، أو حفظِ عشرةِ أحاديثَ من سنةِ نبيِّه ﷺ؟!

- والانشغالُ بتوافهِ الأمورِ أصبح سِمَةَ حياةِ كثيرٍ من أبناءِ الأمة؛ تُستنفدُ الطاقاتُ في متابعةِ مبارياتٍ لا ترفعُ الدرجات، وفي جدالٍ على سُفاسفَ تُتلفُ العلاقات، وفي تتبع أخبارِ المشاهيرِ الذين لا يُقرّبون من اللهِ زُلفى!

- وأعظمُ المصائبِ: فقدانُ الطموحِ الإصلاحيِّ والدعويّ، فمَن مِن شبابِنا اليوم يُفكّر كيف يُصلِحُ مجتمعه؟ كيف يرفعُ الجهل؟ كيف يُقيمُ مدرسةً؟ كيف ينهضُ بقريته؟ كيف يُصلحُ بين متخاصمين؟

لقد نسينا قولهُ تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [فصلت: 33].

قال الإمام مالكٌ رحمه الله: "ما ارتفعت رايةٌ، ولا انتشرَ علمٌ، ولا سادَ قومٌ، إلا بِهِمَمِ أبنائهم" (المدخل لابن الحاج، ج1، ص118).

أيُّها الأحبابُ الكرام! إنَّ الهِمَّةَ لا تَهبِطُ من السماءِ فجأةً، ولا تخبو فجأةً... وإنما تُطفَأُ شيئًا فشيئًا، حتى تنطفئَ تمامًا، ويَظنُّ المرءُ أنه خُلِقَ للراحةِ فقط:

- أولُ الأسباب: ضعفُ الإيمان باللهِ والدارِ الآخرة.؛ فإذا غابَ الإيمانُ، فترَ العزم، وخمدتِ الطموحاتُ، وسكنَ القلبُ للدنيا. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾ [يونس: 7].

- وثانيها: الصحبةُ السيئة؛ فهي آفةُ العزائم، ومثبّطةُ الهمم، وصانعةُ الأوهام! قال ﷺ: «المرءُ على دينِ خليلهِ، فلينظرْ أحدُكم من يُخالِل»

[رواه أبو داود: 4833، وصححه الألباني].

- وثالثُ أسبابِ ضعف الهمة: الانغماسُ في الملهيات؛ فوسائلُ اللهوِ – وإن لم تكن حرامًا – إذا تجاوزَتِ الحدَّ قتلتِ الهمةَ، وأتلفتِ القلب. قال الفضيل بن عياض: "من أكثرَ من مخالطةِ الناسِ قلَّتْ همّتُه" (حلية الأولياء، ج8، ص88).

- ورابعُها: فقدانُ القدوة؛ فحين يغيبُ المعلّمُ، المربّي، الإمام، والداعيةُ، وتخلو البيوتُ من آباءٍ يَحتذِي بهم الأبناءُ؛ فمن سيربّي الهمةَ؟!

- وخامسُ أسبابِ ضعفِ الهمةِ: ثقافةُ التثبيطِ والاستهزاء؛ فكم من شابٍّ أرادَ أن يحفظَ القرآنَ، فقيلَ له: "هل ستصبح شيخًا؟!" وكم من فتاةٍ سعتْ إلى العملِ التطوّعيِّ أو الدّعويِّ فقيلَ لها: "ما الفائدة؟!". وصدقَ مَنْ قالَ:

إذا كنتَ في قومٍ فصاحبْ خيارَهمْ **

ولا تصحبِ الأردى فتردى مع الردي

أيُّها الفضلاء! ليس شيءٌ أغلى على القلبِ من الهمةِ العالية، وإذا عرفنا أسبابَ ضعفِها، فإنَّ بناءَها مُمكنٌ! بل واجبٌ، ومن وسائلِ ذلك:

- تعظيمُ اللهِ والآخرةِ في القلب؛ فكلُّ مَن عظُم ربُّه، عظُم مقصدُه، وكلُّ من تذكّر الموتَ، وهولَ القبرِ، وعظمةَ الجنةِ، عافَ الدنيا وزهرتَها. قال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: 98].

- ومنها: الصحبةُ الصالحةُ والقدواتُ الملهمة؛ فمجالسةُ العظماءِ تصنعُ فيك عظَمة، ومجالسةُ الصالحينَ تُشعلُ فيك نورَ الطموح. قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "إنما يَصْلُحُ الناسُ بصُحبةِ مَن هو فوقَهم في الدِّين" (حلية الأولياء، ج1، ص327).

- ومن وسائل رفع الهمة: قراءةُ سيرِ العظماء؛ ففي سيرِهم غذاءٌ للروحِ، وشحذٌ للهمة، ومقلاعٌ يرفَعُك من حضيضِ الركودِ. قال الإمام الذهبي: "من قرأ سِيَرَ السلفِ، حُثَّ على الطاعاتِ، واحتقرَ نفسَه" (سير أعلام النبلاء، مقدمة المؤلف).

- ومنها: الاستفادةُ من أوقاتِ النشاطِ واستغلالُ العُمر؛ قال ﷺ: «نِعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصحةُ، والفراغُ» [رواه البخاري: 6412].

- ومن وسائل رفع الهمة: تحديدُ الأهدافِ العظيمةِ والعملُ لها؛ فكن صاحبَ مشروعٍ يخدمُ دينَك، أو يرفعُ وعيَ أمتك، أو يروي حاجةَ مجتمعك.

- ومنها: الارتباطُ بالمشاريعِ النافعةِ للأمةِ والدين؛ فصيانةُ الهمةِ تكونُ بربطها بالحقِّ والعملِ له، بالمساجد، والمدارس، والمؤسساتِ الخيريةِ، والجهودِ الإصلاحية.

أيها المؤمنون الصادقون! إنَّ الهمةَ الصادقةَ لا تُحبسُ في مجالٍ واحدٍ؛ بل تُضيءُ كلَّ مناحي الحياةِ، وتُزيِّنُ كلَّ سلوكٍ وفعل:

- فالعبادة: ترى صاحبَها يحرصُ على الفجرِ في جماعةٍ، ويصومُ النافلة، ويتلذذُ بقيامِ الليل، ويرفعُ رأسه إلى الفردوسِ الأعلى. قال ﷺ: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ» [رواه مسلم: 2664].

- وفي طلبِ العلم؛ لا يكتفي بالقليل، ولا يرضى بسماعِ مقطعٍ عابرٍ؛ بل يقرأ، ويحفظ، ويفهم، ويعمل، ويُعلّم.

- وفي الإصلاحِ والدعوة؛ يتلمّسُ حاجاتِ الناسِ، ويُشارك في مبادراتِ الخيرِ، ويمدُّ يدَه لمن تقطّعت به الأسباب.

- وفي الإنجازِ المهنيِّ والإبداع؛ لا يرضى أن يكونَ موظفًا نمطيًّا؛ بل يسعى للتطوير، والابتكار، والإتقان؛ قال ﷺ: «إن اللهَ يحبُّ إذا عملَ أحدُكم عملاً أن يُتقنَه» [رواه الطبراني في "الأوسط" (9011)، وصححه الألباني].

- وفي المعاملةِ والخُلُق؛ تسمو نفسُه فلا يغتابُ، ولا يحقِدُ، ولا يطمعُ، ولا يُؤذي، بل يُنفقُ ويعفو، ويحسنُ ويصبر...

وصدق الله الجليل العظيم؛ إذ قال قال:

﴿إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90]

بارك الله لنا ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم والتواب الحليم

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الذي خَلَقَ النفوسَ وسوّاها، فألهمَها فجورَها وتقواها، ورفعَ أهلَ الهممِ في الدنيا والآخرةِ درجاتٍ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِه، ومن سارَ على دربِه وسُنّتِه إلى يومِ الدين.

وبعد، عبادَ الله!

فإنَّ الهِمَّةَ لا تُولَد في فراغ، ولا تنبتُ من صَخرٍ صلد؛ بل تُربّى في البيوت، وتُسقى في المدارس، وتُصاغ في المساجد، وتُبعث في المنابر، وتُحفَز في الإعلام، وتصنعها الكلمةُ الصادقةُ والنموذجُ الحيّ؛ فكيف نزرعُها في أبنائنا وطلابنا؟:

- نزرعُها بالثقةِ في قدراتهم،

- نزرعُها بذكرِ سيرِ العظماءِ أمامهم،

- نزرعُها بالمهامّ الكبرى التي نُحمّلهم إيّاها،

- نزرعُها بالاحتفاءِ بإنجازاتهم الصغيرةِ حتى تتعاظم.

وي عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنه قال: "ربُّوا أبناءكم لزمانٍ غيرِ زمانِكم":

- فالأسرة مسؤولة أن تُحاور أبناءَها عن الجنةِ؛ لا فقط عن الوظيفة.

- والمدرسة مسؤولة أن تُدرّس "المبادئ"؛ لا فقط "المواد".

- والمنبر مسؤول أن يشعل الحماسةَ؛ لا أن يُعيد النوم،/.

- والإعلام مسؤول أن يُلهمَ؛ لا أن يُلهي.

وقد رأينا نماذج تربويةً ناجحةً صنعتها كلماتٌ بسيطةٌ صادقةٌ؛ وقف الإمام الشافعي وهو طفلٌ صغيرٌ، فقالت له أمّه: "يا بني! إنَّ العلمَ لا يُؤتى إلا ببذلِ الروح، فمن لم يحتمل حرارةَ النهارِ، لم يتذوق بردَ الجنة". (الديباج المذهب، لابن فرحون، ص229).

عباد الله! علو الهمة ليست حالةً نفسيةً فحسب؛ بل هي إيمانٌ يفيضُ في السلوك، وتقوى تُثمرُ إنجازًا؛ قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾ [الحاقة: 33] أي أن مَن فقد الإيمان بالعظيم، هان عليه أن يعيشَ صغيرًا.

وأما مَن آمن باللهِ العظيم، فإن همّتَه تأبى أن تكون في سفاسف الأمور؛ ولذلك قال ﷺ: «أحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدومُها وإن قلَّ» [رواه البخاري: 6464، ومسلم: 783].

وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غربت فيه شمسُه، ونقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي" (حلية الأولياء، ج1، ص136).

فما دام القلب حيًّا بالإيمان، فلن يرضى؛ إلا بأعلى المقامات، ولن يسكن؛ حتى يُرضي ربّه.

أيها الأحبّة! القناعة بالدون ليست ورعًا؛ بل ذُلٌّ مغلّف، وكسلٌ مبرَّر، وتضييعٌ لعمرٍ لا يُعوّض. قال ﷺ: «إن اللهَ يحبُّ معاليَ الأمورِ، ويكرهُ سَفاسِفَها» [رواه الطبراني في "الأوسط" (831)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1627)].

فلا تكن صغيرًا وأنت ابنُ القرآن،

ولا تكن تابعًا وأنتَ ممن قيل فيه: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110].

إذا كانت النفوسُ كبارًا ** تعبتْ في مرادِها الأجسامُ

ومن يتهيبْ صعودَ الجبالِ ** يعشْ أبدَ الدهرِ بين الحفرِ

عبادَ الله! آن الأوانُ:

- أن نخلعَ عن قلوبِنا لباسَ التفاهة

- وأن نُعيدَ ترتيبَ أولويّاتنا

- ونُسائل أنفسَنا: ماذا فعلنا لله؟ ماذا قدمنا لديننا؟ ماذا نتركُ بعدنا للأمة؟!

والإقلاعُ عن التوافه واجب، والشروعُ في بناءِ مشروعٍ شخصيٍّ يخدمُ الدينَ أو العلمَ أو المجتمعِ مطلبٌ شرعيّ؛ فلتكن لك بصمة!:

- كُتيّبٌ تؤلّفه،

- فقيرٌ ترعاه،

- طالبُ علمٍ تُعلّمه،

- مسجدٌ تُنفقُ فيه،

- أو إصلاحٌ تجتهدُ فيه.

ارفعْ شعار: "لا مكانَ للتفاهةِ في حياةِ مؤمن".

أيها الأحبة! إن الجنةَ ليست لمن تمنى؛ بل لمن سَما، والمنازلُ العُلا لا تُنالُ بالتمنّي؛ بل بالسعي والتعب والصبر؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)﴾ [البينة].

وبشّر الصادقين المجتهدين؛ فإن الله لا يُضيّع أجرهم؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: 30].

فيا من سمتْ نفسُك إلى الله! استمرَّ ولا تلتفت.

ويا من كبَتتْك الأيامُ! فانهضْ وابدأ؛ فالحياةُ لا تستحق أن تُعاش إلا حين يسمو القلبُ؛ "سَما القلبُ، فارتقت الحياةُ".

هذا، وصلوا وسلموا على من أمر ربنا بالصلاة والسلام عليه؛ فقال:

﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ ۚ يٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب : 56].

اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمَّد، وعلى آل سيدنا محمَّد، عددَ خلقِك ورضى نفسِك وزنةَ عرشِك ومدادَ كلماتِك... وارضَ اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين، وعن الصحابةِ أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وعنا معهم برحمتك وفضلك يا أرحمَ الراحمينَ!

وأعرضْ اللهمَّ عليه صلاتَنا وسلامَنا في هذه الساعةِ يا ربَّ العالمينَ!

اللهم يا رافعَ الهمم، ويا باعثَ العزائم، نسألُك همةً عاليةً ترضيك، وتقرّبنا إليك، وتسمو بنا عن سفاسفِ الدنيا، وتشدُّنا نحوَ معالي الآخرة.

اللهم ارزقنا قلبًا حيًّا يتوقُ إلى الفردوسِ الأعلى، ونفسًا أبيةً لا ترضى بالدون، وعملاً متقبّلًا لا يشوبه كسلٌ ولا رياء.

اللهم اجعلنا من عبادِك الذين يستبقون الخيرات، ويتنافسون في الطاعات، ويثبتون عند البلاء، ويصبرون عند الشدائد.

اللهم إنا نعوذ بك من العجزِ والكسل، ومن الملهياتِ التي تصدُّ عن ذكرك، ومن الصحبةِ التي تُطفئ الإيمان، ومن الطموحاتِ التي لا ترضيك.

اللهم ارزق أبناءنا همةَ الصحابة، وعزيمةَ السلف، وسِرْ بنا في دربِ المجتهدين إلى جنّاتِ النعيم.

اللهم اجعل حياتَنا للحقِّ نُصرة، وللباطلِ كسرة، ولأمتِنا عزًّا، ولفقرائنا رحمة، ولآخرتِنا زادًا، ولقلوبِنا صفاءً، ولسلوكِنا تزكية.

اللهم اجعلنا مفاتيحَ للخير، دعاةً إلى الهُدى، واجعل لنا في كل مجالٍ سهمًا، وفي كل بابٍ أثرًا، وفي كل مشروعٍ نفعًا.

اللهم لا تجعلنا من الغافلين، ولا من المفرّطين، ولا من الراضين بالدنيا عن الآخرة، ولا من الهالكين.

اللهم اجعلنا ممّن سما قلبُه فارتقت حياتُه، وصَغُرَتْ عنده الدنيا وعظُمَتِ الآخرة، وبلغَ منازلَ المقربين.

عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 
google-playkhamsatmostaqltradent