
الحث علي العمل والكسب في الإسلام
الترغيب في السعي والعمل في الكتاب والسنة
الأنبياء والعمل والتكسب:
العمل يكفر الذنوب ومن مات في طلب الرزق فهوشهيد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول
الله ، أما بعد:
فإن الله تعالى أمر عباده بالسعي في الأرض لطلب الرزق والتكسب وكفاية النفس عن الحاجة إلى الناس، قال تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"(الملك/15).
فالله ذلَّل لنا الأرض بما فيها، وأمرنا أن نسير في أرجائها وأن نبحث عما أودع فيها من الخيرات التي جعلها الخالق متنوعة بحسب تنوع العصور والأزمان، وبمقدار تنوع حاجات الإنسان ومطالبه، فمن يرغب في زيادة ربحه وكثرة فائدته فعليه بالسعي والاجتهاد في اجتناء الخيرات، وأن يستشعر الجد والنشاط، وأن يطرح العجز والكسل والتواني، وهي سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
الترغيب في السعي والعمل في الكتاب والسنة
قال الله تعالى:"فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " (الجمعة: 10).
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: قوله تعالى:"فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ " أي: فُرغ منها،" فَانْتَشِرُوا فِي
الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ " لَمَّا حجَر عليهم في التصرف بعد
النداء وأمرهم بالاجتماع، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض، والابتغاء من
فضل الله).
وقال السعدي – رحمه الله:"لطلب
المكاسب والتجارات".
عباد الله :" إن العاقل لا يرضى لنفسه أن يكون كلًّا على غيره، أو أن يكون إمعة يستجدي الرزق من فلان أو علان، وهو يعلم ويسمع قول الله تعالى:"وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى"(النجم: ٣٩-٤١)،
وقوله تعالى:"وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ"(التوبة/ ١٠٥).
ويُروى أن الله أنزل في التوراة:"يا عبدي حرك يدك أنزل عليك الرزق"
وروى الطبراني أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قال:"اطلبوا الرزق في خبايا الأرض"
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة"
والله تعالى إنما يرزق الناس بعضهم من بعض، فالله تبارك وتعالى جعل طلب الرزق على جميع الناس، فبعضهم يحسن في طلبه فيعامل الناس ويتحرز من الحرام، ويجد ويجتهد في طلب الرزق بالطرق المشروعة التي أباحها الله، والبعض الآخر إما أن يتكاسل وينام ويقول: حظوظ، أو ينافق ويخادع ويغش ويرابي، وخلاصة القول: أن الحياة جهاد وكفاح.
ليس الحياة بأنفاس تكررها
إن الحياة حياة الجد والعملْ
قِيْمَة الإِنْسَانِ مَا يُحْسِنُه
أَكْثَرَ الإِنْسَانُ مِنْهُ أَوْ أَقَلْ
فليس طلب المعيشة بالتمني ولكن بالعمل، وعجز المرء وكسله سبب البلاء والتأخير.
ومن أراد العلاَ عفوًا بلا تعبٍ
قضى ولم يقض من إدراكها وطرًا
أعاذنا الله وإياكم من الكسل، وقد تعوذ منه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل والجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال»، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تكسل"، فسبحان من أخرج الناس من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وأمرهم باستعمالها، وهداهم إلى أسباب الرزق، ويسرها لمن طلبها
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: "كان
عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم
أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتَني، فارزقني من فضلك، وأنت خيرُ
الرازقين".
وكان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم
يحثنا على العمل والسعي للتكسب ويرغب في ذلك بأساليب متعددة، فقد روى البخاري عن
المِقدام رضي الله عنه: أن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "ما أكَلَ
أحدٌ طعامًا قط خيرًا مِن أن يأكلَ مِن عمل يده".
وقال صلى الله عليه وسلم: "
لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بحُزْمَةِ الحَطَبِ علَى
ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بهَا وجْهَهُ خَيْرٌ له مِن أَنْ
يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ "(البخاري).
ففي هذا الحديث يبين صلى الله عليه
وسلم أنَّ العمَلَ مهْما كان نوعُه فهو أفضل مِن سؤالِ النَّاسِ وإراقةِ ماءِ
الوجْه لهم، وأنَّه مهْما يكُنْ شاقًّا عَنيفًا فهو أرحَمُ مِن مَذلَّةِ
السُّؤالِ، فعندَ الحاجةِ يَنْبغي تَرجيحُ الاكتِسابِ على السُّؤالِ، ولو كان
بعملٍ شاقٍّ.
وبطريقة أخرى وبأسلوب بديع يرغب في العمل وعمارة الأرض فيقول صلَّى الله عليه وسلَّم: " إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها "رواه أحمد.
قال المناوي رحمه الله :"هذا الحديث
فيه الحثُّ على غرس الأشجار، وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرةً إلى آخرِ أمدها
المحدودِ المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرُك فانتفعتَ به، فاغرس أنت
لمن يجيءُ بعدك لينتفع، وإن لم يبقَ من الدنيا إلا وقت قليل".
ومن هذا الباب ما كان من معاوية رضي
الله عنه حين أخذ في إحياء أرض وغرس نخل في آخر عمره فقيل له فيه فقال: ما غرسته
طمعا في إدراكه بل حملني عليه قول الأسدي:
ليس الفتى بفتى لا يستضاء به. . . ولا يكون له في الأرض آثار
ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم:
"ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسان أو بهيمة،
إلا كان له به صدقة"(مسلم).
قال النووي - رحمه الله:"هذا الحديث
فيه فضيلةُ الغرس، وفضيلة الزرع، وأن أجر فاعلي ذلك مستمرٌّ ما دام الغراسُ
والزرع، وما تولد منه إلى يوم القيامة".
ويقول صلى الله عليه وسلم: " مَن
أحيا أرضًا ميتةً فله بها أجرٌ، وما أكله العوافي منها فهو له صدقةٌ".
فحثَّ في هذا الحديث على العمل وعمارة الأرض بالزرع والبناء ونحوهما وبَيَّن أنه لا ينتفع أحد من الخلق بأثر هذا العمل إلا كان للعامل أجر وصدقة.
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "
الساعي على الأرملةِ والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، أو القائمِ الليل، الصائم
النهار"(متفق عليه).
وقد ذكر أهل العلم أن المراد بالساعي:
الكاسبُ لهما، العامل لمؤنتهما.
وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "على كلّ مسلم صدقة". قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدّق" متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه، أن رجلاً مِن الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله، فقال: "أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه الماء، قال: آتني بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: مَن يشتري هذين؟ قال رجل أنا آخذهما بدرهم، فقال: من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثًا؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياها، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشترِ بأحدهما طعامًا، فأنبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا فأتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودًا بيده، ثم قال له: اذهب فاحتطب وبعْ، ولا أرينك خمسة عشر يومًا، فاشترى ببعضها ثوبًا، وبعضها طعامًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصح إلا لثلاثة: لذي فقرٍ مدقع، أو لذي غرم مُفْظِع، أو لذي دم مُوجع"(أبوداود وابن ماجه).
الأنبياء والعمل والتكسب
عباد الله :"العملُ شَرفٌ للعاملِ؛ إذْ به يَتكسَّبُ مَعاشَه، ويَتعفَّفُ عن سُؤالِ النَّاسِ، بلْ يَطلُبُ رِزقَه مِن اللهِ بالأخذِ بالأسبابِ، وقدْ كان لِكُلِّ نَبيٍّ صنْعَةٌ يَعملُ فيها ويَبتَغي رِزقَ اللهِ مِنها، وَمِن هَؤلاءِ الأَنبياءِ نَبيُّ اللهِ زَكريَّا عليه السَّلامُ؛ حيثُ كان يَعمَلُ نَجَّارًا، والنَّجَّارُ هو مَن يَنحِتُ الأخشابَ ويُشكِّلُها، ويَتَّخِذُ النَّاسُ منها حاجتَهم، كالأسِرَّةِ والأبوابِ ونحوِها، وقدْ كان زَكريَّا عليه السَّلامُ من أهل النَّسبِ الشَّريفِ والمكانةِ العاليةِ عندَ اللهِ، ومع ذلك فقدْ كان يَعمَلُ بيَدِه.
وهذه الحِرَفُ والصِّناعاتُ زِيادةٌ في فَضيلةِ أهلِ الفضلِ، يَحصُلُ لهم بذلك التَّواضُعُ في أنفُسِهم، والاستغناءُ عن غَيرِهم، وكَسبُ الحلالِ الخالي عن الامتنانِ الَّذي هو خَيرُ المكاسِبِ
لقد كان أنبياء الله ورسله قدوة في هذا الباب فكانوا يعملون بأيديهم ويتكسبون، وقد ذكر الله لنا ذلك في القرآن وذكره النبي في سنته،
أما نبي الله موسى عليه السلام فإنه قد
رعى عدة سنوات للرجل الصالح حتى ينكح ابنته، قال الله عز وجل مبينا ما كان بينهما
من حوار واتفاق:"قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا
فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ
اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا
الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ"(القصص: 27 - 28).
وقد ثبت أن نبي الله موسى قضى أتَمَّ وأكمل الأجلين،
فقد روى أن سعيد بن جبير قال :"سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله. فقدمت فسألت ابن عباس - رضي الله عنه - فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل"(البخاري).
ونبي الله زكريا عليه السلام كان نجارا، فقد روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "كان زكريَّاءُ نجَّارًا"(مسلم).
قال الإمام النووي - رحمه الله -:"هذا الحديث دليلٌ على أن النجارة صنعةٌ فاضلة، وفيه فضيلة لزكرياءَ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنه كان صانعًا يأكل مِن كَسْبِه".
الأنبياء الذين رعوا الغنم
عباد الله:" هناك العديد من الأنبياء الذين ورد عنهم أنّهم عمِلوا في رعي الغنم، ومنهم: مُحمد -عليه الصلاةُ والسلام- عمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رعي الغنم في بداية حياته مع عمِّه أبي طالب،
والحكمة من رعي الأنبياء للغنم قبل النُبوَّة؛ لِما في ذلك من تدرُّبٍ وتمرَّنٍ على ما سيُكلِّفهم الله -تعالى- به من أمر الأُمَّة، ولِما في ذلك من الشفقة والرَّحمة والصبر على رعيهم للغنم ونقلها من مكانٍ إلى آخر، تشبيهاً بتنوُّع النَّاس وتفاوت عُقولهم، كما أنَّ الغنم أضعَفُ من غيرها، وسُرعة انقيادها أسرع من غيرها، بالإضافة إلى كسب الرّاعي من عمل يده، وذلك يدُلُّ على تواضع الأنبياء.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عمل قبل بعثته بالتجارة كما عمل برعي الغنم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "ما بعَث الله نبيًّا إلا رعى الغنم"، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: "نعم، كنت أرعاها على قراريطَ (نقود) لأهل مكة""(البخاري).
قال ابن حجر رحمه الله في شرحه للحديث: "قال العلماء: الحكمةُ في إلهام الأنبياء رَعْيَ الغنم قبل النبوة: أن يحصل لهم التمرنُ برعيها على ما يُكلَّفونه مِن القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يُحصِّلُ لهم الحِلمَ والشفقةَ؛ لأنهم إذا صبروا على رعيِها وجمعها بعد تفرُّقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوِّها من سَبُع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها، وشدة تفرُّقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة - أَلِفُوا من ذلك الصبرَ على الأمة، وعرَفوا اختلافَ طِباعها، وتفاوُتَ عقولها؛ فجَبَروا كَسرَها، ورفقوا بِضَعِيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحمُّلهم لمشقة ذلك أسهلَ مما لو كُلِّفوا القيام بذلك من أول وهلة؛ لِما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخُصَّت الغنم بذلك؛ لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثرُ من تفرق الإبل والبقر؛ لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرُّقها فهي أسرع انقيادًا من غيرها".
موسى -عليه السلام- لِقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-:"بُعِثَ موسَى وهوَ راعي غنَم)،
وقد ذكر القُرآن الكريم رعيه للغنم عدةَ سنواتٍ عند العبد الصّالح مُقابل أن يُزوِّجه ابنته.
شُعيب -عليه السلام- وذلك لِما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنّ شُعيب -عليه السلام- كان راعياً.
الأنبياء الذين عملوا بالتجارة
هناك العديد من الأنبياء الذين قاموا بالعمل بالتجارة، ومنهم: موسى -عليه السلام- فقد كان موسى -عليه السلام- يعمل برعي الغنم، إضافةً إلى عمله بالتِّجارة، مما يدُلُّ على إعلاء شأن العمل، وتشريفِ للعاملين.
وقد عمل بالكتابة، حيث كان يكتب التوراة بيده.
مُحمد -عليه الصلاةُ والسلام- عمل النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- بالتِّجارة بعد عمله برعي الغنم، وذلك بعد أن طلب من عمِّه أبي طالب وهو في سنِّ الثانية عشر من عُمره أن يصحَبَهُ معه في تجارتهِ إلى بلاد الشّام، وهناك التقوا بالراهب بحيرا الذي أخبر أبا طالب أنّ ابن أخيه محمّد سيكون له شأنٌ عظيمٌ، ثُمّ كانت رحلته الثانيّة إلى بلاد الشَّام في تجارةٍ للسيدة خديجة -رضي الله عنها- مع غُلامها ميسرة.
الأنبياء الذين عملوا بالأشغال الصناعية والحرفية
هناك العديد من الأنبياء الذين عملوا بالأعمال والمهن الصناعيّة والحِرفيّة، وفيما يأتي ذكرهم:
زكريا -عليه السلام- فقد كان يعمل بالنِجارة، بدليل ما جاء عن النبيّ صلي الله عليه وسلم-:"كانَ زَكَرِيَّاءُ نَجَّارًا"(مسلم).
آدم -عليه السلام- فقال القرطبي إن آدم -عليه السلام- عمِلَ في الزّراعة،
كما نُقل عن أنس -رضي الله عنه- أنّه كان يعمل بالحياكة، ورُويَ أنّه أوَّل من عمل بالحِياكة.
نوح -عليه السلام- كان نجَّاراً،
بدليل صناعتهِ للسفينة، لِقولهِ -تعالى-: "وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ"(هود/37).
إدريس -عليه السلام- فقد ذكر
الشيباني في كتابه "كسب الأنبياء" أنّ إدريس -عليه السلام- كان يعمل
بالخياطة.
إبراهيم ولوط -عليهما السلام- حيث جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنّهم اشتغلا بالزِّراعة.
وكان إبراهيم -عليه السلام- كان بنَّاءً، فقد بنى الكعبة مع ابنه إسماعيل، لِقولهِ -تعالى-: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"(البقرة/127).
وداود كان يعمل جداداً قال الله عز وجل عن عبده ونبيه داود عليه السلام:" وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ . أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " (سبأ: 10، 11). والسابغات هي الدروع.
وقال تعالى:"وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ"(الأنبياء: 80).
فقد علمه الله عز وجل صنعةَ الدُّروع.
وخصّهُ النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- بقوله:"ما أكَلَ أحَدٌ طَعامًا قَطُّ، خَيْرًا مِن أنْ يَأْكُلَ مِن عَمَلِ يَدِهِ، وإنَّ نَبِيَّ اللَّهِ داوُدَ عليه السَّلامُ، كانَ يَأْكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ"(البخاري).
وقد خصَّه بالذِّكر بالرغم من أنّ مُعظم الأنبياء كانوا يعملون؛ لأنّه كان ملكاً، ونبياً، وصانعاً في نفس الوقت،
" سليمان -عليه السلام- حيث جاء عن الإمام الثعالبيّ أنّ سُليمان -عليه السلام- كان أوَّل من عمل في صناعة الصّابون. ورويَ أنَّ سُليمان -عليه السلام- كان يصنع المكاييل.
الأنبياء الذين اشتغلوا بالحكم
هُناك العديد من الأنبياء الذين عملوا بالحُكمِ والمُلك، ومنهم ما يأتي:
داود -عليه السلام- لِقولهِ -تعالى:"يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ"(). حيثُ كان خليفةً في الأرض.
سُليمان -عليه السلام- حيثُ كان وريثاً للحُكم بعد أبيه داود -عليه السلام-، فقد كان يُشاورهُ في الحُكم؛ لوفورة عقله، فقال -تعالى- عن ذلك: "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ"().
أي ورثهُ في النُبوَّة والمُلك والحُكم، وكان ملكاً على الشَّام، وقيل: إنّه مَلَكَ الأرض جميعها، وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: "ملك الأرض مؤمنان: سليمان وذو القرنين"، وكان في حُكمهِ ربّانياً، وعادلاً، بعيداً عن الطُغيان والظُلم،وقد أعطاه الله -تعالى- ملكاً عظيماً وكبيراً.
يوسف -عليه السلام- فقد كان وزيراً للماليَّة أو التموين، وهو منصبٌ يتعلَّق بالأموال، والإحصاءات، والتَّخزين والتَّوزيع، لِقولهِ تعالى:"قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ"(يوسف/55).
عيسى -عليه السلام- فقد كان يعملُ بالطِّب، حيثُ كان يُبرئ الأكمَهَ والأبرّصَ.
الصحابة والعمل والتكسب:
عباد الله :" لقد كانت حياة أصحاب النبي عامرة بالجد والاجتهاد والعمل في شتى الميادين، وكانوا أحرص الناس على التعفف والاستغناء عن الناس ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا،
فكانوا يسعون على أرزاقهم، ويسلكون طرق الكسب في غير كسل ولا تواكل، فكان منهم التجار البارعون، وهذه أسواق الجاهلية، تشهد بذلك: سوق عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، وبنو قينقاع، وحباشة..
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، أسواقاً في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم، فنزلت: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ "(البقرة: 198)في مواسم الحج" (البخاري).
وكانوا يتاجرون في البر والبحر تجارة داخلية وخارجية.وهاتان رحلتا الشتاء والصيف تشهدان بذلك.وكان من الصحابة رضي الله عنهم الصناع والزراع ومحترفو سائر الحرف والأعمال.واشتهر الأنصار بأنهم أهل زرع وبساتين ونخيل.كما اشتهر المهاجرون بأنهم أهل تجارة وصفق في الأسواق.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشجعهم على ذلك.وهذه الأعمال جعلتهم أهل عفة وكرامة واكتفاء، وأصحاب فضل ونفع للآخرين. وجعلتهم أيضًا في غنى عن الحرام، وفي وقاية من طرق الكسب غير المشروع كالربا والرشوة..الخ.وفي الحديث الآتي مثال لهمتهم العالية، وأخلاقهم النبيلة:
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد
الله قال: حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: لما قدموا المدينة آخى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع، قال عبد الرحمن: إني أكثر
الأنصار مالاً، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك، فسمها لي،
أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك؟ أين سوقكم؟
فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو، ثم
جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهيم؟ ( مهيم: سؤال عن
الحالة) » قال: تزوجت، قال: «كم سقت إليها؟» قال: نواة من ذهب - أو وزن نواة من
ذهب - شك إبراهيم (البخاري بشرح فتح الباري) يعني راوي الحديث.
وقد مات عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه عن ثروة ضخمة من تجارته.
وإعجاب المرء بإيثار سعد وسماحته لا يقل عن إعجابه بنبل عبد الرحمن الذي أبى إلا أن يتاجر، ويزاحم اليهود في أسواقهم، ويكتسب من عرقه ما يعف به نفسه، ويحصِّن به فرجه.
وهذا خباب بن الأرت كان حدادًا، وعبد الله بن مسعود كان راعيًا، وسعد بن أبي وقاص كان يصنع النبال، والزبير بن العوام كان خياطًا، وبلال بن رباح وعمار بن ياسر كانا خادمين، وسلمان الفارسي كان حلاقًا ومؤبرًا للنخل، وخبيرًا بفنون الحرب، والبراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا تاجرين (راجع الحافظ ابن حجز في فتح الباري).
وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعملون ، ويزاولون الكثير من الحِرف والمهن ، فمنها : التجارة ، ومنها : الزراعة ، ومنها : الأعمال المهنية ، كالحدادة والنجارة وغيرهما ، ومنها الوظائف التي تتعلق بالدولة : كالتعليم ، والعمل على الزكاة ، والقضاء وما يشبهها ، وغير ذلك من الأعمال .
ولم يكن الواحد منهم يجلس كَلّا على
أصحابه بدون عمل يعمله ، أو يسأل الناس وهو يقدر على العمل ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ،
فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَيَبِيعَهَا ، فَيَكُفَّ
اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ
مَنَعُوهُ"(البخاري).
ورغم ما كانوا عليه من العمل ، والمهن الشاقة ؛ فإنهم كانوا أعظم الناس قياما بين يدي ربهم ، وأحسنهم إحياء لليل ، ومناجاة لرب العالمين :"تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ"(السجدة/ 16).
عن بِلَال بْن سَعْدٍ ، قَالَ : " أَدْرَكْتُهُمْ يَشْتَدُّونَ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ،"يعني : يتسابقون في الجري "، وَيَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ ، كَانُوا رُهْبَانًا"( النسائي).
عباد الله :"فقد روى الطبراني في الأوسط, والديلمي
في مسند الفردوس, وأبو نعيم في الحلية بألفاظ مختلفة متقاربة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا
العمرة، قالوا: فما يكفرها يا رسول الله؟ قال: الهموم في طلب المعيشة.
ولا شك أن من أنفق على عياله وأقاربه أو غيرهم وسعى في كسب الحلال لهم بنية صادقة لا شك أنه مأجور من الله تعالى؛ لما في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك"(متفق عليه).
وقال صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه."(البخاري وغيره).
من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن مات بمرض فى بطنه فهو شهيد، والغرقى، والحرقى، ومن ماتوا تحت أنقاض الهدم فهؤلاء شهداء ولهم أجر الشهادة بإذن الله تعالي.
وعن كعب بن عجرة مرَّ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجلٌ فرأَى أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من جلَدِه ونشاطِه فقالوا يا رسولَ اللهِ ! لو كان هذا في سبيلِ اللهِ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إن كان خرج يسعَى على ولدِه صِغارًا فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعَى على أبوَيْن شيخَيْن كبيرَيْن فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعَى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعَى رياءً ومُفاخَرةً فهو في سبيلِ الشَّيطانِ"(الطبراني والبيهقي صحيح الترغيب).
فالذي كان يسعي علي المعاش وتعرض لحادث ومات علي أثره، يندرج تحت هذه الفئة، إلا أن هؤلاء يقال عنهم شهداء الآخرة. بخلاف شهيد الدنيا الذى قاتل وقتل ابتغاء عرض من أعراض الدنيا. وأما شهيد الدنيا والآخرة معا فهو من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا، وهذه هى أعلى مراتب الشهادة.