recent
أخبار عاجلة

خطبة الجمعة السماحة من أخلاق رسول الإسلام لفضيلة الشيخ عبدالناصربليح

 السماحة من أخلاق رسول الإسلام


لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ 

صور من سماحته ورحمتة بأمتهِ 

 صور من أوامره بالسماحة ، وثوابها .

 

الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي تكَّرمَ علينا بدين الإسلام، وجعل السماحةَ فيه منهجًا للأنامِ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له شرَّفنا بهذا الدين، وأمرَنا باتباعِ هَديِه المُبين،

وأشهدُ أن نبيَّنَا محمدًا عبدُه ورسولُه، بعثَهُ ربُّه رحمةً للعالمين، فقالَ:” أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى أَخِي عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهَا قُصُورَ الشَّامِ، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ”.(سيرة ابن هشام).صلَّى الله عليه وعلى آله في الأولين والآخرين، وصحابتِه الغرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ 

 أما بعدُ . قال الله تعالي :"لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا"(الأحزاب: 21).

عباد الله :" إن ميلاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - هو أهم حدث في تاريخ البشرية حيث ولد الهدى وأشرق الضياء وعم النور ...

وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياءُ           وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ

الروحُ وَالمَلَأُ المَلائِكُ حَولَهُ            لِلدينِ وَالدُنيا بِهِ بُشَراءُ

قال حَسَّان بنُ ثَابِت في مدح الرسول ﷺ :

 وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني     وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ

خلقتَ مبرأً منْ كلّ عيبٍ.             كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ

 عباد الله :" ونحن نستقبل ذكري مولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، يجب علينا ونحن نحتفي ونحتفل بمولده الشريف أن نقتدي به ، ونتخلق بأخلاقه ، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- أحسَنَ الناس خُلُقًا، وأوسَعَهم صَدرًا، وأصدَقهم حديثًا، وأليَنَهم عريكةً، وأكرَمهم عِشرة، كثيرَ التبسُّم، طيِّبَ الكلام، وَصُولاَ للأرحام، حريصًا على السلام وإفشاء السلام، يُخالِطُ الناسَ فيُرشِدُهم إلى الأمانة، وينهَاهم عن الغشِّ والخيانة، حسَنَ المُصاحَبة والمُعاشَرة، يغُضُّ عن أخطاء وهفَوَات من خالَطَه، يقبَلُ معذرةَ المُسيءِ منهم، يتلطَّفُ إلى من حولَه، حتى يظُنَّ كلُّ واحدٍ منهم أنه أحبُّ الناسِ إليه .

ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حسن خلقه الذروة العُليا، والموقف الأسمى في السماحة وحسن المعاملة، وتتجلَّى السماحةُ ، في صُورٍ شتَّى من حياةِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، في عباداته ومُعاملاته، وفي سُلُوكه وأخلاقِه، مع قرَابَته وأصحابه، وأصدقائِه وأعدائِه، فكان -صلى الله عليه وسلم- رحمةً للخلق كلِّهم، دون اعتِبارٍ لجِنسِهم أو دينهم.

قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً سهلاً".

قال النووي - رحمه الله -: "أي: سهلَ الخُلُق، كريمَ الشمائل، لطيفًا مُيسَّرًا في الخُلُق، كما قال الله تعالى:"وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ"(القلم: 4).

 كان صلي الله عليه وسلم خلقه السماحة ، والسماحة من أهم سمات شريعة الإسلام ، عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: سُئل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الأديان أحبُّ إلى الله - عزَّ وجل -؟ قال:"الحنيفيةُ السَّمحةُ"( أحمد بسندٍ حسن).

وعن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ "(أحمد)،

 فرسالة النبي -صلى الله عليه وسلم -رسالة حنيفيَّة أي: مائلة عن الباطل إلى الحق، ورسالة سمحة أي: سهلة يسيرة؛ فكل حياته - صلى الله عليه وسلم - وتشريعاته وإرشاداته قائمة على اليُسر والسماحة والتخفيف على أُمَّته"(انظر: فتح الباري، (1/130) .

والإسلام دين سماحةٌ ويُسرٌ في العقائد والعبادات، والآداب والأخلاق؛ فعقيدتُه أصحُّ العقائد وأقوَمُها، وعباداتُه أحسن العبادات وأعدَلُها، وأخلاقُه أزكى الأخلاق وأتمُّها وأكمَلُها، فهو دينٌ لا حرَجَ فيه ولا شدَّة، ولا تعسيرَ ولا مشقَّة.

والسماحة أصل لهذا الدِّين: حيث ربط النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين السماحة وبين أصل الدِّين الإسلامي، إذْ جعلها في العديد من أحاديثه وَصْفاً مُلازماً، ومن ذلك :

 في الحديث :"أَحَبُّ الدِّينِ إلى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ"(البخاري).

وفي رواية: "أفْضَلُ الإِسْلامِ الحَنِيفيَّةُ السَّمْحَةُ"(الطبراني في (الأوسط).

سماحة النبيِّ ﷺ  ورحمتةُ بأمتهِ صورٌ ومظاهر..:

 واليوم سنقطفُ زهرةً مِن بستانِ أخلاقِه ﷺ، وهو خلقُ السماحة والرحمة.

لذلك اهتمَّ نبيُّ الرحمةِ ﷺ بذكرِ هذا الخلقِ العظيمِ والتأكيدِ عليهِ في أحاديثَ عدةٍ،

فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاص رضي اللهُ عنهما أنَّهُ ﷺ قال: ” الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ" (البخاري)،

 وعن أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا ؛ فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ"(البخاري)،

 وتوعدَ ﷺ أولئكَ الذين لا يرحمونَ أنَّهُم أبعدُ الناسِ عن رحمةِ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى فقالَ:” لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ"(متفق عليه)،

 وقالَ في أهلِ الجنةِ:"أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ"(مسلم).

:"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّارَحْمَة لِلْعَالَمِينَ"(الأنبياء/107).

فالهدف من بعثة النبي ﷺ  نشر الرحمة في العالمين  ..

وعن ابن عباس، في قول الله عز وجل:"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"

 قال: من آمن بالله واليوم الآخر كُتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف.  (تفسير الطبري) ..

فما من مخلوقٍ على هذه الأرض إلا وقد نال حظًّا من هذه الرحمة المهداة؛

نالها المؤمن بهداية الله له، حتى الكفار رُحموا ببعثته صلى الله عليه وسلم؛ حيث أخَّر الله عقوبتهم، فلم يستأصلهم بالعذاب، كالخسف والمسخ والقذف والغرق كما حدث للأمم السابقة، إكراماً له ﷺ "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ "(الأنفال ).

فدينُنَا هو دينُ الرحمةِ ونبيُّنَا ﷺ نبيُّ الرحمةِ، قال ﷺ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ"(البيهقي والحاكم وصححه).

فهو الرحمةُ المهداةُ وهو السراجُ المنيرُ،  وهو نبي الرحمة

 قال ﷺ: "أنا محمدٌ، وأحمدُ، والمُقَفِّي، والحاشرُ، ونبيُّ التوبةِ، ونبيُّ الرحمة" .

فكان ﷺ رحمةً للعالمين، أنارَ اللهُ بهِ الدنيا بعدَ إظلامِهَا، وأشرقتْ شمسُ الحياةِ، وابتهجتْ الأرضُ ببعثته ،  وأصبحتْ بعدَ طولِ  الظلامِ وقد كساهَا النور، ولبستْ ثوبَ الهناءِ والحبورِ،

صور من سماحته صلي الله عليه وسلم 

يحكي لنا أنسٌ -رضي الله عنه- ما لاقاه مع رسول الله، فيقول: "خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين فما قال لي: أُف، ولا لِما صنعت؟ ولا ألا صنعت؟" (البخاري).

وعنه قال : أرسلني يومًا لحاجته، فقلت: والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لِما أمرني به رسول الله، فخرجت حتى أمُر على صبيانٍ وهم يلعبون في السوق، وإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: "يَا أَنَسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟" قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله" (مسلم).

ومن سماحته: قضاء حوائج الناس والرفق بهم، يقول أنسٌ -رضي الله عنه-: "إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت" (البخاري).

ومن سماحته: عفوه عمن أراد قتله، وصفحه مع الأعرابي الذي جبذ رداءه بشدةٍ؛ ليأمر له بالعطاء  فضحك وأمر له بعطاء.

عن أنس -رضي الله عنه - قال: " كُنْتُ أَمْشِي مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وَعليه رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ برِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَقَدْ أَثَّرَتْ بهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ، مِن شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ مُرْ لي مِن مَالِ اللهِ الذي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ له بعَطَاءٍ "(البخاري ومسلم).

 وروي البخاري عن أبي هريرة، قال: كان لرجل على النبي، صلى الله عليه وسلم، سِنٌّ من الإبِل، فجاءه يتقاضاه، فقال: "أعطوه"، فطلبوا سِنّه، فلم يجدوا له إلا سِنًّا فوقها، فقال: "أعطوه"، فقال: أوفَيتَني أوفى الله بك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنّ خِياركم ‌أحسنكم ‌قضاء".

والسماحة من صفات المؤمنين،  وإذا تجاوز المرء وسامح عفا الله عنه ورحمه ؛ ففي البخاري عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: أتى الله بعبدٍ من عباده آتاه الله مالًا، فقال له -سبحانه-: "مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟" قال:"وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا"(النساء:42). قال: يا ربِّ آتيتني مالك فكنت أبايع الناس وكان خُلقي التجاوز، فكنت أتيسَّر على الموسر، وأُنظِر المعسر، فقال الله: "أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي".

  إخوة الإيمان والإسلام :

لا تقتصر السماحة في دين الإسلام علي  العبادات فحسب، بل العبادات في الإسلام جزء من شريعة تامة كاملة، وللسماحة صور ومظاهر عديدة؛ من أهمها  :

سماحته في المعاملات :

فالمعاملات ميدانٌ شَاسِعُ تظهر فيه السماحةُ بجلالها، وتُشرق بأنوارِهَا 

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى"(البخاري).

 "سَمْحًا" أي جَواداً مُتساهلاً يوافقُ على ما طُلِبَ منه، "اقْتَضَى" طَلَبَ الذي له على غيره.

قال ابن بطال: "وفي هذا الحديث: الحضُّ على السماحة وحسن المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة، والرقة في البيع، وذلك سبب إلى وجود البركة فيه؛ لأن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لا يحضّ أُمّته إلا على ما فيه النفع لهم في الدنيا والآخرة، فأما فَضْل ذلك في الآخرة فقد دعا -صلى الله عليه وسلم- بالرحمة لمن فعل ذلك، فمن أحبّ أن تناله بركةُ دعوة النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فليقتد بهذا الحديث ويعمل به".

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ:" إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، قَالَ: فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ"(البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "فِيهِ فَضْلُ الْمُسَامِحَةِ فِي الِاقْتِضَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ سَوَاءٌ عَنِ الْمُعْسِرِ وَالْمُوسِرِ وَلَا يُحْتَقَرُ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ؛ فَلَعَلَّهُ سَبَبُ السَّعَادَةِ".

 ومن صور السماحة في المعاملات :

- التنازل عن الحق :

إن صاحب السماحة لا تطيب نفسه بأن يحصّل حقـًا لم تطب به نفس الطرف الآخر ، فيؤثر التنازل أو السماحة ،  أخرج الإمام أحمد عن عطاء بن فروخ أن عثمان - رضي الله عنه - حين اشترى من رجل أرضـًا ، فتأخر صاحب الأرض في القدوم عليه لقبض الثمن ، وتبين له أن سبب تأخره أنه بعد أن تم العقد شعر البائع أنه مغبون ، وكان الناس يلومونه كيف تبيعها بهذا الثمن ؟ قال عثمان : " فاختر بين أرضك ومالك " ثم ذكر له الحديث : " أدخل الله عز وجل الجنة رجلاً ، كان سهلاً مشتريـًا وبائعـًا ، وقاضيـًا ومقتضيًا"(أحمد).

ومن ذلك إقالة النادم :

قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"( أحمد وأبو داود وابن ماجة).

وفي رواية لابن حبان: "من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة".

- ومنها إنظار المعسر :

إن إنظار المعسر ، أو التجاوز عن القرض أو عن جزء منه ، صورة عظمية من صور الكرم وسماحة النفس ، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: "كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ, فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ, لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا, فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ".

وفي رواية عَنْ أبي مسْعُودٍ البدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "حُوسب رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قبلكم فَلَمْ يُوجدْ لَهُ مِنَ الخَيْرِ شَيَّءٌ، إلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاس، وَكَانَ مُوسِراً، وَكَانَ يأْمُرُ غِلْمَانَه أن يَتَجَاوَزُوا عن المُعْسِر. قال اللَّه -عز وجل-: نَحْنُ أحقُّ بِذَلكَ مِنْهُ، تَجاوَزُوا عَنْهُ"( مسلم) فالجزاء من جنس العمل.

بل إن التوفيق في الدنيا والآخرة مرهون بتيسيرك على أخيك المعسر , قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- : " من يسّر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة" (مسلم).

وقال : "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(مسلم)؛

و روى الإمام مسلم عن عبد الله بن أبي قتادة, أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ, فَتَوَارَى عَنْهُ, ثُمَّ وَجَدَهُ. فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ. فَقَالَ: آللهِ؟ قَالَ: اللهِ! قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ".

- ومنها رد القرض بأحسن منه :

وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم يردّ القرض بخير منه وبالزيادة فيه ، ويقول : " أعطه ، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء" (ابن ماجه).

وما ترك صاحب القرض يمضي إلا وهو راضٍ

- ومنها السماحة مع الشريك :

كما شهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شريكه في التجارة قبل البعثة :"السائب بن عبد الله " بقوله له : " كنت شريكي في الجاهلية ، فكنت خير شريك ، كنت لا تداريني ولا تماريني "(ابن ماجة).

أي كنت لا تدافعني في أمر ولا تجادلني ، بل كنت شريكـًا موافقـًا ، ولم ينسها له ، وكانت سببـًا من أسباب محبته له ، وتكون سببـًا من أسباب النجاة من النار لمن تخلَّق بها ، ففي الحديث: " حرم على النار كل هيِّن ليِّن سهل ، قريب من الناس"(أحمد) .

- ومنها: طلاقة الوجه واستقبال النّاس بالبشر.. ومبادرة النّاس بالتّحيّة والسّلام والمصافحة وحسن المحادثة؛ لأنّ مَن كان سمح النّفس بادَر إلى ذلك..

 - ومنها حُسْن المصاحبة والمعاشرة والتّغاضي عن الهفوات؛ لأنّ مَن كان سَمْح النّفس كان حَسَن المصاحبة لإخوانه ولأولاده, ولأهل بيته ، يقول الله تعالي :"وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا"(النساء : 19)

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ، أَوْ قالَ: غَيْرَهُ" (مسلم ).

 ولخدمه، ولذوي أرحامه، ولكلّ مَن يخالطه أو يرعاه,عن أبي هريرة رضي الله عنه: " أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ لي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إليهِم وَيُسِيؤُونَ إلَيَّ، وَأَحْلُمُ عنْهمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقالَ: لَئِنْ كُنْتَ كما قُلْتَ، فَكَأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ وَلَا يَزَالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عليهم ما دُمْتَ علَى ذلكَ"(مسلم).

قال الشافعي -رحمه الله-:

وكُن رجلًا على الأهواء جلدًا *

                              وشيمتك السماحة والوفاءُ

وإن كثرت عيوبك في البرايا *

                                وسرك أن يكون لها غطاءُ

تستَّر بالسخاء فكل عيبٍ *

                                  يغطيه كما قيل السخاءُ

ولا ترجو السماحة من بخيلٍ *

                                 فما في النار للظمآن ماء

وقال - رحمه الله:

وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى 

                     وفارق ولكن بالتي هي أحسن

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله،  وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، وخِيرتُه من خلقه ومُصطفَاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتَدى بهُداه.

وبعد  - يا عباد الله - :

 دعوةْ إلي التخلق بأخلاقه ﷺ .

 قال الله تعالي :"لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا"(الأحزاب: 21).

إنَّنا يجبُ علينَا أنْ نطبقَ أخلاقَ النبي ﷺ عمليًّا على أرضِ الواقعِ، فيجبُ على رؤساءِ المصالحِ ومديرِي المؤسساتِ وأصحابِ المصانعِ والشركاتِ في كلِّ مكانٍ: أنْ  يتقُوا اللهَ في الأجراءِ والعاملين، ولا يذيقونَهُم الذلَّ والهوانَ والقهرَ والاستبدادَ، مستغلينَ ضعفَهُم وحاجتَهُم للمالِ، فاللهُ أقدرُ عليكُم منهُم،

 فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ:"كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. فَقَالَ: أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ"(مسلم).

كما يجبُ على كلِّ مَن يملكُ البهائمَ والدوابَّ والطيورَ، ولا سيَّما في ريفِ مصرَ، فعن صورِ التعذيبِ والضربِ والفجيعةِ حدثْ ولا حرج، فيستغلونَ عدمَ قدرتِهِم على الكلامِ أو الدفاعِ عن النفسِ، ولكنّهَا بلسانِ حالِهَا تشكُو إلى ربِّهَا،

ويجبُ على كلِّ الآباءِ والقائمين على المساجدِ: أنْ لا تطردُوا الصبيانَ مِن المساجدِ أو تعنفوهُم أو تسبوهُم، إنَّهُم فلذاتُ أكبادِكُم فعاملوهُم برفقٍ ورحمةٍ، وعلموهُم واحتضنوهُم، وليكنْ قدوتكُم نبيُّنَا في ذلك، فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ، وَيُقْعِدُ الحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا، ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا"(البخاري).

 فأينَ نحن مِن ذلك؟! قارنْ بمَا يحدثُ الآن!

وبعدُ… فهذه دعوةٌ إلى الرحمةِ: رحمةٌ بالكبيرِ، ورحمةٌ بالصغيرِ، ورحمةٌ بالنساءِ، ورحمةٌ بالضعفاءِ، ورحمةٌ بالحيوانِ، ورحمةٌ بالناسِ في قضاءِ مصالحِهِم ولا سيّمَا في المؤسساتِ والمصالحِ الحكوميةِ، وتيسيرِ حاجاتِهِم،

وبالجملةِ: رحمةٌ بجميعِ أفرادِ الأمةِ، فيعيشُ الجميعُ في توادٍّ وتراحمٍ وتعاطفٍ، حتى يتحققَ فيهم قولُهُ ﷺ:

"مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(البخاري ومسلم ).

اللهُمَّ كمَا حسنتَ خلقَنَا فحسنْ أخلاقَنَا، واكتبنَا عندكَ مِن الرحماءِ .

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى برحمتك يا أرحم الراحمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


google-playkhamsatmostaqltradent