recent
أخبار عاجلة

خطبة الجمعة الأنبياء وصناعة الأمل الشيخ/ أحمد عزت حسن ٢ من محرم ١٤٤٧هـ الموافق ٢٧ من يونيو ٢٠٢٥م

 

 الأنبياء وصناعة الأمل 

 الشيخ/ أحمد عزت حسن

 

 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا"، وبعد،

فإن القرآن الكريم قد حفل بالعديد من صور الأمل،

ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب واليسر بالعسر: أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى، وحصل للعبد الإياس من كشفه من جهة المخلوقين، وتعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى : "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" [ الطلاق: ٣].    

يا صاحب الهم إن الهم منفرج

                       أبْشِرْ بخير فإن الفارج اللهُ

اليأس يقطع أحيانًا بصاحبه

                            لا تيأسنَّ فإن الكافيَ اللهُ

الله يُحدِث بعد العسر ميسرة

                          لا تجزعن فإن الصانع اللهُ

فإذا بُليتَ فَثِقْ بالله وارْضَ به

                   إن الذي يكشف البلوى هو اللهُ

واللهِ ما لك غير الله من أحد                              

                      فحسبُك اللهُ في كلٍّ لك اللهُ         

 وانظر إلى قوله تعالى:

- "إن مع العسر يسرًا" خرج البزار في "مسنده" وابن أبي حاتم -واللفظ له- من حديث أنس عن النبي ﷺ قال: "لو جاء العسر، فدخل هذا الجحر، لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه" فأنزل الله عز وجل: "فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرًا".

وروى آدم بن أبي إياس في تفسيره بإسناده عن محمد بن إسحاق قال: جاء مالك الأشجعي إلى النبي -ﷺ- فقال: أسر ابني عوف، فقال له: أرسل إليه أن رسول الله -ﷺ- يأمرك أن تكثر من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" فأتاه الرسول فأخبره، فأكب عوف يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ، وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القد عنه، فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها، فأقبل فإذا هو بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه، فصاح بهم، فاتبع آخرها أولها، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب، فقال أبوه: عوف ورب الكعبة، فقالت أمه: واسوأتاه، وعوف كئيب يألم ما هو فيه من القد، فاستبق الأب والخادم إليه، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا، فقص على أبيه أمره وأمر الإبل، فأتى أبوه رسول الله -ﷺ- فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل، فقال له رسول الله -ﷺ-: "اصنع بها ما أحببت، وما كنت صانعا بإبلك، ونزل قوله تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه" [الطلاق: ٢- ٣] الآية.            

 والإنسان بطبعه يحب البشرى وتطمئن إليها نفسه، وتمنحه دافعًا قويًا للعمل، بينما التنفير يعزز مشاعر الإحباط واليأس لديه ويصيبه بالعزوف عن القيام بدوره في الحياة؛ ولذلك قال -ﷺ- في الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي -ﷺ- قال: (يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا)؛ متفق عليه.

والكثير منا يتذكر قصة ذلك القائد الذي هُزِم في إحدى المعارك فاختلى بنفسه ليفكر في أمره، فأثار انتباهه نملة تجر حبة قمح وتحاول الصعود بها، لكنها كانت تسقط منها، فحاولت مرات عديدة، حتى نجحت في مُهمتها، فتعلم منها درسًا عظيمًا، ألا هو: الأمل للبقاء، والعزيمة التي لا تكل ولا تنهزِم، فكان ذلك سببًا في انتصاراته ونجاحاته كُلها، فلولا الأمل لسيطر اليأس على القلوب، وأصبح الكل يحرص على الموت.

وقد مر كسرى ملك الفرس يومًا بشيخ عجوز يزرَع شجرة زيتون، فقال له متعجبا: "أيها الشيخ! ما بالك تغرِس هذه الشجيرة وهي لا تُثمر إلا بعدَ أعوام عديدةٍ وأنت شيخ هرم؟ فهل تأمُل أن تأكل من ثمرها؟" فقال له الشيخ العجوز: "أيها الملك لقد غرسوا من قبلنا فأكلنا، ونحن نغرِس لكي يأكل من يأتي بعدَنا" فاستحسن جوابه، وأمر له بجائزة. فقال له العجوز: "ما أسرع ما أثمر هذا الشجر"

فهكذا الحياة أمل وعمل.

 فالأمل مع العمل طاقة يودعها الله في قلوب البشر؛ لتحثهم على تعمير الكون، وقد قال النبي ﷺ: (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا) (رواه البخاري في الأدب المفرد).

 فالنبي -ﷺ- يوجهنا، ويريد منا بأن لا تقتصر آمالنا في الحياة على مجرد حاجاتنا، ولكن أن نعمل لحاضرنا ولمستقبلنا.

صور مشرقة تبعث فينا الأمل:ـ

  كم قص سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب كإنجاء نوح ومن معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى وقومه من اليم، وإغراق عدوهم، وقصة أيوب ويونس، والنبي ﷺ مع أعدائه، وإنجائه منهم، كقصته في الغار، ويوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، ويوم حنين وغير ذلك فهذا 

نوح -عليه السلام-:

  ظل نبي الله نوح -عليه السلام- يدعو قومه إلى الإيمان بالله ألف سنة إلا خمسين عامًا، دون أن يمل أو يضجر أو يسأم، بل كان يدعوهم بالليل والنهار ... في السر والعلن ... فُرَادَى وجماعات ... لم يترك طريقًا من طرق الدعوة إلا سلكه معهم أملًا في إيمانهم بالله: {قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهارًا . فلم يزدهم دعائي إلا فرارًا . وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارًا . ثم إني دعوتهم جهارًا . ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارًا} [نوح: ٥-٩]

فأوحى الله -تعالى- إليه أنه لن يؤمن معه أحد إلا من اتبعه، فصنع السفينة، وأنجاه الله هو والمؤمنين.

وهَذا  الخليل إبراهيمُ عليهِ السلامُ قَدْ صارَ شَيْخًا كبيرًا ولَمْ يُرْزَقْ بَعْدُ بِوَلَدٍ فيدفَعُهُ حُسْنُ ظَنِّهِ بربِّهِ أنْ يَدْعُوَهُ:  "رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ" [الصافات: ١٠٠]. فاستجابَ له ربُّهُ ووَهَبَ لهُ إسماعيلَ وإسحاقَ عليهما السلامُ. ونرى الأمل حياةً في قصة السيدة هاجر وابنها إسماعيل، فلم تيأس رغم ضيق الحال، وقلة الرفيق، لماذا؟

لأن معها الله، وهو نعم المولى ونعم النصير، فقلبُها متوكلٌ عليه، وجوارحها تسعى بين الصفا والمروة، وكلها أمل في الحي أن يحييَها ويرزقها؛ فنَبَعَ الماء، وأصبح الأمل في الله حياة.

 وها هو نبي الله يعقوب يجمع بين ركني الأمل بعدما فقد ولديه الحبيبَيْنِ، فظل يزرع في ضمير أولاده الأمل في كرم الله؛ بالسعي، والتوكل، حتى رد الله عليه أبناءه، ورد الله إليه بصره؛ ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: ٨٧].

وهذا الكليم موسي عليه السلام ولد بالأمل ويعيش بالأمل منذ أن كان رضيعًا في اليم {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص: ٧)

ففي قصة موسى حين يسري بقومه لينجو بهم من فرعون وجنوده، فيعلمون بسراه، ويحشدون الحشود ليدركوه: ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ . فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء:٦٠ - ٦١].

وأي إدراك أكثر من هذا؟ البحر من أمامهم والعدو من ورائهم! بيد أن موسى لم يفزع ولم يَيْئَس، بل قال: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾. ولم يضع أمله سُدى؛ ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٦٣ - ٦٧].

حتى يخرج من مصر بأمر الله وفي كنفه وتحت رعايته ويتبعهم فرعون وجنوده.

إن موسى وقومه أمام البحر ليس معهم سفين ولا هم يملكون خوضه وما هم بمسلَّحين. وقد قاربهم فرعون بجنوده شاكي السلاح يطلبونهم ولا يرحمون! وقالت دلائل الحال كلها: أن لا مفر والبحر أمامهم والعدو خلفهم فظن أتباع موسي الغرق وأصابهم اليأس والشؤم {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}

وبلغ الكرب مداه، وإن هي إلا دقائق تمر ثم يهجم الموت ولا مناص ولا معين! ولكن سيدنا موسى عليه السلام الذي تلقى الوحي من ربه، لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه ، واليقين بعونه ، والتأكد من النجاة، وإن كان لا يدري كيف تكون ولكن حاشا لنبي من أولي العزم أن يقربه اليأس والقنوط، فما كان يمتلك خطة نجاة وما كان يعرف طريقا للهرب من بطش فرعون ولكن إن كان قد فقد الأسباب فمعه رب الأسباب، وإن كان بلا حول ولا قوه فحول الله وقوته تحيطانه من كل جانب فهو إذا بأمله وبثقته في ربه يملك النجاة والفوز المبين علي فرعون وجنوده {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} كيف يا موسي لا أدري ولكن ما دام ربي معي فثم الهداية والنجاة.

فلولا انتفاضة نبي الله موسي عليه السلام وقلبه الذي ينبض بالأمل والثقة لأدركهم فرعون بسبب شؤمهم.

وسيدنا أيوب عليه السلام ابتلاهُ ربُّه بِذَهابِ المالِ والوَلَدِ والعافِيَةِ، ثُمَّ ماذا؟ لم ينقطع أمله أبدا ولكن ظل مؤملًا ومستبشرًا {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسّــَنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَـفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَــهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَــةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكـْرَى لِلْعَابِدِينَ} [ الأنبياء: ٨٣ - ٨٤].

وسيدنا يونس قد ابتلعه الحوت {فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (الأنبياء: ٨٧-٨٨).

الأمل في الذرية بعد العقم:

 المؤمن كله أمل في كرم الله؛ فهو سبحانه الوهاب، فيقتدي المسلم بالأنبياء، ويسأل رب الأرض والسماء؛

فهذا سيدنا زكريا عليه السلام قال تعالي {إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا . قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا . وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}  (مريم: ٣-٦)

 فاستجاب الله تعالي لدعائه فقال تعالي: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} (مريم٧). 

 والمثل الأعلى للمصلحين، والأسوة الحسنة للسائرين، وحجة الله على العالمين  سيدنا رسول الله ﷺ

 ظل في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو قومه إلى الإسلام، فيلقون دعوته بالاستهزاء، وقرآنه باللغو فيه، وحججه بالأكاذيب، وآياته بالتعنت والعناد، وأصحابه بالأذى والعذاب، فما لانت له قناة، ولا انطفأ في صدره أمل.

اشتد أذى المشركين لأصحابه، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم في ثقة ويقين: "تفرقوا في الأرض وإن الله سيجمعكم".

ماذا تسمي هذا الشعاع الذي يبزغ في دياجير الأحداث من القلوب الكبيرة، فينير الطريق ويبدد الظلام؟ إنه الأمل، وإن شئت فهو الإيمان بنصر الله: ﴿يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ . وَعْدَ الله لَا يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم:٥، ٦]   

  ويعلمنا النبيُّ ﷺ أن من أركان الأمل الصبر وعدم الاستعجال فقد كان الصحابة يشكون ذلك للنبي ﷺ الذي كان يبدد أوهامهم، ويبث "الأمل" فيهم، لما زاد ضغط المشركين وتعذيبهم للمسلمين المستضعفين، فقد ذهب سيدنا خباب إلى النبي ـﷺـ، فيقول: (شكونا إلى رسول الله ـﷺـ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا ؟، قال ـﷺ ـ:  كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري

وقال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا والله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٦].

التحذير من اليأس والقنوط

   لقد حرم الله تعالي اليأس، واعتبره قرين الكفر. فقال تعالي: "يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" { يوسف ٨٧}.

وندد بالقنوط واعتبره قرين الضلال فقال تعالي علي لسان نبيه إبراهيم عليه السلام "قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ" {الحجر٥٦}.

ـ وحكم علي اليائسين بالبوار فقال تعالي: {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا.} (الفتح: ١٢).

فكيف يتطرق اليأس إلى نفس المؤمن وهو يقرأ هذه الآيات؟! أم كيف يتمكن منه قنوط وهو يردد كلما قرأ القرآن قوله تعالى: (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون)؟.

 إن العبد حين يكون مؤمنًا حقا فإنه لن ييأس بل سيكون دائمًا مستبشرًا راضيًا متطلعًا للأحسن في كل الأمور أصابه في طريقه ما أصابه وقد قال الرسول الكريم ـﷺـ: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له". فهو في كل الأحوال موعود بالخير فكيف ييأس؟.

ـ وأجمع العلماء أنهما من الكبائر بل أشد تحريمًا، وجعلهما القرطبي في الكبائر بعد الشرك من حيث الترتيب، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (الكبائر أربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأْس من روح الله، والأمن من مكر الله) .

ـ واليأْس فيه سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى: فقال تعالي {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا} [الإسراء: ٨٣].

واليأس سبب لفساد القلب:

قال ابن القيم وهو يعدد الكبائر: (الكبائر: القنوط من رحمة الله، واليأْس من روح الله 

ولقد عاب النبي ﷺ على الذين ينفّرون الناس، ويضعون الناس في موقع الدونية والهزيمة النفسية فعن أبي هريرة  رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم" رواه مسلم

(ومن يحـول بينك وبين التوبة)

   كلمةٌ عالم بعثت الحياة والأمل؛ فكانت سببًا في حياة كثيرين، وتوبة قاتل المائة نفس، كان الأمل سببًا في حياة قلبه، وحياة غيره لما تاب إلى الله. حكى الرسول ﷺ لصحابته قصة رجل قتل تسعة وتسعين نَفْسًا، وأراد أن يتوب إلى الله -تعالى- فسأل أحد العباد الزهاد: هل تجوز لي التوبة؟ فأجابه ذلك العابد: لا. فاغتاظ الرجل وقتله وأكمل به المائة، وبعد أن قتله زادت حيرته وندمه، فسأل عالمًا صالحًا: هل لي من توبة؟

فقال له: نعم تجوز لك التوبة، ولكن عليك أن تترك القرية التي تقيم فيها لسوء أهلها وتذهب إلى قرية أخرى أهلها صالحون؛ لكي تعبد الله معهم. فخرج الرجل مهاجرًا من قريته إلى القرية الصالحة، عسى الله أن يتقبل توبته، لكنه مات في الطريق، ولم يصل إلى القرية الصالحة. فنزلت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، واختلفوا فيما بينهم أيهم يأخذه، فأوحى الله إليهم أن يقيسوا المسافة التي مات عندها الرجل، فإن كان قريبًا إلى القرية الصالحة كتب في سجلات ملائكة الرحمة، وإلا فهو من نصيب ملائكة العذاب. ثم أوحى الله -سبحانه- إلى الأرض التي بينه وبين القرية الصالحة أن تَقَارَبِي، وإلى الأخرى أن تَبَاعَدِي، فكان الرجل من نصيب ملائكة الرحمة، وقبل الله توبته؛ لأنه هاجر راجيًا رحمته سبحانه، وطامعًا في مغفرته ورحمته. [القصة مأخوذة من حديث متفق عليه].

أيها المؤمنون ....إنه ليس مع الإيمان يأس، وليس مع اليقين عجز، فإن حصل اليأس أو العجز فثمة خلل في الإيمان، وضعف في اليقين.

التاريخ يحي فينا الأمل:ـ

اقرؤوا التاريخَ إذ فيه العِبَر

                        ضلَّ قومٌ ليس يَدْرُون الخَبَر

إن التاريخ كله يعطي رسالة واضحة {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ...} [آل عمران: ١٤٠].

إذا كانت هذه نصوص القرآن، فهل يستطيعون من لا يؤمن به أن يكذب التاريخ العالمي الذي يؤكد حقائق القرآن؟ أين أكاسرة الفرس وقياصرة الرومان؟ أين عمالقة الهند والصين؟ أين هولاكو ولويس التاسع؟  أين نابليون؟ أين كارل ماركس ولينين وستالين؟ وغيرهم كثير؟ {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ . أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ

جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ . سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ . بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ.} [القمر: ٤٣-٤٦].  

 وانظر أخي المسلم إلى التاريخ يصدقك هذه الأنباء، إن المسلمين قد مرت بهم أحوال عصيبة، وظروف رهيبة، لا تقل عما يحل بهم اليوم.....

أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان.. وبعد.

شهادة التاريخ

  وانظر أخي المسلم إلى التاريخ، فإنه خير مُصدِّقٍ لهذه الأنباء، إن المسلمين قد مرت بهم أحوال عصيبة، وظروف رهيبة، لا تقل عما يحل بهم اليوم، ألم تسمع عن جيوش التتار الغازية البربرية الوحشية المدمرة الفتَّاكة التي ما تركت أخضر ولا يابسًا، والتي أتت على كل معنى من معاني الإنسانية، ودمرت كل معلم من معالم الحضارة البشرية، ألا ترى تلك الأحوال؟ ألم تقرأ عن دخول التتار بغداد سنة ست وخمسين وستمائة للهجرة؟

قال ابن كثير في تاريخه: إن عدة مَن قُتلوا في بغداد في ذلك الوقت نحو ثمانمائة ألف نسمة، ويذكر في رواية أخرى أنهم يزيدون عن ألف ألف؛ أي: عن مليون، قال: قُتِلوا حتى هربوا إلى بيوتهم، ثم دخلوا عليهم في بيوتهم حتى صعدوا إلى أسطح منازلهم، ثم قتلوا حتى صبت ميازيب بيوتهم من دمائهم، وبقوا أربعين يومًا يستحر فيهم القتل من أولئك التتار الكفرة الهمجيين، ثم ماذا بعد ذلك أيها الإخوة؟! بعد عامين اثنين فقط، في الخامس والعشرين من شهر رمضان، في يوم جمعة أغر للعام الثامن والخمسين وستمائة للهجرة، كانت معركة عين جالوت، عندما عادت الأمة إلى ربها وتوحَّدت في بعض صفوفها، وأخلصت في كثير من المعاني لربها، جاءت عين جالوت، لتكون نصرًا عظيمًا للإسلام والمسلمين، ودحرًا وكسرًا للتتار المعتدين. ثم بعد ذلك دخل التتار في دين الله أفواجًا وصاروا مسلمين، وبمقياس العقل والمادة لا يمكن لأمة هُزِمت مثل هذه الهزيمة، وحلَّت بها مثل هذه المصيبة أن تقوم لها قائمة، أو أن ينشط لها أبناؤها في هذه الفترة الوجيزة من الزمان.

ألم تسمع عن تاريخ الصليبين في بيت المقدس.. قال الإمام الحافظ ابن كثير في تاريخه:- "مَن كان يظن أن تقومَ للمسلمين قائمة لَمَّا استولى الصليبيون على كثيرٍ من البلاد الإسلامية والمسجد الأقصى ما يقارب مائة عام، وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب، وارتكبوا فيه ما لا ترتكب أكثر منه الشياطين، لبثوا فيه أسبوعًا؛ يقتلون المسلمين حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفًا، منهم الأئمة، والعلماء، والمُتَعبدون، والمُجَاورون، وكانوا يُجْبِرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت؛ لأنهم يُشعلون النار عليهم وهم فيها فلا يجدون مخرجًا إلا بإلقاء أنفسهم من على السطوح، جاثوا فيها خلال الديار، وتبَّروا ما علوا تتبيرا، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدراهم والدنانير، ثم وُضِعت الصُلبان على بيت المقدس، وأدخلت فيه الخنازير، ونودي من على مآذن لطالما أطلق التوحيد من عليها: أن الله ثالث ثلاثة جل الله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق، وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث، وظنَّ اليائسون أن لا عودة لبيت المقدس أبدًا إلى حظيرة المسلمين، من كان يظنُّ أنَّ هذه البلاد ستُحَرَّر في يوم ما على يد البطل المغوار صلاح الدين في معركة حطين الحاسمة، ويُصبح للمسلمين من الكِيان والعظَمة والعِزَّة والسيادة ما شرَّف التاريخ.

في السابع والعشرين من رجب سنة (٥٨٣ هجرية) حاصرت جيوش صلاح الدين بيت المقدس من كل الجوانب، واستعاد بيت المقدس من جديد ولقن الصليبيين درسًا لم ينسوه، وصاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل، ثم هجموا كالسيل الدَّفَّاع لِيَنْهَزِم الكفار.

الواقع يبعث فينا الأمل:ـ

دخل الاسلام ومازال ينتشر في كل دول العالم وكل يوم نسمع عن أناس يعتنقون الإسلام برغم حملات التنصير الموجهة إلي الدول الفقيرة.

لا تزال المساجد ملأى والقرآن يتلى يبعث في الأمة الأمل لإحياء مجدهم.

 ـ لا يزال القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة محفوظتان وستظلان إلي يوم القيامة برغم الحملات الموجهة لحربهم. قال تعالي: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر: ٩

فهل بعد هذا نيأس؟ هل يتضاءل الأمل أم يتضاعف؟

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ

الدعاء

google-playkhamsatmostaqltradent