مَوَاقِفُ بَكَى فِيهَا
النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أكثر مواقف بكى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة مراحل :"
المرحلة الأولى عند فراق الأحباب
المرحلة الثانية عند هجر الأوطان
المرحلة الثالثة وهي أهم مرحلة وهي عند عبادة الديان.
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العظيم، له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، والإحسان العميم، وله الرحمة الواسعة، والحكمة الشاملة، وهو العليم الحكيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي قال الله فيه:"وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ"(القلم: 4).
اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه،وسلم تسليماً كثيراً أما بعد
فيقول الله تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا"(الأحزاب: 21).
اليوم سنقف مع جزء من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مواقف من حياته بكى فيها -صلى الله عليه وسلم-، وبكاء النبي -صلى الله عليه وسلم- غالٍ، ودموعه سامية لا يبكي إلا لأمر ٍلجلل. يظن البعض بأن البكاء لا يصدر إلا من ضعيف، وأن البكاء من خصال وصفات النساء، وأن الرجل القوي الشجاع لا يبكي، وكل هذا غير صحيح. وكانت أكثر مواقف بكى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ثلاثة مراحل
المرحلة الأولى عند فراق الأحباب
والمرحلة الثانية عند هجر الأوطان
والمرحلة الثالثة وهي أهم مرحلة وهي عند عبادة الديان.
ولد -صلى الله عليه وسلم- يتيماً وماتت أمه بالأبواء وهو صغيراً وعمره ست سنوات وكانت معه أم أيمن رضي الله عنها وقال لام أيمن: أنت أمي بعد أمي -صلى الله عليه وسلم- وصدق الله القائل :"أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى"(الضحى: 6).
ومرت الأيام والشهور والسنين وتزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- خديجة بنت خويلد التي كانت نعم الزوجة والسكن والمعين ضحّت بمالها وبكل ما تملك. وكانت آخر المواقف يوم حوصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وبني هاشم في شعب أبي طالب لتعاني من شدة الجوع والعطش والألم والمرض والاضطهاد ثلاث سنوات وكانت قد بلغت من العمر اثنين وستين عاما وتحملت كل ذلك فداءً للنبي -صلى الله عليه وسلم- واستحقت أن ينزل جبريل يخترق السبع الطباق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له: «السلام يقرئك السلام ويقول لك أقرئ خديجة من ربها السلام وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب"(البخاري).
ثم ماتت خديجة وبعدها أبى طالب الذي كان يدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضد أذى المشركين وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرافقه حتى في آخر لحظات حياته. وتزوج الرسول -صلى الله عليه وسلم- مارية القبطية ورزقه الله منها إبراهيم ويموت وهو صغير فأخذه النبي -صلى الله عليه وسلم- يُقبّله ويشمّه وهو يبكي قال له ابن عوف -رضي الله عنه-: وأنت يا رسول الله؟! فقال عليه الصلاة والسلام:"يا ابن عوف، إنها رحمة"، ثم أتبعها بأخرى وقال:"إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون"(البخاري، ومسلم).
ومن مواقف بكاؤه بعد غزوة أحد حين عاد -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة حزينًا أسيفًا كَسِيفًا، بعد ما وقع في غزوة أُحد وبعد أن رأى عمه حمزة ممثلاً به مجدوع الأذنين, مجدوع الأنف, مشقوق البطن, مستخرج الكبد, حالته لا يطاق النظر إليها, فيرى نساءَ الأنصار يبكون قتلاهم في أحد، فتتقاطر الدموعُ على وجْنَتيه الشريفتين بأبي هو وأمي، ويقول: [ولكنّ حمزة لا بواكي له، ولكنّ حمزة لا بواكي له]، فطَفِقْن نساءُ الأنصار يقلن: نحن نبكيه ونندبه يا رسول الله، نحن نبكيه ونندبه يا رسول الله، فنهاهن عن ذلك وأبى النياحة. وبعد غزوة مؤته تلك المعركة التي حدّد -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة من الصحابة قادة ثم قال:"إن أصيب زيدٌ فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحه على الناس".
نقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- المعركة على الهواء و نعاهم لأصحابه بالمدينة في نفس اللحظة، فقال: "أخذ الراية زيد فأُصيب، ثم أخذ جعفر فأُصيب، ثم أخذ عبد الله بن رواحة فأُصيب ـ وعيناه تذرفان ـ، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم".
رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- ودخل على زوجة جعفر أسماء بنت عميس فقال لها ائتني ببني جعفر فلما جاءت بهم أخذهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبلهم وهو يبكي ويقول:"أتخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة" ؟! (أحمدوأبو داود)،
وفي الحكمة من حلق رؤوسهم قال العظيم آبادي: لما رأى من اشتغال أمهم أسماء بنت عميس عن ترجيل شعورهم بما أصابها من قتل زوجها في سبيل الله فأشفق عليهم من الوسخ والقمل عون المعبود 11/ 164).. كيف لا يفعل ذلك وهو الذي أوصانا بصلة الرحم وأوصانا بكفالة الأيتام وقال: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى"(البخاري).
يوم فتح مكة
ومن مواقف بكاؤه -صلى الله عليه وسلم- يوم صعد بلال واستوى على الكعبة يوم فتح مكة ليخاطب الدنيا بشهادة الحق إلى يوم الدين، فلما أذّن بكى الناس، ومن الذي يرى هذا المشهد، ويرى هذه الصورة، ويسمع هذا الصوت، ويعيش هذه التفاصيل، ثم لا يبكي، شيء عجيب يوم الفتح الأكبر، الفاتح رسول الله عليه الصلاة والسلام، الدين الإسلام، المؤذن بلال، من بلال؟ المولى الأسود، وأين يؤذن؟ على سطح الكعبة المشرفة، وكان صوته جميلاً ندياً، يشجي القلوب، وتطرب له الآذان. وبكى رسول الله عليه الصلاة والسلام، سالت دموعه، لأنه تذكر المعاناة، تذكر الأيام العصيبة التي عاشتها هذه الطائفة المؤمنة، وتذكر فضل الله عليه وإنعامه بهذا النصر المبين، لقد انتصر محمد -صلى الله عليه وسلم-، وها هو مولاه وحبيبه الذي كان مطارداً معذباً مهاناً، أصبح المؤذن الأول في التاريخ، وها هو صوت بلال يجلجل في هضبات مكة وأوديتها، يزلزل الدنيا بلا إله إلا الله.
أما البكاء عند فراق الأوطان
فيوم خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يبحث عن من يحمي هذا الدين، ويبلغ هذا الدين فخرج إلى الطائف على قدميه الشريفتين أكثر من 90 كيلو متر لا يركب دابة، ولما وصل إلى الطائف كان الجواب كما تعرفون الاستهزاء الضرب بالحجارة حتى أدموا قدمه الشريفتين -صلى الله عليه وسلم- وهو من هو سيد الأولين والآخرين. فينصرف حزيناً، باكياً فيأتي ظلّ شجرة، فيجلس، ثم يقول:"اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة؛ أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ بي سخطك، لك العُتبى حتى ترضى ولا قوة إلا بالله" (قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 38) رواه الطبراني وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات).
وعندما جاء الإذن بالهجرة إلى المدينة، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- سيترك الوطن
ومسقط الرأس يترك المكان الذي تعبد الله فيه يترك المكان الذي تربى فيه والأهل والديار
ويخرج وهو ينظر إلى مكة وهو يبكي ويقول: «والله، إنّكِ لأحَبّ البقاعِ إلى الله وأحبّ
البقاع إليَّ، ولولا أني أُخرِجتُ منك ما خَرَجتُ» [مسند أحمد (4/ 305)، سنن الترمذي:
كتاب المناقب (3925)، سنن النسائي الكبرى (4252، 4253، ) وهو في صحيح سنن الترمذي (3082).
بكاؤه عند عبودية الديان
عباد الله: أما بكاؤه -صلى الله عليه وسلم- عند عبودية الديان فالنبي -صلى الله عليه
وسلم- هو اتقى الناس وأخشى الناس لله عزوجل. فهو القائل-صلى الله عليه وسلم-:
"إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أَطَّتِ السَّمَاءُ وحُقَّ لها أن تَئِطَّ، ما فيها
موضع أربع أصابعَ إلا وفيها ملك واضع جَبْهَتَهُ ساجدًا لله" (الترمذي كتاب الزهد
ومسند الإمام أحمد و ابن ماجه في الزهد، باب: الحزن والبكاء من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-).
كيف لا يبكي -صلى الله عليه وسلم- بين يدي ربه
وهو القائل:"سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: منهم رجل ذكر الله خالياً
ففاضت عيناه"(متفق عليه).
كيف لا يبكي هو القائل: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت
تحرس في سبيل الله» "( مسلم).
كيف لا يبكي -صلى الله عليه وسلم- وهو القائل: "لا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ"(الترمذي والنسائي ح ( ، وأحمد).
أخي الحبيب: متى آخر مرة بكيت من خشية الله؟
متى نبكي على تفريطنا وتقصيرنا في حق الله قبل أن نبكي الدم يوم القيامة؟
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اقرأ سورة
الفرائض فقرأ النساء حتى إذا بلغ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى
هَؤُلَاءِ شَهِيدًا"(النساء: 41)، فقال له بيده أمسك أمسك، قال فبكى النبي -صلى الله عليه
وسلم- فأكثر البكاء وامسك ثم قال: «أعد» فقرأها من أولها حتى إذا بلغ هذه الآية بكى
أيضاً وامسك عبدالله حتى فعل ثلاث مرات. وعن عبيد بن عمير -رحمه الله-: أنه قال
لعائشة – رضي الله عنها -: أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-؟ قال: فسكتت ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي. قال: «يا عائشة ذريني أتعبد
الليلة لربي» قلت: والله إني أحب قُربك، وأحب ما يسرك. قالت: فقام فتطهر -صلى الله
عليه وسلم-، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي، حتى بل حِجرهُ. قالت: وكان جالساً فلم يزل
يبكي -صلى الله عليه وسلم- حتى بل لحيته! قالت: ثم بكى حتى بل الأرض! فجاء بلال
يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك
وما تأخر؟! قال: « أفلا أكون عبداً شكورا؟! لقد أنزلت علي الليلة آية، ويل لم قرأها ولم
يتفكر فيها" ! :"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ"(آل عمران: 190) ابن حبان وغيره، وصححه).
عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: بينما نحن مع رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- إذ بَصُرَ بجماعة، فقال: «على ما اجتمع هؤلاء"؟ قيل: على قبر
يحفرونه، ففزع رسول الله، فبدر بين يدي أصحابه مسرعًا حتى انتهى إلى القبر، فجثا
عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى من دموعه، ثم
أقبل علينا فقال: «أي إخواني، لمثل هذا اليوم فأعدوا"(أحمد وابن ماجه عن
البراء وهو حديث حسن). ..
كان النبي كغيره من البشر، يحزن ويفرح ويبكي، وأنا أقف معك أيها القارئ الكريم عند هذه المواقف التي بكى فيها رسول الله؛ لنعرف لأجل أي شيء كان بكاؤه، فنحذو حذوه، ونقتفي أثره، ونقتدي به في حزنه وفرحه.
بكاؤه في الصلاة:
عن عبدالله بن الشخير قال: "رأيت رسول الله يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء"، وفي رواية: "وفي صدره أزيز كأزيز المرجل"( أحمد وأبو داود والنسائي ).
أزيز: صوت، الرحى: الطاحون، المِرجل: قدر من نحاس أو حديد يُطبَخ فيه.).
وعن علي قال: "ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح"(أحمد).
عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله قال: "دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة، فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزور، فقال: أقول يا أمَّه كما قال الأول: زُرْ غِبًّا تزددْ حبًّا، قال: فقالت: دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيتِه من رسول الله، قال: فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي، قال:"يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي"، قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرُّك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، قالت: وكان جالسًا، فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، ثم بكى حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذِنُه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال:"أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ لقد نزلت عليَّ الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها:" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ "(آل عمران/190-ابن حبان).
بكاؤه عند سماع القرآن:
عن عبدالله بن مسعود قال: "قال لي رسول الله: اقرأ عليَّ القرآن، قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أُنزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، فقرأت النساء، حتى إذا بلغت: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا "(النساء: 41).
رفعتُ رأسي - أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي - فرأيتُ دموعه تسيل))، وفي رواية البخاري:"حتى أتيتُ إلى هذه الآية: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا "(النساء: 41). قال: حسبك الآن، فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان"(البخاري ومسلم).
وعن عمرو بن حريث قال:"قال النبي لعبدالله بن مسعود: اقرأ، قال: أقرأ وعليك أُنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فافتتح سورة النساء حتى بلغ: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا "(النساء: 41)، فاستعبر رسول الله، وكفَّ عبدالله، فقال له رسول الله: تكلم، فحمِد الله في أول كلامه، وأثنى على الله وصلى على النبي، وشهد شهادة الحق، وقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، ورضيت لكم ما رضي الله ورسوله، فقال رسول الله: رضيتُ لكم ما رضي لكم ابن أم عبد"(الحاكم ).
قال ابن بطال: "وإنما بكى عند هذا؛ لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن"
بكاؤه على القبر:
عن أبي هريرة قال: زار النبي قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال:"استأذنتُ ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذِن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت"(مسلم).
وعن البراء بن عازب قال: كنا مع رسول الله في جنازة، فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بل الثرى، ثم قال: "يا إخواني، لمثل هذا فأعدوا(؛ هذا لفظ ابن ماجة).
وفي رواية أحمد:"بينما نحن مع رسول الله إذ بصر بجماعة، فقال: علام اجتمع عليه هؤلاء؟ قيل: على قبر يحفرونه، قال: ففزع رسول الله، فبدر بين يدي أصحابه مسرعًا حتى انتهى إلى القبر، فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا، قال: أي إخواني، لمثل اليوم فأعدوا "(أحمد).
بكاؤه من أجل أمته
وفي الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ قول الله عز وجل عن
إبراهيم:"رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ"(إبراهيم: 36)، ثم تلا قوله تعالى عن عيسى: "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"(المائدة: 118)، ثم بكى -صلى الله عليه وسلم-،
فأرسل الله إليه جبريل، وقال له: سله ما يبكيك؟ والله أعلم بما يبكيه، فقال -صلى الله
عليه وسلم-: «أمتي أمتي» -يبكي على أمته- فقال الله عز وجل: «يا جبريل! اذهب إلى
محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك» ؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله. فأخبره
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما قال. وهو أعلم. فقال الله: «يا جبريل! اذهب إلى
محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك"( مسلم )
وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "ترد عليَّ أمتي الحوضَ، وأنا أذود الناس عنه، كما يذود الرجلُ إبلَ الرجلِ عن إبله، قالوا: يا نبي الله، أتعرفنا؟ قال: نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون عليَّ غُرًّا محجلين من آثار الوضوء، وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يا رب، هؤلاء من أصحابي، فيجيبني ملك، فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟ وفي رواية: فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا"(البخاري ومسلم)،
أذود": أمنع وأطرد، "سيما": علامة، "غرًّا محجلين": غرًّا: ذو غرة، وأصل الغرة: لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ومحجلين: من التحجيل، وهو بياض يكون في قوائم الفرس، والمعنى: أن النور يسطع من وجوههم وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة.
بكاؤه رقة وحمة بأبناءه وأحفاده
عن أنس بن مالك قال: دخلنا مع رسول الله على أبي سيف القين، وكان ظِئرًا لإبراهيم عليه السلام، فأخذ رسول الله إبراهيم، فقبَّله وشمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: "يا ابن عوف، إنها رحمة"، ثم أتبعها بأخرى، فقال: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون"(البخاري ومسلم )،
ظئرًا": زوج مرضعته وهي خولة بنت المنذر، "وأنت": تفعل كما يفعل الناس عند المصائب، "بأخرى": أتبع الدمعة بأخرى أو بالكلمة التي قالها بأخرى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أخذ النبي بنتًا له تقضي، فاحتضنها، فوضعها بين ثدييه، فماتت وهي بين ثدييه، فصاحت أم أيمن، فقيل: أتبكي عند رسول الله؟ قالت: ألستُ أراك تبكي يا رسول الله؟ قال: ((لستُ أبكي، إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن نفسه تخرج من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل"(أحمد ابن حبان والنسائي ).
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كان ابن لبعض بنات النبي يقضي، فأرسلت إليه أن يأتيها، فأرسل: ((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل إلى أجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب))، فأرسلت إليه فأقسمت عليه، فقام رسول الله، وقمت معه، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وعبادة بن الصامت، فلما دخلنا ناولوا رسول الله الصبي، ونفسه تقعقع، فبكى رسول الله، فقال سعد بن عبادة: أتبكي؟ فقال: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء"( البخاري، ومسلم).
"تتقعقع": تتحرك وتضطرب ويُسمع لها صوت.
بكاؤه رحمة بأصحابه في مرضهم وموتهم
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال:"اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله يعوده مع عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غشية، فقال: أقد قضى؟ قالوا: لا، يا رسول الله، فبكى رسول الله، فلما رأى القوم بكاء رسول الله، بكوا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم"( البخاري ومسلم).
وعن أنس بن مالك قال: خطب النبي فقال: "أخذ الراية زيد فأُصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبدالله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففُتح له، وقال: ما يسرنا أنهم عندنا - أو قال: ما يسرهم أنهم عندنا - وعيناه تذرفان"(البخاري).
مواقف أخرى:
عن ابن عباس رضي الله عنه عن عمر بن الخطاب: ".. فلما أسروا الأسارى - يعني في غزوة بدر - قال رسول الله لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكِّنَّا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان - نسيبًا لعمر - فأضرب عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهَوِيَ رسول الله ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلت، فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدتُ بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله: أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرِض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة من نبي الله - وأنزل الله عز وجل:"مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ "(الأنفال: 67). إلى قوله: " فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا"(الأنفال: 69). فأحل الله الغنيمة لهم"( مسلم).