recent
أخبار عاجلة

خطبة الجمعة القادمة بعنوان / علمتني مدرسة الزراعة للشيخ / محمد عبد التواب سويدان

 

علمتني مدرسة الزراعة 

للشيخ / محمد عبد التواب سويدان


الحمد لله الذي فقَّه من أراد به خيرًا في الدين، أحمده حمدًا يفوق حمد الحامدين، وأشكره على نعمه التي لا تُحصى وإياه أستعين، وأستغفره وأتوب إليه وأتوكل عليه إنه يحب المتوكلين .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وبذلك أُمرت وأنا من المسلمين،

 وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله الذي أرسى قواعد الشرع وبيَّنها أحسن تبيين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد؛

 أيها الكرماء الأجلاء : 

تعدُّ الزراعة مهنة من أجلِّ المهن اللازمة لحياة البشرية، وآية من آيات الله، وسبيل لترسيخ الإيمان في القلوب، ودليل على وحدانية الله عز وجل؛ فهو الذي خلقها ونمّاها، وأخرج منها الثمار والحبوب، فلكل نبتة، ولكل شجرة، ولكل ورقة، ولكل ثمرة، أمر من الله بالخلق، وأمر بالبقاء، وأمر بالنفع والضر.

أما دور البشر فهم يحرثون، ويلقون الحب الذي خلقه الله في الأرض التي خلقها الله، ويسقونه بالماء الذي خلقه الله، ثم ينتهي دورهم: يقول الله سبحانه: "وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ  لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ"(يس: 33- 34).

ويقول جل وعلا :"أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ   أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ"(الواقعة: 63، 64).

وتعدد أنواع الزرع آية من آيات الله : فهذا حَب، وهذا ثمر، وهذا زهر، وهذا عشب، وهذه فاكهة وهذه خضر، وهذا معروش، وهذا غير معروش؛ وهذا حلو وهذا حامض، وهذا رطب وهذا يابس، وزرع ونخيل، وعنب وزيتون، وفواكه مختلفة، وأعشاب متنوعة: قال تعالى:" فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ  أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا  ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا  وَعِنَبًا وَقَضْبًا  وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا  وَفَاكِهَةً وَأَبًّا  مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ"(عبس: 24 - 32).

وقال :" وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ"(الأنعام/141 ).

وجاءت أحاديث رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لتَحث المسلمين على الزراعة وبيان مَنافعها؛ فلقد حث على الغرس والزراعة حتى في أشدالمواقف وأصعبها : فعن أنسٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ"رواه أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد.

ونهى -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن ترك الأرض بورًا من غير زرع، فقال:"من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإنْ أَبَى فليمسك أرضه"(البخاري، ومسلم).

وجعل الحبيب المصطفى من الأجر والثواب للمزارعين ما لا يعلمه إلا الله فقال عليه الصلاة والسلام "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ" (البخاري).

وفي رواية مسلم : "وَمَا سُرِقَ لَهُ مِنْهُ صَدَقَةٌ... وَلاَ يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ "أي يأخذ منه وينقصه" إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ".

وقال عليه الصلاة والسلام :"مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ زَرْعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الْعَوَافِي إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهِ أَجْرًا"(المعجم الكبير للطبراني).

وقد صرَّح النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنَّ الغرس من الأعمال التي تبقى للرجل بعد موته، فقال صلى الله عليه وسلم "سَبْعَةٌ يجْرِي عَلَى الْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي بِرِّهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ أَكْرَى نَهْرًا، أَو حَفْرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلاً، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ"(البزار وابو نعيم).

أيها المسلمون :

 والزراعة مدرسة أخلاقية تعلمنا مجموعة من مكارم الأخلاق؛ منها :

 حسن التوكل على الله عز وجل مع الأخذ بالأسباب : إن المزارع يضع الحبة في الأرض ويرويها بالماء الذي سخره الله له، ويهيئ لها الأرض التي هيأها الله عز وجل له ويستخدم الآلات التي أنعم الله بها عليه، ويأخذ بالأسباب متوكلًا على الله؛ لكنه يعلم أنها تنبت بإذن من؟ وبإرادة من؟ تنبت بإذن الله وبإرادة الله، وتثمر بإذن الله وبإرادة الله، ولولا إرادته ما أنبتت ولا أثمرت، وهذا من حسن التوكل على الله سبحانه " الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ   وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ   وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ  وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ"(الشعراء ).

نقل النووي في المجموع: "قال الماورديُّ: أصول المكاسب الزارعة والتجارة والصنعة، وأيُّها أطيب؟ قال (الماوردي): والأشبه عندي أنَّ الزراعة أطيب؛ لأنَّها أقرب إلى التوكُّل.

وذكر الشاشيُّ وصاحب البيان وآخرون نحو ما ذكره الماوردي وأخذوه عنه" ثُمَّ ذكر النوويُّ حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عليه السلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ" [رواه البخاري ]. ثُمَّ قال: "فالصواب ما نصَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عمل اليد، فإن كان زرَّاعًا فهو أطيب المكاسب وأفضلها؛ لأنَّه عمل يده، ولأنَّ فيه توكُّلاً، كما ذكره الماورديُّ.

أيها المسلمون؛ 

التوكل على الله مِنْ أجَلِّ المقامات، ومِنْ أعظم الواجبات والعبادات، ومعناه الاعتماد على الله، والثقة به، وتفويض الأمور إليه؛ قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "التوكل هو الثقة بالله، وصدق التوكل أن تَثِق في الله وفيما عند الله، فإنه أعظم وأبقى مما لديك في دنياك"

وقال ابن رجب: "هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها"

وقد أمر الله به المؤمنين والقرآن الكريم زاخر بالآيات؛ قال سبحانه: "وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"(المائدة:23)، وقال تعالى:"وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"(المائدة: 11).

وأمَر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال:"وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً"(الأحزاب:3). 

وقال سبحانه:"فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ"(النمل:79).

 والتوكل الصحيح على الله تعالى معناه : الاعتماد عليه سبحانه، وتفويض الأمور كلها إليه، لأنه الكفيل بأمور عباده، والقادر على كل شيء، مع السعي في الأسباب التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، والمسلم مُطالَب بالتوكل على الله والسعي والأخذ بالأسباب المشروعة؛ قال تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا"(الملك:15) وقال:"وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ"(الأنفال:60)

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو أنكم تتوكلون على الله حق توكُّلِه، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِماصاً (تذهب جياعاً) وتروح بطانا "ترجع بطونها ملئت بالطعام"(الترمذي).

قال ابْن رجب فِي كِتَاب "جامع العلوم والحِكَم": "هذا الحدِيث أَصْلٌ في التوكل".

وقال الطيبي: "قوله: (حق توكله) بأن يعلم يقينا بأن لا فاعل إلا الله، وأن كل موجود من خلق ورزق، وعطاء ومنع، وحياة وموت، وغنى وفقر ـ وغير ذلك - من الله تعالى، ثم يسعى في الطلب على الوجه الجميل، يشهد لذلك تشبيهه بالطير، فإنها تغدو خماصا، ثم تسرح في طلب القوت فتروح بطانا"

وقال ابن حجر في "فتح الباري": "المراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية:"وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا"(هود:6)، 

وليس المراد به ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين، لأن ذلك قد يجر إلى ضد ما يراه من التوكل، وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته، أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجل جهل العلم.

وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن معاوية بن قرة، أن عمر بن الخطاب، لقي ناساً من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا : نحن المتوكلون. قال: بل أنتم المتواكلون، إنما «المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض، ويتوكل على الله»

 ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم ـ وهو إمام وسيد المتوكلين على الله ـ يستفرغ الوسع والجهد في الأخذ بالأسباب مع كمال توكله واعتماده على ربه، والمتأمل لحياة وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يُدْرِك عِظم توكله على ربه، وهذا التوكل لا ينافي أو يتعارض مع أخذه بالأسباب، فكان يتزود في أسفاره، ويعدّ السلاح في حروبه، وقد أعد النبي للهجرة ما أمكن مع صاحبه من اختيار الوقت المناسب، وإعداد وتجهيز الراحلتين والزاد، وحُسْن اختيار دليل السفر الذي كان يدلهما على الطريق الصحيح، والذي كان يأتي بالغنم ليخفي آثار سيرهما، وغير ذلك من أسباب.. وقد لبس يوم أُحُد درعين مع كونه من التوكل بمكان لم يبلغه أحَدٌ مِنْ خَلْقِ الله تعالى.

و"المتوكل" مِنْ أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. عن عطاء بن يسار رضي الله عنه قال: لقيتُ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قلتُ: "أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل، إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا"(الأحزاب:45)، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتُك المتوكل.."(البخاري).

 ومن مدرسة الزراعة تعلمت : الأمانة : ففي يد المزارع أمانة هي قوام الحياة للناس جميعًا، وهذه الأمانة يجب رعايتها، لقد كانت سببًا في نجاة بلاد من الفقر والقحط الشديد، هذا سيدنا يوسف يفسر رؤيا عزيز مصر التي أزعجته :" قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ"(يوسف 47-49)  فلما نفذوا ما نصحهم به نجوا بإذن الله.

 ومن مدرسة الزراعة تعلمت :

 الشكر لله عز وجل وعدم جحود النعمة وإخراج حق الله : لأن الإنسان يرى نعمة الله كل يوم بين يديه وهو يرعى زرعه فيدوم شكره لربه، وفي قصة صاحب الجنتين العبرة والمثل "وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا" فقد جحد نعمة الله ونصحه صاحبه المؤمن:" وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ "(الكهف: 39)،

 ولما لم ينتصح كانت النتيجة :" وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا"(الكهف: 42).

وذكر الله لنا قصة أصحاب الجنة لنعتبر قال الله :" إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ  وَلَا يَسْتَثْنُونَ  فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ "()

كان هناك رجل صاحب بستان بقرية يقال لها "ضروان" قريبة من صنعاء. كان يأخذ منها وقت سنته. ويتصدق بالباقي علي الفقراء. فلما مات الرجل قال أبناؤه. إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أصحاب عيال. فقرروا أن يقطفوا ثمار الحديقة مبكراً قبل أن يستيقظ الناس وحتي لا يراهم أحد من المساكين والفقراء. وعزموا ألا يستثنوا أحداً منهم. وكان بينهم أخ عادل وخير منهم نصحهم بأن يتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة بقطع ثمار فعصوه. وعاقبهم الله فأحرق لهم جنتهم وسارت أرضاً بيضاء بلا شجر ولا ثمر. وقال الحسن إنهم كانوا كفاراً ــ فأنزل عليهم هذا البلاء وهم نائمون؛ فلما رأوا أنهم قد حرموا من ثمرها بمنع للفقراء. فذكرهم أخوهم وعايرهم بأنهم لم يسمعوا نصيحته. فاستغفروا الله عسي أن يتقبل منهم توبتهم؛

 أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

 

                    الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفي وصلاة وسلاما علي عباده الذين اصطفى وبعد: أيها الأحبة الكرام: مازلنا مع مدرسة الزراعة فأقول :

 ومن مدرسة الزراعة تعلمت :

 أن أكون نافعاً أينما كنت : وفي حديث تشبيه المؤمن بالنخلة خير دليل، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يوماً مع بعض أصحابه، فقال: "إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقطُ ورقُها، وإنَّها مثلُ المسلم، فحدِّثوني ما هي؟" فوقع الناس في شجر البوادي، فقال عبد الله بن عمر: ووقع في نفسي: أنَّها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ فقال: "هي النخلة" قال: فذكرتُ ذلك لعمر. قال: "لأَنْ تكون قلتَ: هي النخلة، أحبّ إليّ من كذا وكذا"(متفق عليه واللفظ لمسلم).

وفي هذا الحديث: التنبيه على فضل المؤمن، وكثرة نفعه، فلم يشبهْه إلا بأحسن الشجر، وخير النبات.

شبّهه هنا بالنخل، وشبهه في حديث آخر بالكرم، وهو شجر العنب؛ لما فيهما من كثرة النفع والخير.

 فمن أوجه الشبه بين المؤمن والنخلة : ثبات إيمانه في قلبه، كثبات أصل النخلة في الأرض، قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا"(إبراهيم: 24 - 25).

فلا تحطمه الفتن، ولا تزعزعه الشبهات، فهو كالنخلة التي تهب عليها الأعاصير والرياح، ثم تنجلي، وإذا النخلة صامدة ثابتة قائمة، وهكذا المؤمن الصادق في ثباته على الحق لا تفتنه رغبة ولا رهبة عن الحق الذي يدين الله به.

* وفي مسند البزار عَن “أَبِي هُرَيرة”، عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم قال: مثل المؤمن مثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولاَ يزال المؤمن يصيبه بلاء

 ومن شبهه بالنخلة : أنها من أصبر الشجر، فتحتمل كثيراً من العوارض والآفات التي تموت بسببها كثير من الأشجار، وهكذا المؤمن في صبره على مرضات ربه، وصبره على اجتناب نهيه، وصبره على أقدار الله وقضائه.

 ومن شبهه بالنخلة : أن النخلة مباركة الأجزاء، ينتفع بعروقها وجذعها وأوراقها وثمرتها، وكل ما فيها، وهكذا المؤمن مبارك كله؛ نفعه متعدي، فالمؤمن من أنفع الخلق للخلق فتراه كالغيث حيثما وقع نفع، يعلم الجاهل، ويذكر الغافل، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويغيث الملهوف، ويعين على نوائب الدهر، فهو ينفع الناس بعلمه، وينفعهم بماله، وينفعهم بجاهه، وينفعهم  بكلامه وبأعماله.

 وقد جاءت النصوص الصحيحة حاثة على الإحسان والنفع فيما أذن الله فيه؛ كتفريج الكربات، وتنفيسها، والمشي في قضاء الحوائج، وجاء في السنة ما يدل أن الحرص على النفع  والإحسان؛ من أسباب محبة الله للعبد؛ ففي الحديث: "أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا" الحديث.

وفي حديث آخر: "المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس" (الألباني في السلسلة الصحيحة).

فاتقوا الله تعالى الذي خلقكم ورزقكم ورباكم، والذي أطعمكم وكفاكم وآواكم، والذي أنقذكم من الردى وهداكم، وتوكلوا حق التوكل عليه في إصلاح دينكم ودنياكم؛ اللهم ارزقنا التوكل عليك، وحسن الاعتماد عليك، اللهم ارزقنا الثقة فيك، وحسن الظن بك، واليقين فيما عندك، يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين؛ اللهم اجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستعان بك فأعنته، واستهداك فهديته، ودعاك فأجبته، وسألك فمنحته وأعطيته، يا رب العالمين؛ وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين؛ وأقم الصلاة .

google-playkhamsatmostaqltradent