شعار المتكبرين وجزاؤهم
للشيخ / محمد عبد التواب سويدان
الحمدلله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم
هدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمة الإيمان والهدى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لاشريك له يُبتغى ولا ند له يُرتجى وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام التقى
وعنوان الطهر والنقاء صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الحنفاء؛ أما بعد :
ففي النفس البشرية آفات ودسائس، وشرور وخبائث؛ وأمراض داخلية، ولذا كان من الخير
والفلاح للعبد أن يعالج هذه الأدواء؛ ومن الشـر والخيبـة أن يتركها تعشش على قلبه
حتى تفسده وتهلكه؛ وفي محكم التنزيل يقول سبحانه عن هذه النفس: (قَدْ أَفْلَحَ
مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 9، 10]،
ونبي الهدى -صلى الله عليه وسلم-
كثيرًا ما كان يدعو ربه ويبتهل بقوله: "وقني شر نفسي".
ومن أمراض النفس البشرية التي تحتاج
إلى وقفة وتذكير، ومعالجة وتصوير : خُلقٌ يُزينه الشيطانُ لضعفاءِ ومرضى النفوس
فينفخ فيهم حتى ينتفخ أحدهم ويرتفع كالبالون ؛ فتتلاعب بهم الأهواء ويكونون عرضة
للسقوط والتلاشي في أي لحظة، هذا الخُلق هو خُلق الكبر والذي عرَّفه لنا خير
البرية صلوات ربي وسلامه عليه بقوله :((الكِبرُ بَطَرُ الحقِ وغَمطُ الخَلْقِ))
فالمتكبر يرد الحق مهما كان مصدره ويرى نفسه أنه هو الأعلا ولاشيء يعلوه فينظر لكل
الناس نظرة احتقار وازدراء.
ولا يتكبر أحدٌ إلا بشعوره بالنقص في
داخله؛ فالمتكبر ناقصٌ مهزوز الثقة بنفسه؛ يرى أن فيه عيبا ونقصاً وانحطاطاً؛ لا
يزيله إلا بإظهاره للناس عكس ذلك.
المتكبر يختم القدير على قلبه فلا يميز
بين الحق والباطل يقول الله جل جلاله:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ
قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ(35}(غافر)
المتكبر ارتكب ذنباً عظيماً فعن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :((يقولُ اللهُ تعالى
:الكِبرِياءُ رِدَائي والعَظمَةُ إِزاري فمن نازعني واحِداً منها ألقيتهُ في جهنمَ
ولا أبالي))مسلم
وإمام المتكبرين وقدوتهم في ذلك عدو
البشرية جمعاء إبليس أعاذنا الله وإياكم من شره ومكره حيث رد الحق حين جاءه من رب
العالمين ورأى نفسه أنه الأفضل؛ وقال قولته التي ملؤها التكبر العفن؛ وتبع إبليس
في نهجه طائفة من البشر؛
فأصيبوا بشعار المتكبرين؛ وما أدراك ما
شعار المتكبرين؟؟
تلك الكلمة التي استخدمها إبليس؛ فقال:
(أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف:
12].
فباء بلعنة الله والطرد، وصار من
الصاغرين، بعد أن كان صاحب منزلة سامية؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا
فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
﴾ [الأعراف: 13] أي الذليلين الحقيرين؛ معاملة له بنقيض قصده، ومكافأة لمراده بضده"
وقال تعالى: ﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا
مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ
أَجْمَعِينَ ﴾ [الأعراف: 18]؛ عن ابن عباس: أي: مقيتًا، وعنه أيضًا: صغيرًا
مقيتًا، وقال السدي: مقيتًا مطرودًا، وقال قتادة: لَعِينًا مقيتًا، وقال مجاهد:
منفيًّا مطرودًا، وقال الربيع بن أنس: مذؤومًا: منفيًّا، والمدحور: المصغَّر.
وقالها النمروذ: وقد كان ملكًا متجبرًا
طاغية يدَّعي الربوبية؛
فهذا الطاغية المتجبر لما دعاه إبراهيم
عليه السلام إلى توحيد الله، مبيِّنًا له أنه هو وحده الأحق بالعبادة؛ لأنه هو
الذي يحيي ويميت، قال النمروذ، وقد تملَّكه الكبر والغرور: أنا أحيي وأميت؛ قال
الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ
آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ
يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ
الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
فأهلكه الله؛ إذ أرسل عليه وعلى جنوده
بابًا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم
وتركتهم عظامًا بادية.
* تلك الكلمة التي رددها فرعون وباهى
بها، فقال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات: 24]، وقـال: (أَمْ أَنَا
خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف: 52].
فأخرجه الله هو وجنوده من جناتهم
وقصورهم وأموالهم، وأغرقهم في اليمِّ ليكونوا عِبرة لكل ظالم؛ قال الملك سبحانه: ﴿
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ
فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 39، 40].
* الكلمة التي فاخر بها صاحب الجنتين،
فقال لصاحبه وهو ظالم لنفسه: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)
[الكهف: 34].
فأرسل الله على جنتيه مطرًا عظيمًا
مزعجًا، أقلع زرعها وشجرها، وصارت صعيدًا زَلَقًا؛ أي: ترابًا أملس لا يثبت فيه
قدم، وذهب ماؤها غائرًا في أعماق الأرض، فأصبح يقلب كفَّيه حزنًا وأسفًا على
أمواله الكثيرة التي أنفقها على جنَّتيه؛ حيث اضمحلَّت وتلاشت وتَلِفَتْ، ولم
ينفعه حينئذٍ ما كان يفتخر به من ولد وعشيرة وأتباع، في دفع ما نزل به؛
* الكلمة التي استشربها قارون في نفسه،
فقال ناسبًا ثراءه إلى عندياته: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)
[القصص: 78].
فخسف الله به وبداره الأرض.
الكلمة التي تجعل الإنسان لا يرى إلا
نفسه، ولا يهتم إلا بشخصه، ترى هذا النوع من البشر مصابًا بداء العظمة، هائمًا في
عالم النرجسية، مستغرقًا مع خيالات الطاوسية.
هو صواب وغيره خطأ، هو معرفة وسواه
نكره، هو حاضر والباقي غائب؛ أفكاره هي المختارة، وأقواله هي المقدَّمة، فهو
الأفهم والأقدر، وهو الأحرص والأنقى.
يحزن إن لم يبجَّل، يغتم إن لم يُقَمْ
له، همه: كيف تنصرف الوجوه لي، تفكيره: كيف أجعل الأسماع تصغي إليّ؟!
مفتون بالأضواء، مبهور بحب الشهرة.
هذا النوع من البشر إن تحدث فدندنته
حول نفسه، لا يفتأ من ذكر محاسنه وبطولاته، وتاريخه ومغامراته.
هذا النوع من البشر بحاجة إلى أن يتذكر
حقيقته، وهو أنه بالأمس كان نطفة قذرة، وهو اليوم يحمل بين جنبيه عذره، وهو غدًا
محمول إلى حفرة.
يا مظهرَ الكِبر إِعجاباً بصورتِه ...
انظرْ خلاءكَ إِنَّ النتنَ تَثْريبُ
لو فكَّرَ الناسُ فيما في بطونِهمُ
ما اسْتشعرَ الكبرَ شُبَّانٌ ولا شيبُ
هل في ابنِ آدمَ غيرُ الرأسِ مَكرُمَةً
وَفيهِ خَمْسٌ مِن الأقذارِ مضروبُ
أنفٌ يسيلُ وأذْنٌ ريحُها نتِنٌ
والعينُ مُغْمَصَةٌ والثغرُ مَلْعوبُ
يابنَ الترابِ ومأكولَ الترابِ غداً
أَقصرْ فإِنكَ مأكولٌ ومَشْروبُ
ويا مَن يدّب في قلبِه كبرٌ أو غرور؛
هل تعلم مِنْ أيِّ شيءٍ خُلِقْتَ؟ خُلِقْتَ مِن نُطْفةٍ حقيرة {أَلَمْ يَكُ
نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى}
وقد ذكر الله عز وجل في آيات أخرى
حقيقة خلق الإنسان؛ فقال تعالى: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾
[المرسلات: 20]؛ أي: ماء حقير ضعيف، وقال تعالى: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ
مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرَائِبِ ﴾ [الطارق: 5 - 7]، وقال عز وجل: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ
سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا
تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة]
وكنت أوّلَ أمرك بين أحشاءِ أُمّك
وخرجتَ من مَجْرى بولِها.
قال الأحنفُ بنُ قيس رحمه الله: عجبتُ
لمن يجري في مَجرى البَول مرَّتين، كيف يتكبَّر!
هكذا كنتَ فكيف تتكبر؟ مرَّ الأميرُ
المهلبُ بنُ أبي صفرة على مالك بن دينارٍ رحمه الله متبختراً، فقال له: أما علمتَ
أنها مِشيةٌ يكرهها الله إلا بينَ الصَّفينِ؟ فقال المهلَّبُ: أما تعرفني؟ قال:
بلى، أوَّلُك نُطفة مَذِرَة، وآخِرُك جيفةٌ قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمِل
العَذِرَة, فانكسر، وقال: الآن عَرَفْتَنِي حقَّ المعرفة.
ومرَّ بالحسن شابٌّ عليه بَزَّة
حَسَنة، فدعَاه، فقال له: ابن آدمَ، مُعجَبٌ بشبابه، مُحِبٌّ لشمائله، كأنَّ
القبرَ قد وارَى بدنَك، وكأنَّك قد لاقيتَ عمَلك، وَيْحَك داوِ قلبَك؛ فإنَّ حاجةَ
الله إلى العباد صلاحُ قلوبهم، والاختيالُ دليلُ فسادها.
قال الله تعالى: (وَلا تَمْشِ فِي
الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ
طُولاً) [الإسراء:37]، أي: لا تمش في الأرض متبخترًا كمشية الجبارين، فإنك لن تخرق
الأرض بمشيك عليها وشدة وطئك، ومهما شمخت بأنفك عاليًا فلن تبلغ الجبال ارتفاعًا.
ويا مَن يدّب في قلبِه كبرٌ أو غرور؛
هل تعلم أن للمُتَكَبِّرِ عقوبةٌ في الدُّنيا والآخِرة: فأمَّا عُقوبَتُهُ في
الدُّنيا:
1- يُعاقَبُ المُتَكَبِّرُ بِنَقيضِ
قَصْدِه؛ فيحتَقِرُه الناسُ، ويَسْتَصْغِرونه: فهذا من الجزاءِ الرَّباني، والسُّنَنِ
الرَّبانيةِ الجارِيةِ في هذه الكون، فمَنْ تواضَعَ لله رفَعَه، ومَنْ تكبَّرَ على
الحقِّ وضَعَهُ الله.
2- الحِرْمانُ من النَّظَرِ والاعْتِبارِ،
والاستفادَةِ من آياتِ الله: قال تعالى: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146]. قال السِّعدي
رحمه الله: (﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ ﴾ أي: عن الاعتبارِ في الآيات الأُفُقيةِ
والنَّفْسِيَّةِ، والفَهْمِ لآياتِ الكتاب. ﴿ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي
الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ أي: يتكَبَّرون على عِبادِ الله، وعلى الحقِّ، وعلى
مَنْ جاء به، فمَنْ كان بهذه الصِّفةِ حَرَمَهُ اللهُ خيرًا كثيرًا، وخَذَلَه، ولم
يَفْقَه من آياتِ الله ما ينتفِعُ به، بل ربَّما انقلبتْ عليه الحقائِقُ،
واستَحْسَنَ القبيحَ).
3- الكِبْرُ سببٌ لِزَوالِ النِّعَمِ،
وحُلولِ النِّقَم: عن سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلاً
أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: «كُلْ
بِيَمِينِكَ»، قَالَ: لاَ أَسْتَطِيعُ قَالَ: «لاَ اسْتَطَعْتَ، مَا مَنَعَهُ
إِلاَّ الكِبْرُ». قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ. رواه مسلم. قال النوويُّ
رحمه الله: (وَفِي هَذَا الحَدِيثِ: جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى مَنْ خَالَفَ
الحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِلَا عُذْرٍ). أمَا يَخْشَى المُتَكَبِّرُونَ الذين يمنعهم
الكِبْرُ من اتِّباعِ الحق؛ أنْ يَسْلُبَهم اللهُ تعالى نِعَمَه التي عَصَوهُ بها،
وتَكَبَّروا بها؟!
4- الكِبْرُ من أسبابِ الخَسْفِ، وعذابِ
القبر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ،
يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ [البُرْدُ: ثَوبٌ فيه خُطُوط]، قَدْ أَعْجَبَتْهُ
نَفْسُهُ؛ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا [أي:
يَغُوصُ في الأرض حِينَ يُخْسَفُ بِه] إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» رواه مسلم.
أيها المسلمون.. وأمَّا عُقوبَةُ
المُتَكَبِّرِ في الآخِرَة:
1- المُتَكَبِّرُ هالِكٌ لا محالةَ: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا تَسْأَلْ عَنْهُمْ: رَجُلٌ
يُنَازِعُ اللهَ فِي كِبْرِيَائِهِ؛ فَإِنَّ رِدَاءَهُ الكِبْرِيَاءُ، وَإِزَارَهُ
العِزَّةُ...» صحيح – رواه ابن حبان.
2- المُتَكَبِّرونَ هم أبْغَضُ الناسِ
وأبعدُهم مَجْلِسًا عن رسولِ الله يومَ القيامة: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «إِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ
القِيَامَةِ؛ الثَّرْثَارُونَ، وَالمُتَشَدِّقُونَ، وَالمُتَفَيْهِقُونَ» قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ؛ فَمَا
المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: «المُتَكَبِّرُونَ» صحيح – رواه الترمذي.
3- المُتَكَبِّرُ يَلْقَى اللهَ وهو عليه
غضبانُ: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ، أَوِ
اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ؛ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» صحيح – رواه
أحمد.
4- يُحْشَرُ المُتَكَبِّرونَ يوم القيامة
في غايةِ الذُّلِّ والمَهانَةِ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُحْشَرُ
المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ
[أي: صُوَرُهم صُوَرُ الإنسانِ، وأجْسامُهم كأجْسَامِ النَّمْلِ الصَّغِير]،
يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [أي: يَكُونونَ في غايةٍ من المَذَلَّةِ،
يَطَؤُهم أهلُ المَحْشَرِ بأرْجُلِهم؛ مِنْ هَوانِهم على الله]» حسن رواه الترمذي.
ولأنَّ المُتَكّبِّرَ يأخذ حَجْمًا أكبرَ من حَجْمِه؛ فإنَّ اللهَ يُعاقِبُه يومَ
القيامةِ بإذلالِه أمامَ الناسِ، ويُحْشَرُ كأمْثَالِ الذَّرِّ.
5- الكِبْرُ من أسبابِ المَنْعِ من دخولِ
الجنة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي
قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» رواه مسلم.
6- المُتَكَبِّرونَ مُتَوَعَّدون بالنار:
قال تعالى: ﴿ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ
مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [الزمر: 72]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ
أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؛ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ» رواه
البخاري ومسلم. وقال أيضًا: «احْتَجَّتِ النَّارُ وَالجَنَّةُ؛ فَقَالَتْ
النَّارُ: يَدْخُلُنِي الجَبَّارُونَ وَالمُتَكَبِّرُونَ» رواه مسلم.
7- المُتَكَبِّرونَ مُتَوَعَّدون بدخول
جهنَّمَ صاغِرين: قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]. أي: ذَلِيلين حَقِيرين، يجْتَمِعُ عليهم العذابُ
والإهانَةُ، جزاءَ استكبارِهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ: الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالعَظَمَةُ إِزَارِي، مَنْ نَازَعَنِي
وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ» صحيح – رواه ابن ماجه.
فالكِبْرِيَاءُ وَالعَظَمَةُ لا يَلِيقان إلاَّ بالله عز وجل، فإذا تَكَبَّرَ
العبدُ فقد نازَعَ اللهَ سبحانه فيما لا يَلِيقُ إلاَّ به؛ فاسْتَحَقَّ أنْ
يَقْذِفَه اللهُ في نارِ جهنَّمَ. نعوذ بالله من الخذلان ونسأل الله أن يجيرنا من
النار، اللهم جنبنا الكبر والغرور، وجنبنا الفتن والشرور، يا رب العالمين؛ أقول
قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول
الله؛ أما بعد : فقد يتحدث المرء عن نفسه لحاجة، لا كبرًا ولا مفاخرة، وإنما من
باب الاقتداء به، أو للتحدث بنعمة الله عليه: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)
[الضحى]، والميزان في ذلك مقصد القلب، وما يكنه الصدر لا يعلمه إلا علام الغيوب،
وفي محكم التنزيل: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ
فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: 235].
فليس كل من قال: أنا، فهو متعالٍ على
الغير متكبر، كلا، قد قال خير البشر -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين: "أنا
النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، وقال: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر".
فإنه صلى الله عليه وسلم لما استعمل
كلمة "أنا" مخبرًا عن شيء من خصائصه وكراماته التي أكرمه بها الله
تعالى، فإنه قالها بأدب جمٍّ، وبتواضع، وامتنان، وشكر لربه الكريم، وأعلن أنه لا
يريد بها فخرًا؛ ففي الحديث الذي رواه الترمذي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((أنا سيدُ ولدِ آدم يوم القيامة ولا فخرَ، وبيدي لواءُ الحمد ولا فخر، وما من
نبيٍّ يومئذٍ آدمُ فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أولُ شافع وأول مُشفَّعٍ ولا فخر)).
فذِكرُ خصائصِ ومناقبِ النفس إنما يكون
غالبًا في سياق الافتخار؛ لذلك فإن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: ((ولا فخر))؛
ليقطع ويدفع وهْمَ مَن يتوهم أنه يذكر ذلك افتخارًا، والسعيد من تأدَّب بأدب نبينا
الكريم محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم.
إخوة الإيمان: إنَّ هضم النفس وازدراء
العمل علاج فعال لمن بلي بهذا الداء؛ هضم النفس خلق نبيل، وسلوك جميل، هو سجية
الصالحين الأتقياء، والمؤمنين الأخفياء، وهو مؤشر على صلاح النفس، وإرادة الدار
الآخرة، وصدق الله (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)
[القصص: 83]
وحينما نقلب سير سلفنا وصالحي أمتنا
نرى في أخبارهم عجباً، وفي سيرهم تربية وعبراً، ومثلاً ودرراً .
لقد حسُنت علاقتهم بربهم وعظمت، فعظم
أدبهم، وظهر تقواهم على جوارحهم؛ فكانوا يكرهون أن يتحدثوا عن أنفسهم بالمدح
والثناء، مع استحقاقهم لأضعاف هذا الإطراء ، كان أحدهم يبلغ منزلة رفيعة، ومكانة
عالية فيضطرب فؤاده فرَقاً أن يكون هذا فتنة واستدراج .
كانوا يعملون أعمالاً عظيمة، ويسجلون
مواقف خالدة لكنهم كانوا يخشون ذهابها بالعجب والغرور؛ عظُم مقام الله في قلوبهم،
فصغرت في أعينهم قرباتهم وطاعاتهم
حكى الأصمعي أن أبا بكر الصديق - رضي
الله عنه - كان إذا مُدح قال: اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم،
اللهم اجعلني خيرا مما يحسبون واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.
وقال بعض الشعراء:
إذا المرء لم يمدحه حسن فعاله
فمادحه يهذي وإن كان مفصحا.
وهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عن
عمر، يحكم أطرافاً متباعدة، ومفاوز متنائية، فيملؤها عدلاً وقسطاً، إذا ذكر العدل
ذكر عمر، وإذا ذكر الزهد لاحت سيرة عمر، وإذا ذكر الخوف من الله تلألأت شخصية
الفاروق؛ أعز الله به الإسلام، وأطفأ به نار المجوس، وما سلك أبو حفصٍ فجَّا إلا
سلك الشيطان فجَّا غيره، وافقه القرآن في بضعة مواضع، بشره الرسول بالجنة، وبقصر
منيف فيها ،
فماذا كان عمر يرى أعماله التي
قدَّمها، يحدثنا أبو موسى الأشعري عن حوار دار بينه وبين عمر فيقول : قال لي عمر :
هل يسرك أنَّ إسلامنا مع رسول الله وهجرتنا معه ، وشهادتنا وعملنا، كله يُرد
علينا، لقاء أن ننجو كَفافاً ، لا لنا ولا علينا ، فيجيبه ابو موسى : لا والله يا
عمر ، فلقد جاهدنا ، وصلينا ، وصمنا، وعملنا خيراً كثيراً، وإنا لنرجو ثواب ذلك،
فيقول عمر ودموعه تتحدر : أما أنا فو الذي نفس عمر بيده لودِدتُ أن ذلك يرد علي،
ثم أنجوا كفافاً رأساً برأس
.
ولما دنى اجل عمر وحضرت وفاته قال
لابنه عبد الله : ضع خدي في التراب لعل أن يرحم عمر .
ـ وهذا أمير المؤمنين في علم الحديث
سفيان الثوري، والذي أوقف حياته كلها بليلها ونهارها في خدمة الحديث النبوي ،
يتمنى في آخر عمره، فماذا يتمنى ؟
يقول عن نفسه : ليتني انقلب منه ـ أي
علم الحديث ـ كَفافاً لا لي ولا علي .
ـ وهذا العالم العامل إمام أهل السنة
والجماعة أحمد بن حنبل أتعب من بعده في العلم والعمل، والصبر والورع، أثنى عليه
بعض أصحابه فقال : جزاك الله عن الإسلام خيراً، فتغير وجهه وعلا الغم قسماتِ وجهه،
فقال محتقراً نفسه : بل جزى الله الإسلام عني خيراً ، من أنا ؟ وما أنا !.
في محنة القرآن عجَّت له مدن بالدعاء،
فجاءه له رجل مبشراَ ، فقال : أخشى أن يكون هذا استدراج.
قال عنه رفيق حياته يحيى بن معين : ما
رأيت مثل أحمد ، صحبناه خمسين سنة، ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير .
وهذا الملك الصالح العادل نور الدين
محمود زنكي، قال عنه ابن كثير: كان يقوم في أحكامه بالمعدلة الحسنة، وإتباع الشرع
المطهر ، وأظهر ببلاده السنة ، وأمات البدعة .
ومع ذلك كان يزدري نفسه ويحتقر عمله.
تلك بعض سير القوم ، وشي من هضمهم
لأنفسهم ، واحتقارهم لأعمالهم
.
فتشبهوا إن لم تكـونوا مثلهـم إن
التشبه بالكـرام فـلاح
إخوة الإيمان: فكم نحن بحاجة أن نربي
أنفسنا وأبناءنا ومجتمعنا على هضم النفس، وهجران أنا الغرور، وأنا الأنانية!! كم
نحن بحاجة أن نلغي كلمة أنا من قاموس أحاديثنا، حتى لا تغتر النفس بعد ذلك وتبطر!!
وكم نحن بحاجة أيضًا أن نزرع في حياتنا المعاني المضادة للأنا من التواضع والإيثار
والكرم والبذل ونفع الغير!! فمجتمع تتجذر فيه هذه الأخلاقيات جدير أن يسود بين
أفراده التواد والتآلف، والمحبة والتعاطف.
نسال الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.... وأقم الصلاة.