recent
أخبار عاجلة

خطبة الجمعة أنواع كلمة أنا لفضيلة الشيخ عبدالناصربليح






الحمدلله رب العالمين  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له   وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام التقى وعنوان الطهر والنقاء صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الحنفاء؛ أما بعد فياعباد الله 

نقف معكم اليوم مع كلمة أنا وأنواعها 

هذه الكلمة قد يعترض عليها من يسمعها ، أو من ينطقها فيقول : وأعوذ بالله من كلمة أنا ، والسبب في ذلك أنَّ كَلِمَةَ «أَنَا» تَرْتَبِطُ فِي أَذْهَانِنَا بِالكِبْرِ وَالأَنَانِيَّةِ وَالعُجْبِ، وَتُذَكِّرُنَا بِكَلِمَةِ إِبْلِيسَ المُهْلِكَةِ عِنْدَمَا قَالَ:"أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ"، لَكِنِ انْتَبِهُوا أَيُّهَا الكِرَامُ! إِنَّ كَلِمَةَ "أَنَا" تَأْتِي عَلَى نَوْعَيْنِ، فَالنَّوعُ الأَوَّلُ نُورِيٌّ تَزْخَرُ فِيهِ «أَنَا» بِالنَّخْوَةِ وَالشَّهَامَةِ وَالنَّجْدَةِ وَالأَمَانِ، وَأَمَّا النَّوْعُ الآخَرُ فَهُوَ نَارِيٌّ تَمْتَلِئُ فِيهِ «أَنَا» بِالتَّعَالِي وَالغُرُورِ وَالزَّهْوِ.

، فما موقف الشريعة منها ؟ 

إِنَّ كَلِمَةَ "أَنَا" تَأْتِي عَلَى نَوْعَيْنِ :

 فَالنَّوعُ الأَوَّلُ : ( نُورِيٌّ)  تَزْخَرُ فِيهِ «أَنَا» بِالنَّخْوَةِ وَالشَّهَامَةِ وَالنَّجْدَةِ وَالأَمَانِ..

وَأَمَّا النَّوْعُ الآخَرُ : ( فَهُوَ نَارِيٌّ)  تَمْتَلِئُ فِيهِ «أَنَا» بِالتَّعَالِي وَالغُرُورِ وَالزَّهْوِ.

ونعيش مع النَّوعُ الأَوَّلُ من ال «أَنَا»   ( النُورِيٌّ)  :

أَيُّهَا الكِرَامُ، مَا أَجْمَلَ أَنْ نَكُونَ مِنْ أَهْلِ «أَنَا» النُّورِيَّةِ فَإِنَّهَا عَالِيَةُ القَدْرِ، مَرْفُوعَةُ الذِّكْرِ، يَفُوحُ مِنْهَا عَبَقُ الأَمَانِ والمُرُوءَةِ وَالإِكْرَامِ وَبَذْلِ الخَيْرِ لِخَلْقِ اللِه، صَاحِبُ «أَنَا» النُّورِيَّةِ يَمُدُّ يَدَ العَوْنِ لِلْمُحْتَاجِ، يُغِيثُ المَلْهُوفَ، يُفَرِّجُ عَنِ المَكْرُوبِ، صَاحِبُ «الأَنَا» النُّورِيَّةِ يُحِبُّهُ اللهُ، وَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ، وَلِمَ لَا وَقَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ أَمَانًا لِلنَّاسِ وَفِدَاءً لَهُمْ، أَقَامَ نَفْسَهُ وَحَالَهُ وَمَالَهُ وَعِيَالَهُ فِي مَقَامِ الوِرَاثَةِ المُحَمَّدِيَّةِ الشَّرِيفَةِ..

مع  الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم  :

قالها يَوْمَ حُنيْنٍ حِينَ كَانَتِ الجَوْلَةُ لِلْمُشْرِكِينَ يَنْزِلُ الجَنَابُ الأَنْوَرُ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مِنْ عَلَى بَغْلَتِهِ، ويُقَاتِلُهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: «أَنَا النَّبيُّ لَا كَذِب، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِب»، وهَذِهِ أَنَا النُّورِيَّةُ المَيْمُونَةُ؛ فَتَأَمَّلُوا!

وفي "سنن أبي داود" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ إِذَا سَمعَ الْمُؤَذِّنَ يَتَشَهَّدُ قَالَ: "وَأَنَا، وَأَنَا" ...فليس الأمر كما أطلق من ظن أن كلمة (أنا) مكروهة لمجرد مشابهة إبليس، خاصة أن هناك نصوصاً كثيرة تناقض هذا القول، حيث استعملت فيها كلمة (أنا) في موضعها، فلا حرج من استعمالها في موضعها، فمن ذلك قول الله تعالى:"قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ"(الكهف:110)، وقال عز وجل حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم:"وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"(الأنعام:163)، 

وقال:"وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ"(ص:86)، وقال:"إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ"(العنكبوت:50).

ترى «أَنَا»  في كلام النبي (صلى الله عليه وسلمَ) مبينا للحق، متواضعا مخبرًا عن فضل الله (عز وجل) ومننه ونعمه، شاكرا لله (عز وجل) هذه النعم، لا يريد بها فخرا ولا تكبرا، إذ يقول صَلى الله عليه وسلم: "أنا سيدُ ولدِ آدم يوم القيامة ولا فخرَ، وبيدي لواءُ الحمد ولا فخر، وما من نبيٍّ يومئذٍ آدمُ فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أولُ شافع وأول مُشفَّعٍ ولا فخر".

تراها في كلام النبي (صلى الله عليه وسلمَ) في حديث الشفاعة نافعا بها الأمة، مخبرًا عن فضل الله (عز وجل) بأن جعل له شفاعة، إذ يقول صلى الله عليه وسلمَ: "إذا كان يوم القيامة ماجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إلى بعْض، فيأتون آدم فيقولون له: اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِك، فيقول: لسْتُ لها، ولكنْ عليكم بإبراهيم (عليه السَّلام)، فإنه خليل الله، فيأْتون إبراهيم فيقول: لَسْتُ لها، ولكِنْ عليكم بموسى (عليه السَّلام)، فإنَّه كَلِيمُ الله، فيُؤْتَى موسى، فيقول: لسْتُ لها، ولكنْ عليكم بعيسى (عليه السَّلام)، فإنه روح الله وكلِمَتُه، فيُؤتَى عيسى، فيقول: لسْتُ لها، ولكِنْ عليْكُم بمُحَمَّدٍ (صَلى الله عليه وسلم)، فَأُوتَى، فأقول: أنا لها".

وفي الحوضِ قالهَا ﷺ:"أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ" (البخاري ومسلم)، (فرطكُم) هو الذي يتقدمُ الواردينَ ليصلحَ لهُم الحياضَ والدلاءَ ونحوهَا مِن أمورِ الاستقاءِ، ، فأبشرُوا أمةَ الحبيبِ، الرسولُ ﷺ ينتظرُكُم على بابِ الجنةِ: «أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ». (مسلم).

وفي رواية ابي يعلي  "وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الجَنَّةِ وَلا فَخْرُ، وَلِوَاءُ الحمْدِ بِيَدِى وَلا فَخْرُ". مسند ابي يعلي الموصلي .

ومِمَّــــــا زادنِي فخـــــــــرًا وتيهـــــــًا  وكـــــدتُ بأخمــــــــــصِي أطــــأُ الثــــــــــريـَّا

دخولِي تحتَ قولِكَ يا عبادِي  وأنْ صــــــــــــــــــــــــــــــــــــيَّرتَ أحمدَ لِي نبيّـــــــًا

«أَنَا النُّورِيَّةَ» سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ :

 وَأَهْلِ الشَّهَامَةِ وَأَهْلِ النَّخْوَةِ وَالنَّجْدَةِ، أَرَأَيْتَ هَذِهِ الكَلِمَةَ الَّتِي قَالَهَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَخِيهِ؟! {وَلَـمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وهذا هو ما يُسمَّى بالإيثارِ الذي امتدَحَه الله بقولِه: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9]، فربما تنازلَ المرءُ عن مصلحَته لتحقيقِ المصلحة الأعمِّ، وتلك خصلةٌ لا يُوفَّقُ لها إلا من رحِمَ الله وأسبغَ عليه نِعَمَه ظاهرةً وباطنةً، وذلك فضلُ الله يُؤتيه من يشاءُ، والله ذو الفضلِ العظيمِ.

أَخُوكَ، أَنَا أَمَانُكَ، أَنَا عَضُدُكَ، أَنَا ظَهْرُكَ، أَنَا سَنَدُكَ، أَنَا فِدَاؤُكَ، فَلَا تَبْتَئِسْ، لَا تَخَفْ، وَلَا تَحْزَنْ، فَدَمُكُ دَمِي، وَهَمُّكَ هَمِّي، مَصِيرُنَا وَاحِدٌ، وَأَملُنَا سَوَاء!

قالها صاحبُ يوسفَ عليه السلام في السجنِ (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) [يوسف: 45] سعيًا منه في تفسير مُعضِلةٍ أحلَّت بهم فكانت سببا في خروج يوسفَ عليه السلام من غيابات السجن.

مع الصديق :

تراها في كلام سيدنا أبي بكر (رضي الله عنه) في موضع المسابقة إلى الخيرات والمنافسة بالطاعات، والسعي إلى الفوز بالدرجات؛ فلما سأل النبي (صلى الله عليه وسلمَ): "مَن أصْبَحَ مِنْكُمُ اليومَ صائِمًا؟"، قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: "فمَن تَبِعَ مِنْكُمُ اليومَ جِنازَةً؟"، قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: "فمَن أطْعَمَ مِنكُمُ اليومَ مِسْكِينًا"، قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: "فمَن عادَ مِنْكُمُ اليومَ مَرِيضًا"، قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، فقالَ رَسولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ): "ما اجْتَمَعْنَ في امْرِئٍ إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ" (رواه مسلم).

تراها في كلام ابن آدم :

 قال تعالى: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(المائدة: 28).

عفريت من الجن:

قالها عفريت من الجن لسليمان عليه السلام (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) [النمل: 40] فامتدحها الرحمن استجابةً لأمر نبيٍّ من الأنبياء. وحسنٌ قولُ من قال: (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) [النمل: 39] استِحضارًا للأمانة والمصلحة العامَّة؛ لأن شيئًا من تلكُم الأمورِ لم يكُن لمصلحةٍ شخصيَّة تُقدَّم فيها مصلحةُ النفسِ على المصلَحةِ الأعمِّ.

ثمرات «أَنَا» النُّورِيَّة :

حب الله  له  ووضع القبول :

صَاحِبُ «أَنَا» النُّورِيَّة يُحِبُّهُ اللهُ، وَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ، وَلِمَ لَا وَقَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ أَمَانًا لِلنَّاسِ وَفِدَاءً لَهُمْ، أَقَامَ نَفْسَهُ وَحَالَهُ وَمَالَهُ وَعِيَالَهُ فِي مَقَامِ الوِرَاثَةِ المُحَمَّدِيَّةِ الشَّرِيفَةِ «كَلَّا وَاللهِ! لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ»..

تحقيق الوحدة والتعاون :

قال تعالى : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، فَإِنَّ أُمَّتَكُمُ المَرْحُومَةَ مَنْصُورَةٌ مُتَراصَّةُ البُنْيَانِ، قَوِيَّةُ الإِيمَانِ، عَزِيزَةُ الجَانِبِ، شَامِخَةُ الهَامَةِ، وَللهِ دَرُّ القَائِلِ:

سَتَبْدُو فُجَاءَاتٌ وَتَغْدُو مَصَاعِبٌ*  وَلَكِنْ تَنَادَوْا لَا رُجُوعَ وَلَا وَقْفَا

فَلَنْ يُسْلِمَ الديَّـانُ مَـنْ دَقَّ بَـابَـهُ* وَلَنْ يَـدَعَ الـدَّاعِي إِلَـيْهِ إِذَا وَفَّى

وَلَوْ أَنَّكُمْ قُمْتُمْ بِحـَقٍّ عَـلَى الَّذِي * دُعِيتُمْ إِلَـيْـهِ كَـانَ وَاحِدُكُمْ أَلْفَا

فَلَا تَحـْفِـلُوا بِالـقَوْمِ كُـثْرًا وَقِـلَّةً *فَبِالكَيْفِ لَا بِالكَمِّ تُلْتَمَسُ الزُّلْفَى

النَّوْعُ الآخَرُ : ( النَارِيٌّ) :

أَمَّا «أَنَا» النَّارِيَّةُ فَاحْذَرْهَا؛ فَإِنَّهَا تَقُومُ عَلَى حَالَةِ زَهْوٍ زَائِفٍ، وَإِبْلِيسِيَّةٍ مَلْعُونَةٍ، وَنَظَرَاتِ اسْتِعْلَاءٍ، وَانْدِفَاعٍ طَائِشٍ، وَحَمَاسٍ أَهْوَجَ، وَأَنَانِيَّةٍ مُفْرِطَةٍ، وَنَفْسٍ مُسْتَكْبِرَةٍ، صَاحِبُهَا لَا يُقَدِّمُ لِلنَّاسِ نَفْعًا، وَلَا يَكْشِفُ عَنْهُمْ ضُرًّا، وَلَا يُسَاعِدُ للهِ خلقًا، بَلْ إِنَّهُ صِدَامِيٌّ، اسْتِعْلَائِيٌّ، تَخْرِيبِيٌّ، شِعَارُهُ «نَفْسِي نَفْسِي»؛ وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ صَاحِبُهَا هَذَا الوَعِيدَ الإِلَهِيَّ «الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالعَظَمَةُ إِزَارِي، فمَنْ نَازعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قذفتُهُ فِي النَّارِ».

نماذج سيئة :

1-قالها ابليس استكبارا فطرده الله من رحمته :

فقد قالها إبليس استكبارا لما عصى أمر ربه بالسجود لسيدنا آدم (عليه السلام)؛ حيث قال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (الأعراف: 12)، فكانت العاقبة أن باء بلعنة الله والطرد من رحمته، فصار من الصاغرين، بعد أن كان صاحب منزلة سامية؛ قال تعالى: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ) (ص: 77- 78)، وقال سبحانه: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف: 18).

يَقُولُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ إِبْلِيسَ كان من اشرف الملائكة واكرمهم قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا عَلَى الْجِنَانِ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ الأَرْضِ فَعَصَى، فَمَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا رجيما ( تاريخ الطبري)..

وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الْمَلائِكَةِ اجْتِهَادًا، وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا، فَذَلِكَ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الْكِبْرِ، وَكَانَ مِنْ حَيٍّ يُسَمُّونَ جِنًّا وكان مع الملائكة يتعبد معهم، فلما أمروا أن يسجدوا لآدم سجدوا أبى إبليس، فلذلك قال الله عز وجل: «إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ ).

2-وقالها النمروذ فسلط الله عليه بعوضة تذله :

:" إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (البقرة: 258) 

فكانت عاقبته كما جاء عن زيد بن أسلم، أنه قال: " ‌إن ‌أوّلَ ‌جبارٍ ‌كان ‌في ‌الأرضِ ‌نُمرودُ، ‌فبعَث ‌اللهُ ‌عليه ‌بَعوضةً، ‌فدخَلت ‌في ‌مَنخَرِه، ‌فمكث ‌أربعَمائةِ ‌سنةٍ ‌يُضْرَبُ ‌رأسُه بالمطارقِ، أرحمُ الناسِ به من جمعَ يديه فضَرَب بهما رأسَه، وكان جبارًا أربعَمائةِ سنةٍ، فعذَّبه اللهُ أربعَمائةِ سنةٍ كمُلْكِه، ثم أماته اللهُ؛  

3-وقالها فرعون فأغرقه الله وأخذه نكال الأخرة والأولى :

 لما دعاه نبي الله موسى (عليه السلام) إلى الله (عز وجل)، فتكبَّر وتعظَّم، ثم قال عن نفسه: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) (النازعات:24)، فكانت العاقبة: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ*إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ) (النازعات:25- 26).

-وقالها قارون فخسف الله به الأرض :

وقالها بمعناها قارون حيث الإعجاب بكسبه ومهارته، منكرا فضل الله (عز وجل) وجاحدا شكره في ماله، حيث قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)(القصص: 78)، فكانت العاقبة كما أخبرنا القرآن الكريم، قال تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) (القصص: 81).

وهنا ظهر السر :

لهذه المواقف السابقة كرَهَ الرسولُ ﷺ كلمةَ أنَا في مثلِ هذه المواقفِ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ البَابَ، فَقَالَ: «مَنْ ذَا» فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: «أَنَا أَنَا» كَأَنَّهُ كَرِهَهَا". (البخاري مسلم).

إنَّ كلِمةَ "أنَا" تبدأُ بزَهوِ النفسِ ينتفِخُ شيئًا فشيئًا، حتى يُصبِحَ ورَمًا عقليًّا وخُلُقيًّا، لا يُحسِنُ صاحبُهُ بسببِهِ نُطقًا إلَّا بكلِمةِ "أنَا". ولا يُباشِرُ بسببِهِ تعامُلاً إلّا بعدَ أنْ يقولَ: "وماذا لي أنَا؟!"، "أنَا ومِن بعدِي الطوفان". ليتشبَّهَ برَكبِ أصحابِ "الأنَا" مِن أمثالِ إبليسَ وفِرعونَ والنمرودِ وقارونَ وغيرِهِم..

الخطبة الثانية

الحمدلله والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد 

عواقب الاغترار   :

سوء الخلق ، و( لَقِيَ اللهَ وَهو عَلَيْهِ غَضْبَانُ )  :

قال تعالى: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) (الإسراء: 37-38)، حيث إن الكبر والاستعلاء والأنا المتكبرة، أنا الأنانية، أنا غمط الحق، لها عواقب وخيمة، إذ يقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ): "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟: كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ" (متفقٌ عليه) وقال: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَتَعَاظَمُ فِي نَفْسِهِ، وَيَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، إِلَّا لَقِيَ اللهَ وَهو عَلَيْهِ غَضْبَانُ" (رواه أحمد والحاكم).

سوء المصير :

يَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّنَا يَعْلَمُ بِأَنَّ النَّارَ خُصَّتْ بِالمُتَكَبِّرِينَ، وَأَنَّ الجَنَّةَ للمُسْتَضْعَفِينَ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاريُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ.

فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِينَ. وَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ. قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي. وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي.

فالغرورُ وإعجابُ المرءِ بنفسِهِ هلاك وخزي وعاركما وصفَهُ النبيّ ﷺ، كما في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ  -رضي اللهُ عنه-  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ( ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: هَوًى مُتَّبَعٌ وَشُحٌّ مُطَاعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ وَهِيَ أَشَدُّهُنَّ )، و قالَ ابنُ مسعودٍ  -رضي اللهُ عنه- : الهلاكُ في شيئينِ: العجبِ والقنوطِ. وقال الأحنفُ بنُ قيسٍ: عجبتُ لِمَن جرَى في مجرَى البولِ مرتينِ كيفَ يتكبرُ؟!

قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ حَتَّى عَدَّ تِسْعَةً، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، ابْنُ الْإِسْلَامِ، قَالَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّ هَذَيْنِ الْمُنْتَسِبَيْنِ، أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْمُنْتَمِي أَوْ الْمُنْتَسِبُ إِلَى تِسْعَةٍ فِي النَّارِ فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا هَذَا الْمُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَيْنِ فِي الْجَنَّةِ، فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الْجَنَّةِ”. (أحمد والبيهقي بسند صحيح).

يا مظهرَ الكبرِ إعجابًا بصورتِهِ   *   انظرْ خَلاك فإنَّ النتنَ تثريبُ

لو فكّرَ الناسُ فيمَا في بطونِهِم  *  ما استشعرَ الكبرَ شبانٌ ولا شيبُ

حكم ذكر النعم أمام الناس ؟

وهو سؤال مهم جدا حيث يسأل الكثيرون عنه مستشهدين  بقوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11]، ولا مانع من الحديث عن فضل الله على العبد  ، فعن أبى نضرة قال : " كان المسلمون يرون أن من شُكْرِ النعم أن يحدّثَ بها " انتهى . " تفسير الطبري" (24 / 489) ، ويكون ذلك من باب نسبة الفضل الى الله وشكره وبيان رحمته كما يظهر فضل الله  عليه بمساعدة المحتاجين وان يرى الناس أثر نعمة الله على عبده –  الحذر من الأنانية :

الأنانيةُ داءٌ اجتماعيٌّ خطيرٌ ، ووباءٌ خُلقيٌّ كبيرٌ ما فشا في أمةٍ إلَّا كان نذيرًا لهلاكِهَا، وما دبَّ في أسرةٍ إلَّا كان سببًا لفنائِهَا، فهو مصدرٌ لكلِّ عداءٍ وينبوعُ كلِّ شرٍ وتعاسةٍ...

وفي حديث أنس رضي الله عنه :"لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) متفق عليه ، فبالأَثَرَةِ يضيع العدل، وتذهب الأخلاق، وتنتفي الأسوة الحسنة، وتصير المنفعةُ الشخصيةُ باعثَ الحركة في الحياة.

 التواضع طريق الى الجنة :

والمؤمن لا بد أن يكون في قلبه أصل الحب والانقياد، وأصل الخضوع لله عز وجل، ولذا يقال: طريق معبد أي: مذلل، فالعبودية أصلها من الذل والخضوع، ولذلك إذا زال من القلب أصل الخضوع -بمعنى: أنه لا يرى لله عليه أمراً يطاع- زال من قلبه الإيمان ولو أطاع في أوامر أخرى، ولو كان يعبد الله قبل ذلك بسنين فإنه لا يكون مؤمناً، لذا كان مرض الكبر والعياذ بالله مرضاً منتشراً أيضاً في بني آدم، والذرة منه تمنع دخول الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) ، وما أحسن هذه الأنانية المفصحة عن حقيقة العبودية.

google-playkhamsatmostaqltradent