وداع رمضان
الحمدُ لله، الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدَّخرها ليوم كان شره مستطيرًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه بالحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فصلوات الله وبركاته عليه، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فيا عباد الله، هذا يوم الوداع فبأي شيء تودعه
أيها المؤمنون، لقد شمر الشهر عن ساق، وأذن بوداع وانطلاق، ودنا منه الرحيل والفراق، لقد قُوِّضت خيامه، وتصَرَّمت أيامه، وأزف رحيله، ولم يبق إلا قليله. وقد كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني بقدومه، ونسأل الله بلوغه، واليوم نتلقى التعازي برحيله، ونسأل الله قبوله.
أيها المسلمون، لقد كان ما كان وانقضى الشهر، وخرج الناس من رمضان وهم فريقان: فريق نصح فيه لنفسه وقام بحق ربه، فصامه إيمانًا، وقامه احتسابًا، لم يفرط في دقائقه، ولا أرخى لنفسه زمام هواها، قد اغتسل فيه من ذنوبه، وتطهَّر من أوزاره.
وفريق آخر تمنى على الله الأماني، وأتبع نفسه هواها، فأمضى نهاره في سهو، وليله في لهو، أطلق لبصره العنان، وأرهف سمعه لمساخط الديان، لم يرع للشهر حرمته، ولا عرف له حقَّه، شَاهَد الواصلين فيه وهو متباعد، ومرَّت به زمر السائرين وهو قاعد، حتى إذا ضاق به الوقت، وخاف المقت، ندم على التفريط حين لا ينفع الندم، وطلب الاستدراك في وقت العدم، وهيهات هيهات.
وما أحوج الفريقين- أيها المؤمنون- إلى المحاسبة الدقيقة، والوقفة الصادقة! فأما المفرِّط المقصِّر فيندم ويتوب، ويستغفر ويؤوب، فعساه إن لم يدرك الخير كله أن يدرك بعضه، وعسى أن يعيش قابل أيامه في طاعة وبرٍّ منتظرًا عامًا جديدًا ورمضان آخر. وأما المطيعُ المجدُّ فيهتم لقبول عمله، ولقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده، وهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60].
روى الترمذي أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ "، قالت عائشة: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قال:لا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ"(صحيح).
وعن فضالة بن عبيد قال: "لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول:" إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ"(المائدة: 27).
وقال مالك بن دينار: "الخوف على العمل ألَّا يُتقبل أشد من العمل".
وقال عبدالعزيز بن أبي رَوّاد:"أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمُّ؛ أيقبل أم لا؟".
وكان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يوم فرح وسرور! فيقول: "صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملًا، فلا أدري أيقبله مني أم لا".
ومثل هذه المحاسبة ومثل هذا الشعور مما ينبغي أن يكون لدى المسلم الصادق.
وإن العجب كل العجب أننا ما إن نخرج من شهر رمضان حتى نكون كالذي ضمن القبول، فلا يفكِّر أحد في عمله، ولا يراجعه، ولا يتأمل مدى إخلاصه فيه، ولا يلحُّ على ربه أن يتقبَّل منه، حتى ذلك الدعاء الذي كنا نقوله كل ليلة في رمضان ((ربنا تقبَّل منا إنك أنت السميع العلم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم))، حتى هذا الدعاء لم يعد له نصيب وحظ، وشتان ما بيننا وبين أسلافنا في هذا، فلقد كانوا يدعون الله ستة أشهر بعد رمضان أن يَتقبل منهم.
رَأى وهيب بن الورد أقوامًا يضحكون في يوم عيد فقال: "إن كان هؤلاء تُقبِّل منهم صيامهم، فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يُتقبَّل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين".
مضى هذا الشهر الكريم، وقد أحسن فيه أناس وأساء آخرون، وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه من أعمال، شاهد للمشمرين بصيامهم وقيامهم وبرهم وإحسانهم، وعلى المقصرين بغفلتهم وإعراضهم وعصيانهم، ولا ندري هل سندركه مرة أخرى، أم يحول بيننا وبينه هادم اللذات ومُفرِّق الجماعات.
ألا إن السعيد في هذا الشهر المبارك من وُفِّق لإتمام العمل وإخلاصه، ومحاسبة النفس والاستغفار، والتوبة النصوح في ختامه، فإن الأعمال بالخواتيم.
الله أكبر، هذه حال المشمرين، ألا فسلام الله على شهر الصيام والقيام، سلام الله على شهر التراويح والتلاوة والذكر والتسبيح، لقد مَرَّ كلمحة برق أو غمضة عين، كان مضمارًا للمتنافسين، وميدانًا للمتسابقين، ألا وإنه راحل لا محالة فشيِّعوه، وتمتعوا فيما بقي من لحظاته ولا تضيِّعوه، فما من شهر رمضان في الشهور عوض، شهر عمارات القلوب، وكفَّارات الذنوب، كم رُفِعت فيه من أكفٍّ ضارعة، وذرفت فيه من دموع ساخنة، ووجلت فيه من قلوب خاشعة، وتحركت فيه من مشاعر فيَّاضة، وأحاسيس مرهفة، وعواطف جياشة.
هذا، وكم وكم يفيض الله من جوده وكرمه على عباده، ويمنُّ عليهم بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، لا سيما في آخره
عباد الله، متى يُغفر لمن لم يُغفر له في هذا الشهر؟! ومتى يُقبل من رُدَّ في ليلة القدر؟! أورد الحافظ ابن رجب رحمه الله عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من رمضان: "يا ليت شعري! من المقبول فنهنيه، ومن المحروم فنعزيه
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين وبعد
فاتقوا الله عباد الله، واستودعوا شهركم عملًا صالحًا يشهد لكم عند الملك العلَّام، وودِّعوه عند فراقه بأزكى تحية وأوفر سلام، قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحِنُّ، ومن ألم فراقه تئِنُّ، كيف لا يجري للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع؟! إن قلوب المحبين لألم فراقه تشقَّق، ودموعهم للوعة رحليه تدفَّق، فالله المستعان وهو وحده الموفِّق.
أيها الإخوة الصائمون، لقد شرع لكم مولاكم في ختام شهركم أعمالًا عظيمة، تسدُّ الخلل، وتجبر التقصير، وتزيد المثوبة والأجر، فندبكم في ختام شهركم إلى الاستغفار والشكر والتوبة ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].
كما شرع لكم زكاة الفطر شكرًا لله على نعمة التوفيق للصيام والقيام، وطهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وتحريكًا لمشاعر الأخوة والأُلْفة بين المسلمين، وهي صاع من طعام من برّ أو نحوه من قوت البلد؛ كالأرز وغيره، فيجب إخراجها عن الكبير والصغير والذكر والأنثى، كما في حديث أبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهم.
ويستحبُّ إخراجها عن الحمل في بطن أمه، والأفضل إخراجها ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد، وإن أخرجها قبل العيد بيوم أو يومين فهي مجزئة؛ لورود ذلك عن الصحابة.
والسنة أن يخرجها طعامًا كما هو نص حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وعمل السلف الصالح رحمهم الله.
وقد كان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يكتب في نهاية شهر رمضان إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر.
فأدوا - رحمكم الله - زكاة الفطر طيبة بها نفوسكم، فقد أعطاكم مولاكم الكثير وطلب منكم القليل.