
الحفاظ على الهوية الإسلامية في الصيام من خلال القرأن والسنة النبوية
خالف الرسول صلي الله عليه وسلم اليهود في أمور كثيرة
التأكيد على الهوية الإسلامية في الصيام
الشرائع السابقة جميعها اشتملت على عبادة الصيام
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين وبعد
يقول الله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"(البقرة/183).
ويقول الله تعالي:""تَبَارَکَ الَّذِی نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِیَکُونَ لِلْعَالَمِینَ نَذِیراً"(الفرقان/1).
فالدين هو أحد مكونات الثقافة، والدين الإسلامي ساهم في الهوية الإسـلامية التي تقـوم على أربعـة أسـس وعنـاصر:
العقيـدة التـاريـخ ،
اللغة، الأرض.
وتجمعت هذه العناصر الأربعة في الأمَّة بمجموعها عن الهويـة الإسـلامية، وقد تضيـع هـذه الهويـة إن ضـاع الفرد عن دينه ؛ لذلك قال تعالى:"فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"().
وقال جل وعلا: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" وخيرية هذه الأمَّة نابعة من استقلاليتها التشريعية، والعقائدية ، والسلوكية، عن غيرها من الأمم الأخرى ،
وهنالك متربصون بهويتنا الإسلامية وأمتنا ، كما قال تعالى:"وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"
إن مفهوم الهوية يشير إلى ما يكون به الشيء هو هو، أي: من حيث تشخصه وتحققه في ذاته وتمييزه عن غيره، فهو وعاء الضمير الجمعي لأي تكتل بشري. فالهوية ملازمة للمواطنة؛ لأن المواطنين يحتاجون إلى نظام سياسي واقتصادي واجتماعي، وقوانين تحكم هذه العلاقة ، وتبني هذه العلاقة على اتجاهات وقيم ومعتقدات وعادت وتقاليد وموروث ديني واجتماعي يطلق عليه الهوية ،
وعلى ذلك يمكن القول: إن الهوية هي مجموع من الخصائص والسمات المعينة تتميز بها أمة عن أخرى ، ومجتمع عن مجتمع اخر ، وفرد عن اخر ، والهوية يمكن أن تكون ثابتة حسب محافظة الأمة عليها ، وتتحول حسب تحول الواقع.
هوية العقيدة
عباد الله :"وتتمثل هوية العقيدة في تعاليم الإسلام لذلك نجد أن تعاليم الدين الإسلامي تجعل من المسلم فرداً قوياً مستقلاً متبوعاً وليس تابعاً :"لايكن أحدكم إمعة "
لذلك أرادالرسول من وراءتحويل القبلة أن تكون رمزاً للمسلمين في وحدتهم وأن لايكون المسلم إمعة ..وحفاظاً علي الهوية..
وخالف الرسول صلي الله عليه وسلم اليهود في أمور كثيرة منها في عبادة الصيام
فالصوم في الإسلام عبادة عظيمة، ولعظمتها نالت الركنية في مبنى
الإسلام العظيم، فلا غرابة أن يشتمل هذا الركن على مقاصد جليلة تتعلق بالأفراد
وبجماعة المسلمين، ومن أهم تلك المقاصد ما يتحقق به من الحفاظ على الهوية
الإسلامية، وتجديد الخصوصية لهذه الأمة ببعض أحكامه وتعاليمه التي تميزت به هذه
الأمة من بين الديانات والثقافات المختلفة.
قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"(البقرة/183).
:" كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ"، على الذين من قبلكم، من الأمم السابقة، من أهل الكتاب وغيرهم.
والتشبيه هنا بالفرض دون المفروض، فلا يلزم عليه أن يكون صيامنا
كصيام من قبلنا؛ في وقته، ومقداره، وصفته، وغير ذلك.
واختلف في الذي كتب على الذين من قبلنا، فقيل: كتب عليهم صيام شهر
رمضان، وقيل: كتب عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقيل: صيام عاشوراء.
ولا دليل على شيء من هذه الأقوال، والأظهر أن صيام رمضان مما اختص
الله به هذه الأمة.
وأبهم الله هؤلاء الذين من قبلنا ، والمعروف أن الصوم مشروع في جميع الملل حتى الوثنية ، فهو معروف عن قدماء المصريين في أيام وثنيتهم ، وانتقل منهم إلى اليونان فكانوا يفرضونه لا سيما على النساء ، وكذلك الرومانيون كانوا يعنون بالصيام ، ولا يزال وثنيو الهند وغيرهم يصومون إلى الآن ، وليس في أسفار التوراة التي بين أيدينا ما يدل على فرضية الصيام ، وإنما فيها مدحه ومدح الصائمين ، وثبت أن موسى عليه السلام صام أربعين يوما ، وهو يدل على أن الصوم كان معروفا مشروعا ومعدودا من العبادات ، واليهود في هذه الأزمنة يصومون أسبوعا تذكارا لخراب أورشليم وأخذها ، ويصومون يوما من شهر آب . أقول : وينقل أن التوراة فرضت عليهم صوم اليوم العاشر من الشهر السابع وأنهم يصومونه بليلته ولعلهم كانوا يسمونه عاشوراء ، ولهم أيام أخر يصومونها نهارا .
وكان الصوم المشروع عند الأولين منهم - كصوم اليهود - يأكلون في اليوم والليلة مرة واحدة ، فغيروه وصاروا يصومون من نصف الليل إلى نصف النهار ،
ولا نطيل في تفصيل صيامهم ، بل نكتفي بهذا في قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " أي فرض عليكم كما فرض على المؤمنين من أهل الملل قبلكم .
فهو تشبيه الفرضية بالفرضية ولا تدخل فيه صفته ولا عدة أيامه ، وفي قصتي زكريا ومريم - عليهما السلام - أنهم كانوا يصومون عن الكلام ; أي : مع الصيام عن شهوات الزوجية والشراب والطعام . قال البيضاوي : إن الصوم في اللغة : الإمساك عما تنازع إليه النفس ، لا مطلق الإمساك كما يقول الجمهور ، وقال أبو عبيدة من رواة اللغة : كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم . ثم قال :
والحكمة في قوله تعالى: "كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ":
أولًا: الترغيب في المنافسة لهم بالأعمال الصالحة، والإشارة إلى
استكمال هذه الأمة فضائل الأمم السابقة؛ لأن الصيام من أفضل الأعمال.
ثانيًا: تخفيف فرض الصيام على النفوس ببيان أن الصيام كما كُتب على
هذه الأمة، فقد كُتب على من قبلهم من الأمم، وقد قيل: إن التكاليف إذا عمَّت
خفَّت، كما أن المصائب إذا عمَّت خفَّت، كما قالت الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي
التأكيد على الهوية الإسلامية في الصيام
عباد الله:" الشريعة كلها بما فيها الصوم حافظت على بناء الخصوصية لهذه الأمة،
بناء على طبيعة وجودها الخاتم، ووسطيتها في كل شيء، فجاء الصوم مؤكدا لهذا المعنى
من خلال النهي عن التشبه بالأمم الأخرى في بعض الأحكام والتعاليم، مع أنها عبادة
واحدة في جوهرها، لكن تمييز هذه الأمة أصل جار في فروع الشريعة كثيرا.
ومن ذلك: التوجيه بتعجيل الفطر مخالفة لليهود فعن أبي
هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يزال الناس بخير ما عجلوا
الفطر، عجلوا الفطر؛ فإن اليهود يؤخرون"(النسائي).
ومن ذلك: النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصيام، وقد قيل: إن علة النهي
هي ترك موافقة اليهود في يوم واحد من بين أيام الأسبوع، فاليهود عظمت السبت، فلا
تعظموا أنتم الجمعة خاصة بصيام وقيام.
ومن ذلك: النهي عن تخصيص يوم السبت بالصوم، فعن عبد الله بن بُسْرٍ،
عن أُختِهِ الصمَّاءِ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يومَ
السبتِ إلا فيما افتُرضَ عليكُم، فإِنْ لم يجِد أحدُكم إِلاَّ لحاءَ عِنَبَةٍ، أو
عودَ شجرةٍ فليمضغهُ"(أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي).
والمراد بالنهي في هذا الحديث إفراد السبت بالصوم، لا الصوم مطلقًا،
فلو صام يوما قبله أو بعده، أو وافق يوما يشرع صومه مثل يوم عرفة فلا ينهى عنه،
والشاهد في الحديث هو التأكيد على فطر يوم السبت مخالفة لليهود ولو بأكل ما تيسر،
حتى ولو بمضغ عود شجرة، وهذا أبلغ ما يدل على قصد الشارع لعدم مشابهتهم في
العبادات.
ومن ذلك: الأمر في صيام عاشوراء بمخالفة اليهود، فلما كان الباعث على
صيامه مشتركا جاء التوجيه بمخالفتهم بصيام يوم قبله تأكيدا على أحقية هذه الأمة
بولاية الأنبياء، وحفاظا على الهوية الإسلامية في ذات الوقت، ففي صحيح مسلم عن عبد
الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"
قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي سنن الترمذي عن ابن عباس أنه قال:"صوموا التاسع والعاشر وخالفوا
اليهود".
ومن ذلك: ما جاء في الترغيب بتناول أكلة السحور كثيرا في السنة
النبوية، ومن جملة مقاصد ذلك مخالفة اليهود ففي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فَصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، أكلةُ
السحر".
قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في شرح مسلم: معناه الفارق والمميّز
بين صيامنا وصيامهم السحور، فإنهم لا يتسحّرون، ونحن يستحبّ لنا أن نتسحّر.
قال القرطبي في المفهم: هذا الحديث يدل على أن السحور من خصائص هذه
الأمة ومما خفف به عنهم أكلة السحر.
وتعبير النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة "فصل" تدل على أن
المفاصلة في العبادات وشعائر الدين مقصود شرعا، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى:
وفيه دليل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع.
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّم يحُثُّ على السُّحورِ، ويَأمُرُ به؛ لِما فيه مِن البَرَكةِ للصَّائِمِ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم: «فَصْلُ ما بيْن صِيامِنا وصِيامِ أهلِ الكِتابِ أكْلةُ
السَّحَرِ»، أي: إنَّ أَكلةَ السَّحرِ -وذلك لمَن أراد الصِّيامَ فرْضًا كان أو
نفْلًا- تُفرِّقُ بيْن طَبِيعَةِ صِيامِنا وصِيامِ أهلِ الكِتابِ مِنَ اليَهُودِ
والنَّصارَى؛ لأنَّ اللهَ أباح لنا بعضَ ما حرَّم عليهم، ومُخالَفَتُنا إيَّاهم في
ذلك تَقَعُ مَوقِعَ الشُّكرِ لتلك النِّعمةِ؛ فهُم لا يَتسحَّرون ونحنُ مَأْمورون
بالسُّحورِ. وأفضلُ وَقْتٍ لهذه الأَكْلَةِ هو وَقْتُ السَّحَرِ، وهو قُبَيْل
طُلوعِ الفَجْرِ الصَّادِقِ.
وإنَّما يَأْتي التَّأكيدُ على أكْلةِ
السَّحَرِ؛ لأنَّ هذا الوَقتَ مَظِنَّةُ النَّومِ عندَ أغلَبِ النَّاسِ، فلرُبَّما
غَلَبَهم النَّومُ ولذَّتُهُ عن أهميَّةِ تلك الأَكْلةِ، فأضعَفَهم تَرْكُها عنِ
القيامِ بأشْغالِهِم في النَّهارِ.
وفي الحديثِ: الحثُّ على السُّحورِ.
وفيه: حِرْصُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على التَّميُّزِ والاختِلافِ عن أهلِ الكتابِ في العِباداتِ المشترَكةِ بيْننا وبيْنهم
ثانيا: الصيام في الثقافات الأخرى:
عباد الله:" وتتأكد الخصوصية الإسلامية في صيام المسلمين حين ننظر في واقع هذه
العبادة في ديانات وثقافات أخرى، وما يصاحب ذلك من طقوس وخرافات متعلقة بأسباب
الصوم، وزمانه، وكيفيته، والاختلاف في ذلك بين أبناء الديانة الواحدة.
فاليهود من جملة ما يصومونه يوم الغفران وتيشا باف وهو اليوم الأكثر حزنًا
في التقويم اليهودي والذي يصوم فيه اليهود باعتباره تلك الفترة من الزمن التي تم
فيها تدمير الهيكل المقدس في القدس على حد زعمهم، ويكون الصوم في هذين اليومين صوم
عن الطعام والشراب والنكاح بالإضافة إلى تحريم الاستحمام، أو التعطر أو حتى غسل
الأسنان، كما يحرم ارتداء الجلود في هذين اليومين.
وأما النصارى فالصوم عندهم "هو الامتناع عن الطعام حتى بعد
منتصف النهار، ثم تناول طعام خال من الدسم عند البعض، والبعض منهم يرى أن الصوم
امتناع عن الأكل والشرب من الصباح إلى المساء.
ومن العجائب من أنواع الصيام ما يسمى "الصيام حتى الموت" ويعمل به أتباع الديانة اليانية بباعث الزهد يقرر الإنسان التخلي عن كل ما هو مادي بغرض تطهير الجسد من جميع الرغبات لإزالة الخطايا وتحرير الروح من مدار الولادة والاستعداد للبعث من جديد حسب اعتقادهم. ويقدر الخبراء بأنه وتحديدًا في الهند فإن هناك أكثر من 200 إنسان يموتون سنويًا بهذه الطريقة.
والخلاصة أن الإنسان كلما توسع في تفاصيل تلك الديانات والثقافات يجد الغرائب والعجائب في طقوس الصوم التي يؤدونها،
وهذا يستدعي من المسلم أن يؤدي
صيامه شاكرا لله تعالى على نعمة هذه العبادة، فهي عبادة ربانية، إذ إن الذي شرعها
هو الله تعالى، فليست من اختراعات العقول، وابتداعات الرهبانية، ومن وجوه الشكر أن
المسلم يصوم صوما واقعيا يتوافق مع الفطرة والقدرة الإنسانية، فلم يكلفه الإسلام
إلا ما يطيق، بل وشرع فيها من التخفيفات للمريض والمسافر والحامل والمرضع والعاجز
ما تجعل هذه العبادة أكثر منطقية وواقعية، وهي عبادة مضمونة الثواب، قد ادخر الله
ثوابها، ولم يكشف عن مقداره لعظمته، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا
أجزي به»، أما ما يفعله غير المسلمين فهو إهلاك للنفس في الدنيا وخسارة في الآخرة،
ولا يزال الصوم في شريعة الإسلام باقيا كما شرع لأول مرة، فلم تتحرف كيفيته، ولا
زمانه، ولا أحكامه، وهذا مصدر اعتزاز للمسلم، وتعميق لهويته وانتمائه لهذا الدين
الكامل، والهوية الواضحة.
يستشعر المؤمنون في مدرسة الصيام معاني فقرهم وعبوديتهم للخالق تعالى فيزدادون رحمة وتضامنا وتكافلا. وفي هذا الشهر المبارك لا بد لنا من إعادة التفكير بالمضامين الإنسانية والأخلاقية للعبادة، فالعبادة في الإسلام تشتمل على طاعة الخالق وعمل كل ما يحبه الله تعالى من الأعمال والأقوال والأفكار. فالاجتهاد في العلم والعمل ورعاية الأسرة وفلاحة الارض والحفاظ على البيئة كل ذلك يمثل مظاهر للعبادة تقربنا من محبة الله ورضاه.
الخطبة الثانية
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف الخلق أجمعين وبعد
تتعدى معاني الصوم في ديننا الحنيف مفهوم الزهد الفردي القائم على الامتناع عن الرغبات والشهوات لتصل بالأمة إلى بناء الإرادة الجمعية واستنهاض الهمم والاجتماع على الطاعات وعمل الخيرات. وهذا يقتضي الانتقال بمفهومنا للصوم من ممارسة دينية شعائرية إلى فعل اجتماعي وإنساني تنموي، ومن تغيير العادات الغذائية الاستهلاكية إلى تغيير الأنماط السلوكية الخاطئة في مجتمعاتنا المعاصرة. تشكل المناسبات الدينية جزءا أساسيا من الهوية الثقافية للشعوب، فهي تعكس قوة حضور الدين في النسيج الاجتماعي بمظاهره وتنوعاته المختلفة. وتؤكد الحركة الدورية للمناسبات الدينية الحاجة الى إعلاء قيمة التعبير الجمعي عن الرموز والمعاني المتضمنة في تلك المناسبات، وهذا يعكس قوة الشعور الديني لدى الشعوب وحاجتها العميقة للدين كرباط وثيق يجمع الماضي بالحاضر والاحفاد بالأسلاف. لا يكاد يخلو دين من عبادة الصيام بأشكالها وأنواعها المختلفة وقد ورد ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"(البقرة:183).
إن الشرائع السابقة جميعها اشتملت على عبادة الصيام
وأن تقوى الله هي الغاية الكبرى التي يسعى إليها المؤمنون جميعا.
للعبادات أثر كبير في ضبط السلوك الإنساني واستثمار المعاني الجمالية للانتظام الاجتماعي، فالقيام بالواجبات الدينية في زمن واحد والالتزام بأوقات تناول الطعام والامتناع عنه في وقت واحد، كل ذلك يؤسس لمجتمع قادر على الانتظام والتكافل والتعاون.
وفي هذا المعنى يقول المستشرق الفرنسي جاك ريسلر، في كتابه «الحضارة العربية»: «على امتداد شهر رمضان، من الشفق إلى الغسق، يتوجب على المؤمن الامتناع عن تناول أي مأكل ومشرب، يمكن اعتبار إماتة الجسد القاسية هذه فعل رحمة واسترحام، نوعًا من التكفير عن الأخطاء، وبالتالي فعلاً تَشَفُّعِيًّا يتقرب به الصائم من ربه، ولكنه يرمي أيضًا إلى توطيد الضبط الاجتماعي وجعل المؤمنين يشعرون بتماسكهم وتكافلهم».
تتكامل أركان الاسلام لتشكل منظومة متسقة ذات غاية واحدة، وهنا تبرز العلاقة بين الصيام والزكاة، فطهارة النفس والارتقاء بها فوق رغباتها الحسية يُخرج الانسان من ضيق الفردانية إلى سعة النحنوية ومن شُحِّ النفس إلى كرم البذل والعطاء.
من أعظم آثار الصيام أنه يقوي إرادة الممانعة في نفوس المؤمنين ويعينهم على مدافعة الظلم وتحقيق العدالة. فالصيام يعزز الثقة بالذات وينمي قدراتها الايجابية تجاه المجتمع من خلال مفهوم التدافع الذي أسس له القرآن الكريم، فلا تقوم العلاقة بينهم على أساس «الآخر هو الجحيم» وإنما من خلال «الغيرية الفعّالة» التي تبحث عن الكلمة السواء واستباق الخيرات. نحن أحوج ما نكون إلى المصالحة الواعية مع تاريخنا و«تراثنا الحضاري» والعمل على عصامية البحث والتفكير عوضا عن ادعاء معصومية الذات والفعل، وهذا يعني ضرورة إحياء الفكر الموضوعي الناقد المبني على الحقيقة المتسامية فوق العواطف والانفعالات الذاتية.
إن التأمل في تنوع مجتمعاتنا الإسلامية يجعلنا نكتشف عناصر الثراء والتكامل التي تجمع بين أعمدة الأمة التي امتزج فيها التنوع القومي بالتنوع العرقي. ولا يمكن لنا مواجهة دواعي الضعف والفرقة في مجتمعاتنا إلا من خلال البناء على القيم التي نقلها المبدعون الأوائل كقبول الآخر واحترام الاختلاف والاعتزاز بموروثنا التاريخي ليس باعتباره تقليدا للآباء والأجداد وإنما باعتباره فعلا حضاريا يعبّر عن هويتنا الروحية والإنسانية.
إن المشاعر الروحية العميقة التي تسود الشعوب العربية والإسلامية هي مفتاحٌ ذو فاعلية عجيبة في نشر روح المحبة والتسامح والتعاون بين البلدان الإسلامية، ورمضان بذلك يشكّل فرصة سنوية ثمينة يجب استثمارها لتحقيق الحلم بالتضامن والتعاون والتكافل وإلغاء المسافات أو اختصارها بين الشعوب الإسلامية. يذكرنا شهر القرآن بواجبنا نحو اللغة العربية لسان القرآن ومنبع الفصاحة والبيان. فاللسان العربي الذي نزل به القرآن يجري على كلّ لسان من البلدان العربية إلى تركيا وإيران وأذربيجان وباكستان وماليزيا وغيرها.
إنه شعورٌ واحدٌ عابرٌ للحدود بالسكينة والطمأنينة الروحيّة. يدعونا إلى تحييد آثار شوكة الانغلاق الإقليمي والعرقي، حيث تلهج ألسنة الملايين والمليارات من المسلمين بالضراعة إلى ربّ العالمين ويلتقون جميعاً على النظر إلى الإله الواحد في وقت واحد طلباً لرحماته والتماساً لبركاته