كيف نضحك والأقصي أسير؟
وأهله في كرب عسير؟
قل كما قال صلاح الدين:"كيف أبتسم والأقصى أسير؟
تشعر بامتعاضٍ شديد حينما تري وتسمع دعوات للضحك؛ سبحان الله! ترى في أيِّ عالم وعلى أي كوكب نعيش؟
أنضحك
وحولنا كلُّ هذه الكرب؛ من قتلٍ وتشريد، وأسْر وتعذيب؟ وكيف يطيب لنا ذلك ونحن نرى
الحصار، والدمار، وهتك الأعراض؟
فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة الضحك بقوله صلى الله عليه
وسلم: إياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه"(أحمد وغيره)،
أمَا قال صلي الله عليه وسلم :"ترى المؤمنينَ في تراحُمِهم، وتوادِّهم، وتعاطُفِهم- كمثلِ الجسدِ؛ إذا اشتَكى عضوًا، تداعى لَه سائرُ جسدِه بالسَّهرِ والحمَّى"(البخاري).
فهل الضحك من
السهر أو الحمَّى؟ سبحان الله!
قال الإمام الماوردي في كتابه
"أدب الدنيا والدين": وأما الضحك فإن اعتياده شاغل عن النظر في الأمور
المهمة، مذهل عن الفكر في النوائب الملمَّة وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا
لمن وصم به خطر ولا مقدار،
وقال الحسن البصري رحمه الله: ضحك المؤمن غفلة من قلبه. رواه ابن أبي
شيبة في المصنف، والمقصود هنا الضحك المكروه.
وروى الطبراني في الأوسط عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته. وكذا رواه البيهقي في شعب الإيمان
قال أبو شامة المقدسي: "وبلَغني
من شدة اهتمام نور الدين رحمه الله بأمر المسلمين، حين نزل الفرنج على دمياط - أنه
قرئ عليه جزءٌ من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديثٌ مسلسَل
بالتبسُّم، فطلب منه بعضُ طلبة الحديث أن يتبسم لتتم السلسلة، على ما عُرف من عادة
أهل الحديث، فغضب من ذلك، وقال: إني لأستحيي من الله تعالى أن يراني مبتسمًا
والمسلمون محاصَرون بالفرنج!"(الروضتين في أخبار الدولتين النورية
والصلاحية).
وكذا الأمر مع صلاح الدين؛ لم يكن يبتسم،
ويقول: "كيف أبتسم والأقصى أسير؟ والله إني لأستحيي من الله أن أبتسم وإخواني
هناك يعذَّبون ويُقتلون"، وكان من كلامه: "كيف يطيب لي الفرح والطعام
ولذة المنام، وبيتُ المقدس بأيدي الصليبيين؟".
وقال ابن شداد عن صلاح الدين:
"كان رحمه الله عنده من القدس أمرٌ عظيم، لا تحمله إلا الجبالُ"، وقال
عنه في وقعة عكا: "وهو كالوالدة الثكلى، يجول بفرسه من طلب إلى طلب، ويحثُّ
الناس على الجهاد، يطوف بين الأطلاب بنفسه وينادي: يا للإسلام! وعيناه تذرفان
بالدموع، وكلما نظر إلى عكا، وما حلَّ بها من البلاء، اشتد في الزحف والقتال، ولم
يطعم طعامًا ألبتة؛ وإنما شرب أقداح دواء كان يشير بها الطبيب". [النوادر
السلطانية والمحاسن اليوسفية].
كان يحمل الهمَّ بصدق، وفكُّ أسر الأقصى والمسلمين يشغل باله، حتى إنه ليمنعه الطعامَ والشراب ولذة المنام، أما نحن، فيريد منا صاحب الأنشودة أن نضحك، سبحان الله! إن كنت - مع كل هذه الأحداث الجسام - تريد منا أن نضحك،
أخبِرنا إذًا: متى نغضب؟
أخي في الله
أخبرني متى تغضب؟
إذا انتُهكت محارمنا
إذا نُسفت معالمنا
ولم تغضبْ
إذا قُتلت شهامتنا
إذا دِيسَتْ كرامتنا
إذا قامت قيامتنا
ولم تغضبْ
فأخبرني متى تغضب؟
رأيت هناك أهوالاً
رأيت الدم شلالاً
رأيت القهر ألواناً وأشكالاً
ولم تغضبْ
فأخبرني متى تغضب؟
لست أدري متى نغضب، ولأي أمةٍ نُنسب، إن كان إخوتنا يُقتلون ويعذَّبون، وأعراضهم يهتكون، ونحن نلهو ونلعب، ونضحك ونطرب؟
يقول الرافعي: "أولئك إخواننا
المنكوبون؛ ومعنى ذلك أنهم في نكبتهم امتحانٌ لضمائرنا نحن المسلمين جميعًا. أولئك
إخواننا المضطهَدون؛ ومعنى ذلك أن السياسة التي أذلَّتهم تسألنا نحن: هل عندنا
إقرار للذلِّ؟ ماذا تكون نكبة الأخ إلا أن تكون اسمًا آخرَ لمروءةِ سائر إخوته أو
مذلَّتِهِم؟". (وحي القلم: أيها المسلمون).
اللهم كن لإخواننا المستضعَفين،
والمحاصرين، والمأسورين، اللهم استر عوْراتهم، وآمن روْعاتهم، وعجِّل لهم بالفرج،
اللهم آمين.