
المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف
المراد بالقوة ومعناها في الحديث
ماهي صفات المؤمن القوي؟
ما هي فوائد أن يكون المؤمن قويًا؟
الحمد لله رب العالمين ولصلاة والسلام علي أشرف المرسلين أما
بعد فياعباد الله
عَنْ أبي هُريرةَ رضْيَ اللهُ عنه قالَ:"قال رسولُ اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ:"المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ
الضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ. احْرِصْ على ما يَنفعُكَ، واسْتَعنْ باللهِ ولا تَعجزْ.
وإنَّ أصابك شيءٌ فلا تقلْ: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قدَرُ اللهِ
وما شاءَ فَعَل، فإنَّ (لَوْ) تَفتحُ عملَ الشَّيطانِ"(مسلم).
المراد بالقوة ومعناها في الحديث
عباد الله:" معني القوة والمراد بهاهنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة..
وقال غيرهم: إن المؤمن القوي في إيمانه، والقوي في بدنه وعمله.. خيرٌ من المؤمن الضعيف في إيمانه أو الضعيف في بدنه وعمله، لأن المؤمن القوي ينتج ويعمل للمسلمين وينتفع المسلمون بقوته البدنية وبقوته الإيمانية، وبقوته العلمية ينتفعون من ذلك نفعًا عظيمًا في الجهاد في سبيل الله، وفي تحقيق مصالح المسلمين، وفي الدفاع عن الإسلام والمسلمين.. وهذا ما لا يملكه المؤمن الضعيف، فمن هذا الوجه كان المؤمن القوي خيرًا من المؤمن الضعيف،
كلمة القوي تعود إلى الوصف السابق وهو الإيمان، كما تقول: الرجل القوي، أي في رجولته، كذلك المؤمن القوي يعني في إيمانه؛ لأن المؤمن القوي في إيمانه تحمله قوة إيمانه على أن يقوم بما أوجب الله عليه، وعلى أن يزيد من النوافل ما شاء الله، والضعيف الإيمان يكون إيمانه ضعيفًا لا يحمله على فعل الواجبات، وترك المحرمات فيُقصِّر كثيرًا.
والمطلوب من المسلم أن يكون قوياً في إيمانه وجميع مجالات حياته
ماهي صفات المؤمن القوي ؟
عباد الله وللمؤمن القوي صفات عديدة منها:"
الإيمان القوي: الإيمان الراسخ الذي لا يتزعزع، والإيمان الذي يترجم إلى عمل صالح.
فهوقوي في إيمانه، قوي متدين في بدنِه؛ لأن قوة بدنه قد تكون ضررًا على الإنسان إذا استعمل هذه القوة في معصية الله، فقوة البدن ليست محمودة ولا مذمومة في ذاتها، إن كان الإنسان استعمل هذه القوة فيما ينفعه في الدنيا والآخرة صارت محمودة، وإن استعان بهذه القوة على معصية الله صارت مذمومةً.
العمل الصالح: ومن علامات القوة العمل الصلاح فالقيام بكل ما أمر الله به من طاعات، والاجتناب عما نهى عنه من معاصي قوة ارادة وعزيمة وجلد
والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تربط بين الإيمان والعمل الصالح،
ولا يكاد يذكر أحدهما إلا ملازما لصاحبه؛ لينتبه المسلم إلى أهميتهما معًا، فلا
يهتم بأحدهما ويُهمل الآخر قال تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا" وقال تعالى:"وَمَنْ يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا" وقال
تعالى "وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ
الدَّرَجَاتُ الْعُلَى".
الصبر والتحمل:
عباد الله:"ومن صفات المؤمن القوي الصبر على المصائب والابتلاءات، والتحمل في سبيل اللهولا شك أن الصبر يزداد مع زيادة الإيمان والثقة بقضاء الله تعالى وقدره، ولتعلم أنه لا يكون في كون الله إلا ما شاء الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نصيحته لابن عباس عند أبي داود:"واعلم أن ما أصابك ما كان ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث: واعلم أن النصر مع الصبر. فالنصر في الآخرة وفي الدنيا ونيل المطالب لا يكون إلا بالصبر على القضاء والرضا به.
الشجاعة:
عباد الله :"الشجاعة هي مكرمة للمرء وهي
القاضية على الذلِّ والهوان، وهي سرُّ بقاء البشر واستمرار الحياة وعمران الأرض،
وهي من صفات الكمال والجمال، وبها اتَّصف الأنبياء والمرسلون، وامتاز بها سيِّدهم
وإمامهم محمد - صلى الله عليه وسلّم - يقول أنس - رضي الله عنه -: "كان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجعَ الناس، قال:
"وقد فزِع أهل المدينة ليلة سَمِعوا صوتًا، قال: فتلقَّاهم النبي - صلى الله
عليه وسلم - على فرسٍ لأبي طلحة عُرْي، وهو متقلِّد سيفَه، فقال:"لَمْ تُراعُوا،
لَم تُراعوا"، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-:"وجدتُه بحرًا"؛
يعني: الفرس؛(البخاري).
وقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه:"الجُبنُ والشَّجاعةُ غرائزُ في النَّاسِ، تلقى الرَّجُلَ يقاتِلُ عمَّن لا يَعرِفُ، وتلقى الرَّجُلَ يَفِرُّ عن أبيه!"
وكان الصحابة - رضي الله عنهم - قد
نَالوا الحظ الأوفَر والنصيب الأكبر من هذا الخُلُق العظيم الذي كان عليه الرسول -
صلَّى الله عليه وسلَّم - في القمة.
فهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
قيل له: "كيف تصرع الأبطال؟ قال: "إذا لقيتُ أحدًا كنتُ أَقدِر أنِّي
أقتله، ويُقدِّر هو أنِّي قاتِله، فأجتمِع أنا ونفسه عليه، فنَهزمه، وقيل له - رضي
الله عنه -: "إذا جالَت الخيل، فأين نَطلبك؟ قال: حيث تَركتُموني"، وكان
يقول: "والذي نفس أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف، أهون عليَّ من مَوتة على
فراش، وهذا البراء بن عازب - رضي الله عنه - يُلقِي بنفْسه مُقتحِمًا حديقةَ
المرتدِّين في حرب مُسيلِمة الكذاب، التي سُمِّيت حديقة الموت؛ لكثرة مَن مات فيها
من الطرفين، واشتُهِر عنه أنه قتَل 100 من الشجعان مُبارزةً، وهذا عمرو بن الجموح،
يَمنعه أبناؤه من الخروج إلى ميدان القتال، والخوض في المعركة؛ لأنه لا يستطيع
السَّير على ساقه العَرجاء، فيقول لهم: "والله إنِّي أريد أنْ أطأَ بعَرْجَتي
هذه الجنة، واستأذن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في القتال، فأذِن له،
وخرَج إلى ميدان القتال، فقاتَل بشجاعة حتى نال الشهادة في سبيل الله.
وهذا عبدالله بن رواحة، صَحابيٌّ
جَليل، جاهَد في سبيل الله، وأبلَى في معركة مُؤتة بلاء حسنًا، وكان يقول قبل أنْ
ينزِل في المعركة:
أَقْسَمْتُ يا نَفْسُ لتَنْزِلِنَّهْ
مَا لِي أَرَاكِ
تَكْرَهِينَ الجَنَّهْ
يَا نَفْسُ إلا تُقْتَلِي تَمُوْتِي
هَذَا حِمَامُ المَوْتِ قَدْ
صَلِيتِ
وما تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ
إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ
العلم:
عباد الله :" ومن صفات المؤمن القوي أيضاًطلب العلم الشرعي والعمل به، ونشر العلم بين الناس والدعوة إلى الله: دعوة الناس إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ما هي فوائد أن يكون المؤمن قويًا؟
زيادة الإيمان: القوة في الدين تزيد الإيمان
ثباتًا ورسوخًا.
القرب من الله: القوي في الدين أقرب إلى الله
منزلة وأحب إليه.
السعادة والطمأنينة: القوي في الدين يشعر
بالسعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة.
النجاح في الحياة: القوي في الدين ينجح في
حياته الدنيا والآخرة.
الاحترام والتقدير: يحترم الناس القوي في الدين ويقدرونه
وفي كلٍّ خير
كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فالإيمان كله خير، المؤمن الضعيف فيه خير، ولكن المؤمن القوي أكثر خيرًا منه لنفسه ولدينه ولأهله ولإخوانه ولأمته.. ففيه الحث على القوة، ودين الإسلام هو دين القوة ودين العزة ودين الرفعة دائمًا وأبدًا يطلب من المسلمين القوة في كل شيء، قال الله سبحانه وتعالى : وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ.. الآية. القوة في الإيمان والعقيدة، والقوة في العمل، والقوة في الأبدان.. لأن هذا ينتج خيرًا للمسلمين.
وقوله:"خيرٌ" يعني: خير من المؤمن الضعيف، وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، ثم قال صلي الله عليه وسلم :"وفي كُلٍّ خيرٌ"، يعني المؤمن القوي والمؤمن الضعيف كل منهما فيه خير. وإنما قال:"وفي كلٍّ خيرٌ"؛ لئلا يتوهم أحد من الناس أن المؤمن الضعيف لا خير فيه، بل المؤمن الضعيف فيه خير، فهو خير من الكافر لا شك.
وهذا الأسلوب يسميه البلاغيون الاحتراز، وهو أن يتكلم الإنسان كلامًا يوهم معنى لا يقصده، فيأتي بجملة تبين أنه يقصد المعنى المعين، ومثال ذلك في القرآن قوله تبارك وتعالى:"لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى"(الحديد: 10).
لما كان قوله:"أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا" يوهم أن الآخرين ليس لهم حظ من هذا، قال:" وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى "
ومن ذلك قوله تعالى:"وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ"(الأنبياء: 79)، لما كان هذا يوهم أن داود عنده نقص، قال تعالى:"وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا".
ومن ذلك قوله تعالى:"لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى"(النساء: 95)، فهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وفي كلٍّ خيرٌ"، أي: المؤمن القوي والمؤمن الضعيف، لكن القوي خير وأحبُّ إلى الله.
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة علي رسول الله أما بعد فياعباد الله
تقديم المنفعة العامة علي الخاصة
احرصْ على ما ينفعُك
المؤمن القوي حريص علي ماينفعه ويعد عليه بالنفع وعلي أمته بالنفع :"احرصْ على ما ينفعُك"هذه وصية من الرسول صلي الله عليه وسلم لأمته، وهي وصية جامعة مانعة "احرصْ على ما ينفعُكَ" يعني أجتهد في تحصيله ومباشرته، وضد الذي ينفع الذي فيه ضرر، وما لا ينفع فيه ولا ضرر، وذلك لأن الأفعال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم ينفع الإنسان، وقسم يضره، وقسم لا ينفع ولا يضر.
فالإنسان العاقل الذي يقبل وصية النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحرص على ما ينفعه، وما أكثر الذين يضيعون أوقاتهم اليوم في غير فائدة، بل في مضرة على أنفسهم وعلى دينهم، وعلى هذا فيجدر بنا أن نقول لمثل هؤلاء: إنكم لم تعملوا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم؛ إما جهلًا منكم وإما تهاونًا، لكن المؤمن العاقل الحازم هو الذي يقبل هذه النصيحة، ويحرص على ما ينفعه في دينه ودنياه.
وهذا حديث عظيم ينبغي للإنسان أن يجعله نبراسًا له في عمله الديني والدنيوي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"احرص على ما ينفعك"، وهذه الكلمة كلمة جامعة عامة، "على ما ينفعك"، أي: على كل شيء ينفعك، سواء في الدين أو في الدنيا، فإذا تعارضت منفعة الدين ومنفعة الدنيا فقدِّمْ منفعة الدين؛ لأن الدين إذا صلح صلحت الدنيا، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين فإنها تفسد
وفي قوله:"احرص على ما ينفعك" إشارة إلى أنه إذا تعارضت منفعتان إحداهما أعلى من الأخرى، فإننا نقدم المنفعة العليا؛ لأن المنفعة العليا فيها المنفعة التي دونها وزيادة، فتدخل في قوله:"احرص على ما ينفعك".
فإذا اجتمع صلة أخ وصلة عم كلاهما سواء في الحاجة، وأنت لا يمكنك أن تصل الرجلين جميعًا، فهنا تقدم صلة الأخ لأنها أفضل وأنفع، وكذلك أيضًا لو أنك بين مسجدين كلاهما في البعد سواء لكن أحدهما أكثر جماعة فإننا نقدم الأكثر جماعة لأنه الأفضل، فقوله: "على ما ينفعك" يشير إلى أنه اجتمعت منفعتان إحداهما أعلى من الأخرى فإنها تقدم الأعلى. وبالعكس إذا كان الإنسان لابد أن يرتكب منهيًا عنه من أمرين منهي عنهما وكان أحدهما أشد، فإنه يرتكب الأخف، فالمناهي يقدم الأخف منها، والأوامر يقدم الأعلى منها.
ولهذا قال:"احرصْ على ما ينفعك واستعنْ باللهِ"، أي: لا تنس الاستعانة بالله ولو على الشيء اليسير، وفي الحديث: «ليسأل أحدكم ربَّه حاجتَه حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شِسْعَ نعله إذا انقطع»، يعني حتى الشيء اليسير لا تنس الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ، حتى ولو أردت أن تتوضأ أو تصلى أو تذهب يمينًا أو شمالًا أو تضع شيئًا فاستحضر أنَّك مستعينٌ بالله عزَّ وجلَّ، وأنه لولا عون الله ما حصل لك هذا الشيء.
ثم قال:"ولا تعجز "، يعني استمر في العمل ولا تعجز، وتتأخر، وتقول: إن المدى طويل والشغل كثير. فما دمت صممت في أول الأمر أن هذا هو الأنفع لك واستعنت بالله وشرعت فيه فلا تعجز.
وهذا الحديث في الحقيقة يحتاج إلى مجلدات يتكلم عليه فيها الإنسان؛ لأن له من الصور والمسائل ما لا يحصى، منها مثلًا طالب العلم الذي يشرع في كتاب يرى أن فيه منفعة ومصلحة له، ثم بعد أسبوع أو شهر يمل، وينتقل إلى كتاب آخر، هذا نقول عنه: إنه استعان بالله وحرص على ما ينفعه ولكنه عجز، كيف عجز؟ بكونه لم يستمر، لأن معنى قوله: «لا تعجزْ»، أي: لا تترك العمل؛ بل ما دمت دخلت فيه على أنه نافع فاستمر فيه، ولذا تجد هذا الرجل يمضي عليه الوقت ولم يحصل شيئًا؛ لأنه أحيانًا يقرأ في هذا، وأحيانًا في هذا.
حتى في المسألة الجزئية؛ تجد بعض طلبة العلم مثلًا يريد أن يرجع مسألة من المسائل في كتاب، ثم يتصفح الكتاب، يبحث عن هذه المسألة، فيعرض له أثناء تصفح الكتاب مسألة أخرى يقف عندها، ثم مسألة ثانية، فيقف عندها، ثم ثالثة، فيقف، ثم يضيع الأصل الذي فتح الكتاب من أجله، فيضيع عليه الوقت، وهذا ما يقع كثيرًا في مثل «فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله» تجد الإنسان يطالعها ليأخذ مسألة، ثم تمر مسألة أخرى تعجبه وهكذا، وهذا ليس بصحيح؛ بل الصحيح أن تنظر الأصل الذي فتحت الكتاب من أجله.
كذلك أيضًا في تراجم الصحابة، في "الإصابة - مثلًا - لابن حجر رحمه الله" حين يبحث الطالب عن ترجمة صحابي من الصحابة، ثم يفتح الكتاب من أجل أن يصل إلى ترجمته، فتعرض له ترجمة صحابي آخر، فيقف عندها ويقرؤها، ثم يفتح الكتاب، يجد صحابيًّا آخر، ثم هكذا يضيع عليه الوقت ولا يحصل الترجمة التي من أجلها فتح الكتاب، وهذا فيه ضياع للوقت.
ولهذا كان من هدي الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يبدأ بالأهم الذي تحرك من أجله، ولذلك لما دعا عتبان بن مالك الرسول صلى الله عليه وسلم، قال له: أريد أن تأتي لتصلي في بيتي؛ لأتخذ من المكان الذي صليت فيه مصلى لي، فخرج النبي - عليه الصلاة والسلام - ومعه نفر من أصحابه، فلما وصلوا، إلي بيت عتبان واستأذنوا ودخلوا، وإذا عتبان قد صنع لهم طعامًا، ولكن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يبدأ بالطعام، بل قال: «أين المكان الذي تريد أن نصلي فيه؟» فأراه إياه، فصلى، ثم جلس للطعام. فهذه دليل على أن الإنسان يبدأ بالأهم، وبالذي تحرك من أجله؛ من أجل ألا يضيع عمله سدى.
عباد الله :" وعلي المؤمن أن يستعين بالله في جميع أمورحياته دنيوية وأخروية
"واستعن بالله": ما أروع هذه الكلمة بعد قوله:"احرص على ما ينفعك"؛ لأن الإنسان إذا كان عاقلًا ذكيًّا فإنه يتتبع المنافع ويأخذ بالأنفع ويجتهد ويحرص، وربما تغره نفسه حتى يعتمد على نفسه وينسى الاستعانة بالله، وهذا يقع لكثير من الناس، حيث يعجب بنفسه ولا يذكر الله - عزَّ وجلَّ - ويستعين به، فإذا رأى من نفسه قوة على الأعمال وحرصًا على النافع وفعلًا له، أعجب بنفسه ونسى الاستعانة بالله،
وإذا حزبك امر فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا
أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كان إذا حزبَهُ أمرٌ قال : لا إلهَ إلا اللهُ الحليمُ العظيمُ لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ العرشِ الكريمِ لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ العرشِ العظيمِ لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ السمواتِ وربُّ الأرضِ وربُّ العرشِ الكريمِ ثم يدعو"(البخاري ومسلم).
فمَنْ عَمِل بتلك الوصيَّةِ وقام بها
على وَجْهِها الأكمَلِ، ثمَّ أصابَتْهُ بعْدَ ذلك مُصيبةٌ، فلا يَقُلْ: «لوْ أنِّي
فَعَلْتُ كان كذا وكذا»؛ فإنَّ هذا القولَ غيرُ سَديدٍ، ولكنْ يَقولُ مُستَسْلِمًا
وراضيًا، ومُؤمِّلًا الخَيرَ:"قَدَّر اللهُ"، أي: وَقَعَ ذلكَ بمُقتَضى قَضائِه
وعلى وَفْقِ قَدَرِه،"وما شاءَ فَعَلَ"؛ فإنَّه فعَّالٌ لِما يُريدُ، ولا رادَّ
لقَضائِه، ولا مُعقِّبَ لحُكمِه.
لو تفتح عمل الشيطان
عباد الله :" وبعْدَ أنْ نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن قَولِ كلمةِ الشَّرطِ "لَوْ"في مِثلِ هذا المَوضِعِ، نَبَّهَ على أنَّها"تَفتَحُ عَمَلَ الشَّيطانِ" مِن مُنازَعةِ القَدَرِ، والتَّأسُّفِ على ما فاتَ؛ لأنَّ فيها الاعتراضَ على القَدَرِ، والتَّحسُّرَ مِن وُقوعِه، كأنْ يقولَ الإنسانُ حِين تَنزِلُ به مُصيبةٌ: لوْ فَعَل كذا ما أصابه المرَضُ! فالمسْلمُ مُطالَبٌ بالتَّسليمِ للقَدَرِ، فما أرادَه اللهُ عزَّ وجلَّ واقعٌ لا مَحالةَ؛ إذْ قَضاءُ اللهِ وقَدَرُه لا يَتخلَّفُ، فما دامَ الإنسانُ قدِ اجتهَدَ في العملِ، وأخَذَ بالأسبابِ، مُستعينًا باللهِ، وطلَبَ الخَيرَ منه سُبحانه؛ فلا عليه بعْدَها إلَّا أن يُفَوِّضَ أمْرَه كلَّه للهِ، ولْيَعلَمْ أنَّ اختيارَ اللهِ عزَّ وجلَّ هو الخَيرُ، حتَّى وإنْ كان ظاهِرُ ما وَقَع له مَكروهًا، ولا يَستطيعُ أحدٌ مِن الخَلقِ دَفْعَ قَدَرِ الخالِقِ عزَّ وجلَّ وتَغييرَه دُونَ إذْنٍ مِنَ اللهِ، وإنِ اجتَمَعَتْ لذلك الدُّنيا بما فيها..
اللهم أتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار