recent
أخبار عاجلة

خطبة الحمعة الحب والإيثار بين المهاجرين والأنصار لفضيلة الشيخ عبد الناصربليح

 الحب والإيثار بين المهاجرين والأنصار 

ضرب الأنصار المثل الأعلى في الحب والإيثار لإخوانهم المهاجرين 

إيثارمن الأنصار وتعفف من المهاجرين

الإيثار في الأموال والأرواح 

- عفة ومرؤة ونصيحة وتناصح 


الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لاإله إلاالله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله  اللهم صلاة وسلاماً عليك ياسيدي يارسول الله وعلي ألك وصحبك وسلم 

أما بعد فياعباد الله:"وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "(الحشر: 9).

عباد الله:" ها نحن نعيش في شهر محرم... ولا زلنا نتذكر أحداث الهجرة النبوية، التي يقف عندها المسلم كل عام يستخلص منها العبر والعظات فيزيده ذلك إيمانًا ويقينًا بعظمة هذا الدين. فهي حدث ضخم تغير به وجه الأرض.

ونقف اليوم مع الحب والإيثار بين المهاجرين والأنصار هذا الحب الذي افتقدناه في زماننا  هذا الحب  المشرف والنادر والعجيب، الذي يشع ضياءً ونورًا وصدقًا وأخوة وإيثارًا وتضحيةً ووفاءً.

هذا الحب وتلك الرحمة التي وصفها المولي عز وجل بقوله:"مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ  تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا  سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ  وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا"(الفتح: 29).

عباد الله:" عندما دخل الإسلام بشاشة قلوب الأنصار رضي الله عنهم كانت منهم المواقف المشرفة الرائعة، التي كان لها الأثر الكبير في نصرة الإسلام والمسلمين.

حتى أن الله - تعالى - مدح مواقفهم العظيمة في سورة الحشر فقال:" وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "(الحشر: 9).

  قال ابن كثير: "قال تعالى مادحاً للأنصار، ومبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حسدهم، وإيثارهم مع الحاجة، فقال:"وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ" أي: سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم"، 

وقال السعدي: "ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم، الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خُلُقٍ زكِّي، ومحبة لله تعالى مقدمة على شهوات النفس ولذاتها".

و أورد الإمام البخاري - رحمه الله- بابًا خاصًا بهم سماه باب مناقب الأنصار،لفضلهم ومكانتهم ذكر فيه مجموعة من الأحاديث الشريفة في فضائلهم (رضي الله عنهم)، منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأَنْصَارُ لاَ يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ" وقال أيضًا: "آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ".

لقد ضرب الأنصار المثل الأعلى في الحب والإيثار لإخوانهم المهاجرين حين قدموا عليهم مهاجرين بدينهم، لا يملكون شيئًا، فقدم لهم الأنصار كل شيء …لقد كان إيثارهم شيء خيالي لا يصدق. عندما خرج المهاجرون من مكة لا يملكون شيئا كل واحد بما يلبسه فقط، وقد كانوا أغنياء، وكانوا تجارًا، أما أهل المدينة فهم زراع، وكان المهاجرين لا يستطيعون العمل بالزراعة.. وأتى المهاجرون، منهم من أتى على قدمه.... لكن ما حصل كان فوق الخيال يقول الصحابة أن ما من مهاجر دخل المدينة، إلا بالقرعة من كثرة تكالب الأنصار على من يأتي من المهاجرين. كل منهم يريد أن يضيفه هو، فكانوا يدخلون بالقرعة.

وقد أشاعت هذه المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في بداية ونشأة المجتمع المسلم الوليد في المدينة المنورة عواطف ومشاعر الحب، وملأته بأروع الأمثلة من حسن الضيافة والاستقبال، والبذل والعطاء، والحب والإيثار، وجعلته جسداً واحداً في السراء والضراء، والآلام والآمال، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:

حب وعطاء: 

عباد الله :" ومن منطلق هذا الحب وهذا العطاء قام الأنصار بعرض نخيلهم على النبي صلى الله عليه وسلم ليقسم الثمر بينهم وبين إخوانهم المهاجرين، ويقومون هم بالعمل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال، "لما قدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله. ما رأينا قوماً أبذل من كثير، ولا أحسن مواساة من قليل، من قوم نزلنا بين أظهرهم، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ (كفونا العمل وأشركونا في الثمر"(الترمذي وصححه ).

 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم:"اقسم بيننا وبين إخواتنا النخيل، قال: لا، فقالوا: تكفونا المؤونة ونشرككُم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا"( البخاري).

 وهذا الحديث يفيد أن الأنصار عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى قسمة أموالهم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين، وقد كانت أموالهم هي النخيل، فأبَىَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أمراً تكون فيه المواساة مع عدم زوال ملكية الأنصار أموالهم منهم، فقال الأنصار للمهاجرين: تكفوننا المؤونة ـ أي العمل في النخيل من سقيها وإصلاحها ـ ونشرككم في الثمرة، فلما قالوا ذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا الرأي ضمن سد حاجة المهاجرين مع الإرفاق بالأنصار فأقرهم على ذلك، فقالوا جميعا: سمعنا وأطعنا.-

إيثارمن الأنصار وتعفف من المهاجرين

عباد الله :" بل انظروا إلى الإيثار إلى أي درجة وصل عند الأنصار؟؟ هذا سيدنا سعد بن الربيع (أنصاري) نزل عليه سيدنا (عبدالرحمن بن عوف) من المهاجرين، قال له يا أخي: هذه أموالي أجمعها لك - جمعها كلها من السوق - أقسمها بيني وبينك، هذا نصفي وهذا نصفك، وهذه هي الأراضي التي أمتلكها أقسمها بيني وبينك، وهذا هو بيتي، وإني متزوج بامرأتين آتي لك بهما حتى ترى أيها تحب لأطلقها لك وتتزوجها بعد أن تفي عدتها، الله اكبر.

وهذا ما روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: "قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبي صلى الله عليه سلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وكان سعد ذا غنى، فقال لعبد الرحمن: أقاسمك مالي نصفين وأزوجك، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فما رجع حتى استفضل أقطاً وسمناً، فأتى به أهل منزله، فمكثنا يسيراً - أو ما شاء الله - فجاء وعليه وضر من صفرةٍ (أثر عطر)، فقال له النبي صلى الله عليه سلم: مهيم (كلمة استفهام أي ما حالك)؟ قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار. قال: ما سُقتَ إليها؟ قال: نواة من ذهبٍ - أو وزن نواة من ذهب ٍ - قال: أوْلِم ولو بشاة). ومن الملاحظ هنا أن عطاء وكرم سعد بن الربيع رضي الله عنه قابله عبد الرحمن بن عوف بنُبْلٍ وعزة نفس، فذهب إلى السوق وتاجر بالقليل، واستطاع بعد أيام قليلة أن يكسب ما ينفق به على نفسه ويتزوج. ولم يكن مسلك عبد الرحمن بن عوف خاصًّا به، بل إن الكثير من المهاجرين كان مكوثهم يسيراً في بيوت إخوانهم من الأنصار ثم باشروا العمل والكسب واشتروا بيوتاً لأنفسهم وتكفلوا بنفقة أنفسهم، ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم. وفي ذلك دلالة على ما كان عليه الأنصار من العطاء والبذل والإيثار بإخوانهم المهاجرين، وما كان عليه المهاجرون من تعفف وتقدير لهذا الكرم حق قدره، فلم يستغلوه ولم ينالوا منه إلا بقدر ما يقيم حياتهم حتى يجدوا سبيلاً للعمل.

بالله عليكم يا مسلمون هل سمعتم بمثل هذه الأخلاق؟ هل شاهدتم مثل هذا الإيثار؟ هل سمعتم بمثل في دنيا اليوم بمثل استقبال الأنصار للمهاجرين؟

تخيل معي كل أنصاري كان يقاسم أخاه المهاجر في كل ما يملك من بيت ومال وملابس وغيرها، حتى زوجة الأنصاري كانت تقاسم زوجة المهاجر بكل ما تملك من ملابس وغيرها!!

والله أنا أتعجب من ذلك... الرجل يقاسم بيته كيف فعل ذلك ولم يخف من لوم زوجته!!... أو كيف أن زوجته لم تعترض عليه!؟ أو كيف أن أولاده الكبار لم يعترضوا عليه!

انه الإيمان والحب والأخوة الصادقة... انه الإيثار، خلق الإيثار الذي اندثر في زماننا.. كم من زوجة وقفت بوجه زوجها ومنعته من الإنفاق في سبيل الله؟ وكم من أولاد منعوا أباهم من أن يجعل له صدقة جارية خوفا من الإقلال؟ وكم من وأب شتم ولده لأنه تصدق في سبيل الله؟.... أين هؤلاء من صنيع الأنصار؟!

بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما هاجر وصحابته إلى المدينة ذهب إلى الأنصار وقال لهم عن المهاجرين: إخوانكم تركوا الأموال والأولاد وجاءوكم، لا يعرفون الزراعة، فهلا قاسمتموهم؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، نقسم الأموال بيننا وبينهم بالسوية - والرسول كان يقصد مساعدتهم فقط - فقال لهم النبي أو غير ذلك؟ فقالوا له وماذا بعد يا رسول الله؟ قال تقاسمونهم الثمر - لأنهم لن يستطيعوا التصرف بالأموال أو الخروج من المدينة لأنها محاصرة فقالوا: نعم يا رسول الله، بمَ يا رسول الله، فقال: بأن لكم الجنة.

أرأيتم ثواب الإيثار - فكان الأنصاري يعمل طوال العام وعندما يثمر الزرع يأخذ التمر ويذهب به إلى المهاجر قبل أن يذهب إلى بيته ….. لم يجلس ليختار الأفضل له ثم يذهب له بالباقي، الله اكبر... أين هذه مثل هذه الأخلاق؟ أين الإيثار في زماننا؟

يذهب بالتمر كله لأخيه ويقول له: اختر ما تشاء، وإني سأتركك ساعة حتى تتخير ما شئت حتى لا يحرجه ثم يعود فيكون المهاجر قد اختار الثمر الغير جيد ويظلوا يتشاجرون، كل منهما لا يوافق أن يأخذ الآخر غير الجيد.

فلما فتحت خيبر وكثر المال قال النبي للأنصار: جزاكم الله خيرًا قد وفيتم بالشروط، فقالوا للنبي يا رسول الله: اشترطت شرطًا واشترطنا شرطًا، وها نحن قد وفينا وإنا لنا عندك الجنة، قال: لكم بما وفيتم.

كان الأنصاري يستضيف أخاه من المهاجرين وليس في بيته من الزاد إلا قوت صبيانه فيؤثره على نفسه وعياله قائلًا لزوجه: نومي صبيانك واطفئي السراج وقدمي ما عندك للضيف ونجلس معه إلى المائدة نوهمه إننا نأكل معه ولا نأكل ويجلسون إلى المائدة ويأكل الضيف وحده ويبيت الزوجان طاويين ويغدو الأنصاري على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول له: (لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة ).

فأنزل الله تبارك وتعالى قوله "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ "(الحشر: 9). خصاصة أي تعب - جوع - فقر - احتياج - لا تجد شيء وتؤثر أخاك.

والله سيبقى صنيع الأنصار منار هداية وإشعاع للإنسانية في تيه المطامع والأثرة والشحّ والإمساك ما اقبل ليل وأدبر نهار ودعي الناس للبذل والسخاء والإيثار.

الإيثار في الأموال والأرواح 

عباد الله :" أتظنون أن الإيثار كان في الأموال فقط أو الديار فقط أو الزوجات فقط بل اسمعوا إلى صنيع الأنصار:

حتي لا تتصور أن الإيثار لا يكون إلا في الأموال فقط، لا ولكن في الأرواح أيضا. هذا عكرمة بن أبي جهل حارب النبي ( 22 سنة) ثم أسلم وحسن إسلامه ومات شهيدًا، ابن أبي جهل مات شهيدًا وبسبب الإيثار، عكرمة كان من ضمن الجرحى في معركة اليرموك، وقد وضع الجرحى جميعهم في مكان ما، حتى تنتهي المعركة، كلما جرح جندي وضعوه هناك. وكان ابن عم عكرمة ممن يسقون الجرحى، فيقول: بحثت عن عكرمة فوجدته في الجرحى يئن، يكاد يموت وبجواره عشرة من المسلمين، فأخذت أجري نحوه لأسقيه وإذا هو يتناول القربة ليشرب سمع صوت أخيه يقول: أنا عطشان فقال: لا والله لا أشرب حتى يشرب أخي، فذهبت إلى الثاني وهو يشرب سمع صوت أخيه يقول آه فقال: لا والله لا أشرب، وذهبت إلى الرابع والخامس و.... حتى وصلت إلى العاشر فقال: لا والله: لا أشرب حتى يشرب عكرمة، فعدت إلى عكرمة، فإذا به مات شهيدا، والى الثاني واذا به قد مات والثالث والرابع كلهم ماتوا ولم يشربوا من هذا الماء..

يا مسلمين:

أخرجوا الشح من بيوتكم، ومن جيوبكم ترزقوا سخاء النفس وتذوقوا حلاوة الإيثار، لذة غريبة كلما أعطيت كأنك أنت الذي أخذت.

وهذا سيدنا جعفر بن أبي طالب مات يوم مؤتة وترك ثلاثة أطفال والصحابة ضعفاء فقراء، ووقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول من يكفل أولاد جعفر؟ يقول الراوي: فخرج ثلاثة من الصحابة يتشاجرون: أنا يا رسول الله، بل أنا يا رسول الله...

يقول الراوي: والثلاثة أفقر من بعضهم البعض - ويريدون أن يأخذوا 3 أولاد أيتام، ونحن الآن إذا مات لأحد أخيه أراد أن يتخلص من ابنه اليتيم، ويلقى به على الأخ الأخر، ويضيع الولد.

لكن جعفر بن أبي طالب كان لديه خلق الإيثار ولذلك أراد الله أن يبارك له في أولاده ويتربوا جيدا، حتى أن النبي سماه: أبو المساكين.

فعلى المسلم أن يعلم أن الإيثار رأس كل سعادة وقوام كل خلق طيب... والله لن يستشعر المجتمع الطمأنينة ولا الأمان ولا الاستقرار إلا إذا اتبع خلق الإيثار وبدونه لن نستطيع أن نسلك إلى الله سبيلا ولا نجد من الله عونا وتثبيتا. ولو دققنا النظر لوجدنا أن عدم وجود الإيثار وحده كفيل بأن يكون سببا في هدم البيوت وتشريد الأسر وضياع الأمم وعداوة الخلق لبعضهم البعض.

و يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

ليكن هذا هو شعار كل مسلم ينتمي إلى قافلة يقودها سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى نكون من الفائزين في الدنيا والآخرة فحياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام مهاجرين وأنصار مليئة بالنماذج والأمثلة الرائعة التي يظهر فيها أثر الأخوة والحب، والعطاء والإيثار، فقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على أن المسلمين جميعاً إخوة، وأكد على ذلك في مواقف وأحاديث كثيرة، فقال صلى الله عليه وسلم:"المسلم أخو المسلم، لا يظلِمه ولا يخذله، ولا يحقره"(مسلم)، وقال: "المسلم أخو المسلِمِ لا يخونه ولا يَكذِبه ولا يخذله، كلُّ المسلم على المسلم حرام، عِرْضه وماله ودمه"(الترمذي وصححه).

أقول قولي هذا واستغفر الله..

الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد فلازلنا نواصل الحديث حول الحب والإثار بين المهجرين والأنصار وبحق فقد

عفة ومرؤة

شهد النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار بالعفة والمرؤة في ضيافتهم وأخوتهم مع المهاجرين، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما ضرَّ امرأةً نزلت بين بيتيْن من الأنصار، أو نزلت بين أبويْها"(أحمد). وكان صلى الله عليه وسلم يقول عن الأنصار: "وأنتم معشرَ الأنصارِ فجزاكمُ اللهُ خيراً، فإنَّكم ما علمتُ أعفةٌ (جمع عفيف) صُبُرٌ (جمع صابر"(صحيح).

 نصيحة وتناصح:

عباد الله:" ومن مظاهر وصور المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار النصيحة والتناصح، النصيحة بين المتآخين في الله كان للمؤاخاة الأثر الكبير في التناصح بين المسلمين.فعن أبي جحيفة عن أبيه قال: " آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمانُ أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذّلة (لابسة ثياب العمل تاركة للزينة وذلك قبل نزول الحجاب)، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال له: كل، قال: فإِني صائم! قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل! فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن: فصليّا، فقال له سلمان: إِن لربّك عليك حقاً! ولنفسك عليك حقاً! ولأهلك عليك حقاً! فأعط كل ذي حقّ حقّه! فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان"(البخاري).

التوارث بين المهاجرين والأنصار:

عباد الله :" بلغ من تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أن ميراث الأنصاري كان يؤول بعد وفاته إلى أخيه المهاجر كذوي رحمه، وقد استمرّ العمل بذلك زمناً، حتى فتح الله لهم أبواب الخير من غنائم الحرب وغيرها، فنسخ الله تعالى العمل بهذا الحكم، وأرجع نظام الإرث إلى ما كان عليه، فقد ذكر ابن سعد في الطبقات عن موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين بعضهم لبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار. آخى بينهم على الحق والمواساة، ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام.. فلما كانت وقعة بدر وأنزل الله تعالى: "وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ"(الأنفال:75)، فنسخت الآية ما كان قبلها، وانقطعت المؤاخاة في الميراث، ورجع كل إنسان إلى نسبه وورثه ذوو رحمه".

الحب في الله والقضاء على الفوارق الجاهلية

عباد الله:" فوارق الجاهلية من التفاخر بالنسب والقبيلة والجاه وغير ذلك مما كان سائدا حينئذٍ في تلك المجتمعات، حيث سادت العصبية وكانت دينا عندهم، فكان من أهداف المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إذابة هذه الفوارق، لأنها أمراض وآفات تضعف المجتمع، وتحول بينه وبين القوة والتمكين، لأنه مِن الصعب بل من المستحيل أن تُستأنف حياة إسلامية عزيزة قوية إذا لم يحدث التآخي بين أفراد المجتمعات والأمة الإسلامية، ومن ثم كانت المؤاخاة نعمة من نعم الله عز وجل، ومِن أسباب القوة والعزة والثبات أمام الأعداء، قال الله تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"(آل عمران:103) ..

والمؤاخاة على الحب في الله مِنْ أقوى الدعائم في بناء الأمة الإسلامية، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعميق هذا المعنى في المجتمع المسلم الجديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي" ( مسلم). فبالحب في الله أصبحت المؤاخاة عقدا نافذا لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال، لا كلمة تنطق بها الألسنة، ومن ثم كانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثلة..

لقد ساهمت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في تقوية المجتمع المسلم الجديد في المدينة المنورة، وبتحقيقها ذابت العصبية وحظوظ النفس، فلا ولاء إلا لله ورسوله والمؤمنين، وأشاعت في المجتمع عواطف ومشاعر الحب، وملأته بأروع الأمثلة مِنَ الأخوة والعطاء، والتناصح والإيثار، وجعلته جسدا واحدا في السراء والضراء، والآلام والآمال، ومِن هنا كانت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في جَعْل أول عمل يقوم به حين مقدمه المدينة، - بعد بناء المسجد - تأسيسه للمجتمع على المؤاخاة، والتي كانت حلا لكثير من المشاكل، وأهلَّت المسلمين ليكونوا أقوى أمة على الأرض.. فما أحوجنا إلى التحقق بهذه المؤاخاة للصمود في وجه الأعداء، ومواجهة التحديات التي تواجه أمتنا في هذه الأيام..ا

من لم يشكر الناس لم يشكر الله

عباد الله:" شكر المهاجرون للأنصار فعلهم ومواقفهم الرفيعة في الكرم والإيثار، وقالوا:"يا رسول الله ما رأينا قوما أَبْذَلَ من كثير ولا أحسن مُوَاسَاةً من قلِيلٍ من قومٍ نزلنا بين أَظْهُرِهِمْ لقد كَفَوْنَا الْمُؤنة وأشركونا في المهنأ،حتى لقد خِفْنا أن يذهبوا بالأجركله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا،ما دعوتم الله لهم وَأَثْنَيْتُمْ عليهم"(الترمذي وصححه).

 قال الطيبي: "يعني: إذا حملوا المشقة والتعب علي أنفسهم، وأشركونا في الراحة والمهنأ، فقد أحرزوا المثوبات، فكيف نجازيهم؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم:"لا، أي: ليس الأمر كما زعمتم، فإنكم إذا أثنيتم عليهم شكراً لصنيعهم ودمتم عليه، فقد جازيتموهم".

لقد حققت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أهدافها من تكافلٍ اجتماعي لم يُرَ ولم يُعْرَف له مثيل في التاريخ، ومن إذهاب وحشة الغربة للمهاجرين، ومؤانستهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ومن نهوضٍ وقوة للدولة المسلم الجديدة في المدينة المنورة، وقد نجحت وقويت هذه المؤاخاة ـ بفضل الله ـ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقامها على الإيمان والعقيدة، وجعلها واقعاً عملياً، من إيواءٍ وتكافل ونُصْرة، ومن ثم ظهرت هذه الصور والأمثلة الرائعة من الحب والأخوة والإيثار بين المهاجرين والأنصار.

 

 

google-playkhamsatmostaqltradent