recent
أخبار عاجلة

متي يكون طلب الدنيا والغني حلالاً ؟

 

متي يكون طلب الدنيا والغني حلالاً ؟


طلب الدنيا حلالاُ استعفافاُ عن المسألة

طلب الأمن والصحة والعافية

 فلا بأسَ بالغِنى لمنِ اتَّقى اللهَ

الدنيا لمن صدقت  نيته لفعل الخير


ذكرت الدنيا في القرآن الكريم مذمومة أكثر من مائة مرة وفي عشرات الحاديث التي حذرت من الدنيا والجري خلفها ولكن في هذا المقال سنتعرف علي أمور تكون فيها طلب الدنيا محموداً ومنها :"

طلب الدنيا حلالاُ استعفافاُ عن المسألة

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا اسْتِعْفَافًا عَنِ الْمَسْأَلَةِ ، وَسَعْيًا عَلَى أَهْلِهِ ، وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ ، لَقِيَ اللَّهَ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا مُكَاثِرًا بِهَا حَلَالًا مُرَائِيًا ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"(البيهقي في ( شعب الإيمان ) ، وأبو نعيم في ( الحلية ).

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من طلب الدنيا حلالاً " ) أي : من طريق حلال" استعفافا "أي : لأجل طلب العفة" عن المسألة ": ففي النهاية الاستعفاف طلب العفاف والتعفف ، وهو الكف عن الحرام والسؤال من الناس " وسعياًعلى أهله " أي : لأجل عياله ممن يجب عليه مؤنة حاله"وتعطفا على جاره " إحسانا عليه بما يكون زائدا لديه" لقي الله تعالى يوم القيامة ووجهه "أي : والحال أن وجهه من جهة كمال النور وغاية السرور" مثل القمر ليلة البدر ": قيد به لأنه وقت كماله ، وفيه إشارة خفية إلى أن هذا النور له ببركة المصطفى المنزل عليه : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى فإن طه أربعة عشر بحساب أبجد الذي لا يعرفه الأب والجد ، وهذا يوم لا ينفع ذا الجد منك الجد ." ومن طلب الدنيا حلالا "أي : فضلا عن أن يطلب حراماص" مكاثراً " أي : حال كونه طالبا ًكثرة المال لأحسن الحال ولا صرفه في تحسين المآل " مفاخرا " أي : على الفقراء كما هو دأب الأغبياء من الأغنياء"مرائيا "أي : أن فرض عنه صدور خير أو عطاء" لقي الله تعالى وهو عليه غضبان ": ولعله صلى الله عليه وسلم لم يذكر من طلب الحرام ، إما اكتفاء بما يفهم من فحوى الكلام ، وإما إيماء إلى أنه ليس من صنيع أهل الإسلام ، أو إشعارا بأن الحرام أكله وقربه حرام ، ولو لم يكن هناك طلب ومرام . قال الطيبي رحمه الله : وفي حديث معنى قوله تعالى :"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"وهما عبارتان عن رضا الله تعالى وسخطه ، فقوله :ووجهه مثل القمر مبالغة في حصول الرضا بدلالة قوله : في مقابلته وهو عليه غضبان(البيهقي في شعب الإيمان ، وأبو نعيم في الحلية ) .

إنَّ مَن يعملُ بجِدٍّ ونَشاطٍ وهدفُهُ أنْ يكونَ عُضواً نافِعاً في المُجتَمَعِ، ويحصلُ على المالِ عَنْ طريقِ مشروعٍ ما، ويُؤمِّنُ حياتَهُ وحياةَ عائلتِهِ بشَرفٍ ولا يحتاجُ للنّاسِ، ويكونُ عزيزَ النفسِ فإنَّ الإسلامَ ينظرُ إليهِ نظرةَ احترامٍ وتكريمٍ.

عَنِ النبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ) إنّهُ قالَ: (مَن طلبَ الدّنيا حَلالاً، إستعفافاً عن المسألةِ وَسعياً على عِيالِهِ وتَعطُّفاً على جارِهِ لَقِيَ اللهَ ووجهُهُ كالقمرِ ليلةَ البَدرِ).

الإسلامُ دينُ الشَّرفِ والفَضيلةِ وعزّةِ النفسِ والحريَّةِ، ومَنْ أرادَ أنْ يكونَ مُسلِماً حقيقياً، ويتِّبعُ بشَكلٍ تامٍّ تعاليمَ الإسلامِ، عليهِ أنْ يبتعِدَ عنِ الذلَّةِ والحَقارَةِ، وأنْ لا يتنازلَ عَن حرّيتِهِ مقابلَ أيِّ شيءٍ.

 

رُوِيَ أنَّ أميرَ المؤمنينَ (عليهِ السَّلامُ) مَرَّ بقصّابٍ وعندَهُ لحمٌ سَمينٌ، فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ هذا اللحمُ سَمينٌ اشتَرِ مِنهُ. فقالَ (عليهِ السَّلامُ): (ليسَ الثمنُ حاضِراً. فقالَ: انا أصبِرُ يا أميرَ المؤمنينَ. فقالَ لَهُ: انَا أصبِرُ عن اللّحمِ).

رَغمَ أنَّ التعامُلَ التجاريَّ بـ (الدَّينِ) مَسموحٌ بهِ في الإسلام، ولكنَّ الإنسانَ العزيزَ النّفسِ لا يقومُ بهذا العَملِ إلّا عندَ الضّرورةِ، لأنَّ (المَدينَ) طالمَا لم يدفَعْ دَينَهُ فإنّهُ يشعرُ دائماً بأنّهُ مُقَيّدٌ، والأحرارَ الأُباةَ يشعرونَ بثِقلِ الدَّينِ حتّى ولَو كانَ قليلاً؛ لأنّهُ يَنالُ من عِزَّتِهِم واستقلالِهم.

ولسوءِ الحَظِّ فإنَّ أشخاصاً في عَصرِنا هذا - بسببِ طَمَعِهِم في التّجارةِ أو لحُبِّهم للتّجَمُّلِ والمُفاخَرَةِ في العائلةِ، يقومونَ بشراءِ أشياءَ بالدّفع ِالمؤجّلِ، أيْ الأقساطِ ، فيحملونَ على عاتِقِهم التزاماً ثَقيلاً، ويشغلونَ أفكارَهُم، ويتنازلونَ عَنْ حُرّيَتِهِم، وقَد يعجزونَ أحياناً عَنْ دَفعِ الأقساطِ ، فيذهَبُ حياؤُهُم ويتوسلونَ للدائنِ ويطلبونَ منهُ مُهلةً للدّفعِ ، ويُعَرِّضونَ بذلكَ أنفُسَهُم للذِلّةِ والمَهانَةِ.

ومِن الواضحِ أنَّ الإمامَ عليّاً (عليهِ السّلامُ) عندَما يأبَى -لتأمينِ غذاءِ يومِهِ- شراءَ اللّحمِ بالدّينِ، مَهما كانَ قَليلاً، فإنّهُ يستاءُ عندَما يَرى إنساناً يتخلّى عَنِ العَمَلِ رغمَ استطاعَتِهِ ويلتَجئُ الى طريقِ الذُّلِّ للحصولِ على قوتِهِ اليوميِّ. إنَّ أولياءَ الإسلامِ الكرامَ، ولكي يَصُونوا اتباعَهُم من ذُلِّ السؤالِ ويحتفظوا بالشَّرفِ وعِزَّةِ النفسِ، يوصونَهُم بالعَملِ في أصعبِ الظروفِ والشروطِ لتأمينِ لُقمَةِ العَيشِ والاستغناءِ عَنِ الآخرينَ.


طلب الأمن والصحة والعافية

نِعَمُ اللهِ سبحانه وتعالى على عِبادِه كثيرةٌ لا تُحصَى، والرِّزقُ مُتعدِّدٌ متنوِّعٌ؛ فليس الرِّزقُ مَحصورًا في المالِ فقط، يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :"مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ ، مُعافًى في جسدِهِ عندَهُ قوتُ يومِهِ ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا"الترمذي واللفظ له، وابن ماجه).

 وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مُعلِّمًا أصحابَه وأُمَّتَه مِن بَعدِهم: "مَن أصبَح مِنكم"، أي: أيُّ عبدٍ كان: "آمِنًا في سِرْبِه"، أي: توفَّر له الأمانُ على نفْسِه أو على أهلِه وجَماعتِه، وقيل: السِّربُ هو السَّبيلُ أو الطَّريقُ، وقيل: البيتُ، "مُعافًى في جسَدِه"، أي: تَحصَّلَت له العافيةُ في الجسَدِ فسَلِم مِن المرَضِ والبلاءِ وكان صَحيحًا، "عندَه قوتُ يومِه"، أي: وتوفَّر له رِزقُ يومِه وما يَحتاجُه مِن مَؤونةٍ وطعامٍ وشرابٍ يَكْفي يومَه، "فكأنَّما حِيزَتْ له الدُّنيا"، أي: فكَأنَّما مَلَك الدُّنيا وجمَعها كلَّها؛ فمَن توَفَّر له الأمانُ والعافيةُ والرِّزقُ لا يَحتاجُ إلى شيءٍ بعدَ ذلك، فكان كمَن ملَك الدُّنيا، وجمَعها، فلا يَحتاجُ إلى شيءٍ آخَرَ، وعلى العبدِ أنْ يحَمْدَ اللهَ تعالى ويشُكرَه على هذه النِّعمِ.

نعم هذا حديثٌ عظيمٌ كأنما من كانت عنده هذه الأمور الأربعة:"آمِنًا فِي سِرْبِهِ" يعني في مسكنه ومنزله ومن حوله، الصفة الثانية: "مُعَافًى فِي جَسَدِهِ"من الآفات والأمراض المقلقة والمزعجة، هذا تمتَّ عليه النعمة؛"آمِنًا فِي سِرْبِهِ" لا يخاف من الأعداء، "مُعَافًى فِي جَسَدِهِ"من الأمراض المقلقة والمزعجة "عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ": عنده غداءه أوعشاءه،

 "فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا" لأنه اجتمعت له النعم والمتطلبات، وتمكن من الانتفاع بها، فهذه نعمةٍ عظيمة تكاملت في حقه النعمة، وهذه كلها والحمد لله الآن متوفرة لنا، فعلينا أن نشكر اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- بأن نستعمل هذه النعم في طاعة الله، ولا نبطر نعمة الله أو نتكبر أو نستعمل هذه النعم في معصية الله، وفي الإسراف والتبذير والبذخ وغير ذلك، "آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ" لأن الإنسان لا يدري هل يعيش بعد يومه هذا أو لا،لكن عنده ما يؤمّن يومه الذي هو فيه، واليوم الثاني والثالث يأتي الله بأرزاقها ولا ينسى عباده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-"وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا"، فهذه النعم متوفرةٌ عندنا الآن ولله الحمد، عندنا الأمن، وعندنا الرزق متوفر وعندنا أيضًا العافية في الأبدان، من الأمراض المزعجة والمقلقة، هذه نعمٌ عظيمة، الدنيا كلها تنبني على هذه الأمور .

وفي الحديثِ: بيانُ ضَرورةِ حاجةِ الإنسانِ إلى الأمانِ والعافيةِ والقوتِ.

 فلا بأسَ بالغِنى لمنِ اتَّقى اللهَ

عن رجلٍ من أصحابِ النبيِّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ -، قال : كنا في مجلسٍ، فطلع علينا رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - ؛ وعلى رأسهِ أثرُ ماءٍ، فقلنا : يا رسولَ اللهِ نراك طيِّبَ النفسِ، قال : أجلْ، قال، ثم خاض القومُ في ذكر الغِنى، فقال: فلا بأسَ بالغِنى لمنِ اتَّقى اللهَ - عز وجل - ؛ والصحةُ لمنِ اتَّقى خيرٌ منَ الغِنى، وطيبُ النفسِ منَ النعيمِ "(ابن ماجه إسناده صحيح).

الإسلامُ دِينُ السَّماحةِ واليُسرِ، وعدَمِ التَّشدُّدِ في كلِّ الأمورِ؛ فعلى المسلِمِ أن يَعيشَ في الدُّنْيا بما شرَعه اللهُ له مِن التَّكسُّبِ الحَلالِ والغِنى الحلالِ مع أداءِ حُقوقِ اللهِ وحُقوقِ العِبادِ في ذلك كلِّه.

وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ مُعاذُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ خُبيبٍ، عن أبيه، عن عَمِّه رَضِي اللهُ عنه، قال: "كنَّا في مَجلِسٍ فجاء النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وعلى رأسِه أثَرُ ماءٍ"، أي: مِن غَسْلٍ، "فقال له بَعضُنا: نَراك اليومَ طيِّبَ النَّفسِ؟"، أي: يَظهَرُ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم الفرَحُ والسُّرورُ وانشِراحُ الصَّدرِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أجَلْ والحَمدُ للهِ"، قال الرَّاوي: "ثمَّ أفاض القومُ في ذِكْرِ الغِنى"، أي: جعَلوا يتَكلَّمون بالذَّمِّ في الغِنى وكَثْرةِ المالِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "لا بأسَ"، أي: لا حرَجَ ولا إثمَ ولا مانِعَ، "بالغِنَى لِمَن اتَّقى"، أي: لا بأْسَ بالغنى إذا كان يُصاحِبُه التَّقوى؛ لأنَّ الغِنى بغَيرِ تَقْوى هلَكةٌ؛ يَجمَعُه مِن غيرِ حقِّه، ويمنَعُه مِن حقِّه، ويضَعُه في غيرِ حقِّه، فلا بأسِ لِمَن جمَع بينَ طلَبِ الرِّزقِ والعمَلِ للآخرةِ. "والصِّحَّةُ لِمَن اتَّقى خيرٌ مِن الغنى"، أي: إنَّ استِغْناءَ الإنسانِ بصِحَّتِه أفضَلُ مِن استِغْنائِه بالمالِ، "وطِيبُ النَّفْسِ مِن النَّعيمِ"، أي: انشِراحُ الصَّدرِ المقتَضي للشُّكرِ، والصَّبرُ الَّذي يَسْتوي عِندَ المتحلِّي به الغِنى والفَقْرُ، وفيه مِن الرِّضى والقَناعةِ، فإنَّ الإنسانَ يَنعَمُ بذلك عمن أكثَرَ ممَّن له مِن الغنى ولا يَقدِرُ على التَّنعُّمِ به.


الدنيا لمن صدقت  نيته لفعل الخير

قال صلي الله عليه وسلم :"ثلاثةٌ أقسِمُ عليْهنَّ وأحدِّثُكم حديثًا فاحفظوهُ قالَ ما نقصَ مالُ عبدٍ من صدقةٍ ولا ظلِمَ عبدٌ مظلمةً فصبرَ عليْها إلَّا زادَهُ اللَّهُ عزًّا ولا فتحَ عبدٌ بابَ مسألةٍ إلَّا فتحَ اللَّهُ عليْهِ بابَ فقرٍ أو كلمةً نحوَها وأحدِّثُكم حديثًا فاحفظوهُ فقالَ إنَّما الدُّنيا لأربعةِ نفرٍ عبدٍ رزقَهُ اللَّهُ مالًا وعلمًا فَهوَ يتَّقي ربَّهُ فيهِ ويصلُ فيهِ رحمَهُ ويعلمُ للَّهِ فيهِ حقًّا فَهذا بأفضلِ المنازلِ وعبدٍ رزقَهُ اللَّهُ علمًا ولم يرزقْهُ مالًا فَهوَ صادقُ النِّيَّةِ يقولُ لو أنَّ لي مالًا لعملتُ بعملِ فلانٍ فَهوَ بنيَّتِهِ فأجرُهما سواءٌ وعبدٍ رزقَهُ اللَّهُ مالًا ولم يرزقْهُ علمًا يخبطُ في مالِهِ بغيرِ علمٍ لا يتَّقي فيهِ ربَّهُ ولا يصِلُ فيهِ رحمَهُ ولا يعلمُ للَّهِ فيهِ حقًّا فهو بأخبَثِ المنازلِ وعبدٍ لم يرزقْهُ اللَّهُ مالًا ولا علمًا فَهوَ يقولُ لو أنَّ لي مالًا لعملتُ فيهِ بعملِ فلانٍ فَهوَ بنيَّتِهِ فوزرُهما سواءٌ"(صحيح الترمذي).

من الأعمالِ العظيمةِ التي تُقرِّبُ إلى اللهِ تعالى: التصدُّق بالمالِ، والعفوُ عن الظُّلمِ، والتعفُّف عمَّا في أيدي الناسِ، والنِّيَّةُ الصَّالحةُ تُبلِّغُ صاحبَها المنازِلَ العاليةَ، وهي سببٌ لنيلِ الأَجرِ والثَّوابِ الكبيرِ، متى كانتْ صادِقةً وخالصةً للهِ تعالى وفيما يُرْضي اللهَ؛ والنيِّةُ الفاسدةُ تَكونُ على العَكسِ من ذلك.

وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "ثلاثةٌ أُقسِمُ عَليهِنَّ"، أي: أحلِفُ علَيهنَّ، والمرادُ: أنَّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وهو الصَّادقُ المصدوقُ، يُخبِرُ عن ثلاثةِ أمورٍ يُؤكِّدُهنَّ بالقسَمِ؛ وذلك بيانٌ لأهمِّيتِهنَّ والحرصِ علَيهِنَّ، ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم"، وأُحَدِّثُكم حَديثًا فاحفَظوه"، وهذا لِمَزيدِ التأكيدِ على أهميَّةِ ما يَقولُ، وقيل: بل هو إخبارٌ عن أهمِّيَّةِ حديثٍ آخَرَ غيرِ الَّذي يُقْسِمُ عليه، ثمَّ أخبَرهم صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فقال: "ما نقَص مالُ عبدٍ مِن صدَقةٍ"، أي: ما قَلَّ مالُ عبدٍ مسلِمٍ تصَدَّق به، بل يُبارِكُ اللهُ له فيه، أو بما وعَدَه مِن مُضاعفةِ الثَّوابِ والأجرِ يومَ القِيامةِ، ثمَّ أخبر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عن الخَصْلَةِ الثَّانيةِ، وهي: "ولا ظلَم عَبدٌ"، أي: تعرَّض عبدٌ لظُلمٍ "في مَظلِمةٍ"، أي: في قولٍ وفعلٍ، "فصبَر عليها"، أي: كان صابِرًا على هذا الظُّلمِ، بأنْ صفَح وعفَا، "زادَه اللهُ عِزًّا"، أي: كان جَزاؤُه أن يَزيدَه اللهُ بهذا العفوِ والصَّبرِ عِزًّا وشرَفًا، ومكانةً عاليةً، ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "ولا فتَح عبدٌ بابَ مسأَلةٍ"، أي: بأن يَمُدَّ يدَه، ويسأَلَ النَّاسَ لِيَستكثِرَ مِن أموالِهم في غيرِ حاجةٍ أو ضرورةٍ، "إلَّا فتَح اللهُ عليه بابَ فقرٍ"، أي: إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَفتَحُ عليه بابَ احتياجٍ، أو يَسلُبُ مِنه ما أنعَم به عليه، "أو كَلِمةً نَحْوَها"، أي: كلمةً في مَعناها.

ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "وأُحَدِّثُكم"، أي: وأُخبِرُكم حديثًا، "فاحفَظوه"، أي: لَعلَّ اللهَ تَعالى أنْ يَنفعَكم به، "إنَّما الدُّنيا لأربعةٍ"، أي: إنَّ الدُّنيا يَعيشُ فيها أربعةُ أصنافٍ وأقسامٍ مِن النَّاسِ؛ الأوَّلُ: "عبدٌ رزَقه اللهُ مالًا وعِلمًا"، أي: رجلٌ مُسلِمٌ أعطاه اللهُ المالَ والعِلمَ، "فهو يتَّقي ربَّه فيه"، أي: يُنفِقُه فيما أمرَه اللهُ، والتَّقْوى: هي أنْ تَجعَلَ بينَك وبينَ عذابِ اللهِ وِقايةً؛ باتِّباعِ أوامِرِه واجتِنابِ نَواهيه، "ويَصِلُ فيه رَحِمَه"، أي: يُنفِقُ هذا المالَ في الإحسانِ إلى ذَوِي رَحِمِه وأقاربِه، "ويَعلَمُ للهِ فيه حقًّا"، أي: في المالِ، والمرادُ به إخراجُ زَكاتِه، وقيل: بل المالُ والعِلمُ معًا، فهو يتَصرَّفُ بهم على الوجهِ المرضيِّ للهِ عزَّ وجلَّ، "فهذا بأفضَلِ المنازِلِ"، أي: فهذا مَن يَنالُ الدَّرَجاتِ العُليا، والثَّوابَ الجزيلَ.

ثمَّ ذكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم الصِّنفَ الثَّانيَ، فقال: "وعبدٌ رزَقه اللهُ عِلمًا"، أي: أعطاه اللهُ العِلمَ والفِقهَ في الدِّينِ، "ولم يَرزُقْه مالًا" أي: ولم يُعطِه المالَ، "فهو صادِقُ النِّيَّةِ"، أي: مُخلِصٌ في قَصدِه للهِ تعالى، "يقولُ: لو أنَّ لي مالًا"، أي: لو أنَّ اللهَ أعطاني المالَ، "لعَمِلتُ بعمَلِ فُلانٍ"، أي: لكنتُ أعرِفُ حقَّ اللهِ في هذا المالِ مِن شُكرِ هذه النِّعمةِ، وتصَدَّقتُ على الفُقراءِ، ووصَلتُ به رَحِمي؛ "فهُو بنِيَّتِه"، أي: مَجزِيٌّ بهذا القَصدِ الصَّادقِ الَّذي نَواه إنْ أعطاه اللهُ سبحانه وتعالى المالَ، "فأَجْرُهما سَواءٌ"، أي: مَن رُزِق المالَ وعرَف حقَّ اللهِ فيه، ومَن لم يُعطِه المالَ، لكنَّه أخلَص النِّيَّةَ، فهما مُتَساوِيانِ في الأجرِ والثَّوابِ.

ثمَّ ذكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم الصِّنفَ الثَّالثَ، فقال: "وعبدٌ رزَقه اللهُ مالًا"، أي: آتاه اللهُ المالَ، "ولَم يَرزُقْه عِلمًا"، أي: ولم يُعطِه العِلمَ، "فهو يَخبِطُ في مالِه"، أي: يَستَخدِمُ هذا المالَ ويتَصرَّفُ فيه "بغيرِ علمٍ"، أي: عن جَهلٍ، "لا يتَّقي فيه ربَّه"، أي: فهو لا يَخافُ اللهَ في مالِه، "ولا يَصِلُ فيه رَحِمَه"، أي: ويكونُ قاطِعًا به صِلةَ الرَّحمِ لا يُنفِقُ منه شيئًا، "ولا يَعلَمُ للهِ فيه حقًّا"، أي: ولا يُؤدِّي شُكرَ هذه النِّعمةِ، "فهو"، أي: هذا الصِّنفُ مِن النَّاسِ "بأخبَثِ المنازلِ"، أي: يكونُ في أحقَرِ مكانةٍ عندَ اللهِ تعالى؛ لأنَّه ارتكَب إثمًا بما أتْلَف، وضيَّع مِن مالِه بغيرِ علمٍ.

ثمَّ ذكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم الصِّنفَ الرَّابعَ، فقال: "وعبدٌ لم يَرزُقْه اللهُ مالًا ولا علمًا"، أي: والصِّنفُ الرَّابعُ مِن النَّاسِ هو عبدٌ لم يُؤتِه اللهُ مالًا ولم يُعطِه عِلمًا "فهو يقولُ"، أي: هذا الرَّجلُ الَّذي فقَد المالَ والعِلمَ: "لو أنَّ لي مالًا"، أي: لو أُعطِيتُ المالَ "لعَمِلتُ فيه بعمَلِ فلانٍ"، أي: لأنفَقتُه على الشَّهواتِ والحُصولِ على الملذَّاتِ، "فهو بنِيَّتِه"، أي: إنَّه يُعاقَبُ بهذا القصدِ السَّيِّئِ "فوِزْرُهما سَواءٌ"، أي: يَكونان في الإثمِ والذَّنبِ مُتَساوِيَين.

وهذا الحديثُ لا يُنافي خبَرَ: "إنَّ اللهَ تَجاوَزَ عن أُمَّتي ما وَسوسَت به صُدورُها، ما لم تَعمَلْ به"؛ لأنَّه عَمِلَ هنا بالقولِ اللِّسانيِّ، والمتجاوَزُ عنه هو القولُ النَّفسانيُّ، وقيل: لأنَّ هذا إذا لم يُوطِّنْ نفْسَه ولم يَستَقِرَّ قلبُه بفِعْلِها، فإنْ عزَم واستقرَّ يُكتَبُ مَعصيةً وإن لم يَعمَلْ ولم يتَكلَّمْ.

وفي الحديثِ: مِن محاسنِ الأسلوبِ النبويِّ: استخدامُ أسلوبِ التَّشويقِ في التَّعليمِ.

وفيه: الحثُّ على الإنفاقِ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والعَفوِ والصَّفحِ على مَن ظُلِم.

وفيه: التَّحذيرُ والتَّرهيبُ مِن سؤالِ النَّاسِ أموالَهم في غيرِ حاجةٍ أو ضرورةٍ.

وفيه: فضلُ العِلمِ والمالِ إذا أُقيمَ فيهِما بما يُرْضي اللهَ عزَّ وجلَّ.

يقول ابن القيم في طريق الهجرتين: قاعدة الشريعة: أن العزم التام، إذا اقترن به ما يمكن من الفعل، أو مقدمات الفعل، نزل صاحبه في الثواب والعقاب، منزلة الفاعل التام، كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه". وفي الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً، فهو يتقي في ماله ربه، ويصل به رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وعبد رزقه الله علماً، ولم يرزقه مالاً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، وهما في الأجر سواءٌ، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، فهو لا يتقي في ماله ربه، ولا يصل به رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأسوأِ المنازل عند الله، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، وهما في الوزر سواءٌ"، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن وزر الفاعل والناوي الذي ليس مقدوره إلا بقوله دون فعله، سواءٌ؛ لأنه أتى بالنية، ومقدوره التام، وكذلك أجر الفاعل والناوي الذي اقترن قوله بنيته. وكذلك المقتول الذي سل السيف، وأراد به قتل أخيه المسلم فقتل، نزل منزلة القاتل لنيته التامة التي اقترن بها مقدورها من السعي والحركة. 

google-playkhamsatmostaqltradent