حرمة الاعتداء علي المال العام
تعريف المال العام وحكم الاعتداء عليه
من صور الاعتداء علي المال العام
كيفيَّة التوبة من سرقة المال العام
الحمد لله
رب العالمين واشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له في سلطانه وأشهد أن سيدنا
ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه القائل:" لا إيمان لمن لا أمانة له , و لا دين لمن لا عهد
له " اللهم صلاة وسلاماً عليك ياسيدي يارسول الله وعلي آلك وصحبك أجمعين أما بعد
فياعبادالله
يقول
الله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ "(الأنفال/27).
عباد الله
حديثنا إليكم اليوم عن حرمة المال العام
تعريف المال العام وحكم الاعتداء عليه
والمال
هو أحد مقاصد الشريعة الخمسة التى أمر الله تعالى بالحفاظ عليها و الدفاع عنها لكى
تستقيم الحياة للأمم و الشعوب و الأفراد , و هذه المقاصد هى : الدين و المال و
العقل و النفس و العرض , و نظراً لما يترتب على التفريط فيها من آثار اقتصادية و
أخلاقية و اجتماعية تضر بالفرد والمجتمع و تضيع حقوقه و تسيئ إلى حاضره و مستقبله,
فضلاً عن سخط الله و غضبه و حلول نقمته و عقابه فى الدنيا و الآخرة , فقد شدد
سبحانه العقوبة على من ينتهك حرمتها , فجعل القتل عقوبة القاتل و المرتد عن دينه ,
و قطع اليد عقوبة السارق , و الجلد عقوبة شارب الخمر, و الرجم عقوبة الزانى , هذا
عن عقاب الدنيا , أما فى الآخرة فقد توعد رب العزة بأغلظ العذاب فقال تعالى (له فى
الدنيا خزى و نذيقه يوم القيامة عذاب الحريق
المال العام هو كل ما تملكه الدولة و أجهزتها و شركاتها و بنوكها من أموال سائلة
أو عينية كالمبانى و الأراضى و الآلات و المعدات و الأجهزة و الآثار , و وسائل النقل
و الخدمات و المرافق و غيرها مما هو مخصص للمنفعة العامة , و انتهاك حرمة المال
العام يأخذ ست صور هى الغلول – الرشوة – الإسراف- الإهمال – الإختلاس – التدليس
حكم الاعتداء على المال العام:
عباد الله :"
إنَّ مِن أخطَر القضايا التي تُهدِّد الأمنَ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الاعتداء على المال العام، والتي أخَذتْ صُوَرًا شتَّى؛ منها: السَّرِقات، والاختِلاسات، والرِّشوة، والغلول، وخيانة الأمانة، والتعامل بالربا، فالله - عزَّ وجلَّ - حَذَّرنا من هَدْره وصَرْفه في غير حِلِّه؛ كما قال: النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -:"إنَّ الله حرَّم عليكم عقوقَ الأُمَّهات ووَأْدَ البَنَات، ومَنْعًا وهَات، وكَرِه لكم قِيل وقَال، وكَثرة السؤال، وإضاعة المال"(البخاري).
وبيَّن عزَّ وجلَّ أنَّ الإنسان جَمُوع مَنوع، يحبُّ جَمْعَ المال، ويَبْخل بإخراجه؛ ففي التنْزِيل الحكيم:" وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا"(الفجر: 20).
لأنَّ الإنسان مركَّبٌ فيه صِفَتا الظُّلْم والجهل، فيَظلم نفسَه ويَجهل حقَّ غيرِه عليه؛:"إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً"(الأحزاب: 72). ولا خِلافَ بين الفقهاء في أنَّ مَن أتْلفَ شيئًا من أموال بيت المال بغير حقٍّ، كان ضامِنًا لِمَا أتْلَفَه، وأنَّ مَن أخَذَ منه شيئًا بغير حقٍّ لَزِمَه ردُّه، أو ردُّ مِثْله إنْ كان مثليًّا، وقِيمته إنْ كان قِيميًّا، وإنما الخلاف بينهم في قَطْع يدِ السارق من بيت المال، فأبوحنيفة ولضافهي وحنبل لاتقطع ومالك تقطع يد السارق من بيت المال.
ويجب على ولِيِّ الأمر أنْ يأخذَ على أيدي هؤلاء - سارقي المال العام - والمصيبة تَعْظُم إذا كان القائمون عليه سُرَّاقًا ولُصُوصًا، وقد قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - في بيان ما يجبُ على ولاة أمور المسلمين في الأموال العامة -: "وليس لولاة الأموال أنْ يَقْسموها بحسب أهوائهم، كما يَقسم المالك مِلْكَه، فإنَّما هم أُمَناء ونوَّاب ووُكلاء، ليسوا مُلاَّكًا؛ كما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إني والله، لا أُعطي ولا أمنعُ أحدًا، وإنما أنا قاسمٌ أضَعُ حيث أمرت))[33]"، ثم قال: "فهذا رسول ربِّ العالمين، قد أخْبَرَ أنه ليس المنْعُ والعطاء بإرادته واختياره، كما يَفعل ذلك المالك الذي أُبيح له التصرُّف في ماله"[34].
والله - عزَّ وجلَّ - توعَّد بالوعيد الشديد لِمَن أخَذَ من المال العام شيئًا، فقال: "وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ"(آل عمران: 161].
من صور الاعتداء علي المال العام
عباد الله :" لقد فَشَتْ في دنيا الناس صُوَرٌ كثيرة في تَعَدِّيهم على المال العام، والقليل منهم الذي يَنتبه لهذه الصور، منها:
1-
الغلول
هو خيانة الأمانة بأن يخصص الحاكم أو المسئول لنفسه أو لغيره مما تحت يده مالا يستحق غصباً أو سراً و حرمان المستحقين مستغلاً بذلك سلطته أو منصبه و من أمثلة ذلك المنح و المعونات الدولية و العمولات و الحوافز و المكافآت و توزيع الأراضى و الشقق و المناصب و كل الامتيازات و ذلك فى حاله إساءة التصرف فيها بالهوى و بما لا يرضى الله , و الغلول كبيرة من الكبائر و هو محرم حتى على الأنبياء لقوله تعالى:"و ما كان لنبى أن يغل و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون "و المقصود به فى هذه الآية هو غنائم الحروب و ضرورة توزيعها بالعدل حسب الشريعة , و فى الحديث الشريف أن الذى يرتكب جريمة الغلول يأتى يوم القيامة حاملاً ما غل على ظهره و رقبته مهما يكن شكله أو حجمه معذباً بحمله مرعوباً و موبخاً بفضيحته و مظهراً لخيانته على رؤوس الأشهاد و عندما يطلب الاستغاثة من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول له ( لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ) , و لكن لأن الدين يسر و الله رءوف رحيم فإن باب التوبة مفتوح لمن يجد وسيلة لتصحيح الخطأ قبل موته و رد ما أخذه بدون وجه حق إلى أصحابه بشرط عدم تكرار ذلك فتلك توبة مقبولة و خروج الذنب منه بأذن الله (إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم "
لماذا إذًا شدَّد الشرْعُ في حُرمة الأخْذ من المال العام (الغُلُول)؟ لأمور، منها:
1- لأنَّ المالَ العام تتعلَّق به ذِمَمُ جميع أفراد الأمة، فمَن أخَذَ شيئًا من المال العام - سَرِقة واغتصابًا ونَهبًا - فكأنَّما سَرَق من جميع أفراد الأمة.
2- لأنَّ الذي يَسْرق المال العام يَسْرق من الأصول التي بها حماية المجتمع من المجاعات والأَزَمات؛ لأنَّه يُخَرِّب في مال نفسه؛ لأنَّ المال العام كلُّ واحدٍ له نصيبٌ فيه، فمَن اعْتَدى على هذا المال وأخذَ منه شيئًا دون وجْه حقٍّ، فكأنَّما سَرَق مالَ نفسه.
2- الرشوة
الرشوة
فى المال العام هى عطاء مالى أو عيني يقدم لمن بيده الأمر مقابل إعطاء من لا يستحق
ما ليس له , أو التغاضي عن مخالفة أو تحصيل مستحقات للدولة , فا لرشوة تطمس الحق و
تحجب العدل و تضر بالأمة و هى فى نظر أهل الدنيا خيانة وطنية و فى رأى الشرع إثم
عظيم لقوله تعالى :"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام
لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم و أنتم تعلمون"و كل أطراف الرشوه ملعونون
آثمون , ففى الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشى و المرتشى
و الرانش بينهما و هو الوسيط , أما المسئول المؤمن الصالح فهو يراقب الله فى كل ما
يصدر عنه من قول أو عمل أو سلوك , و لا يفرط فى أى حق من الحقوق التى اؤتمن عليها
عملاً بقوله تعالى:"فليؤد الذى اؤتمن أمانته و ليتق الله ربه" و هو فى سبيل ذلك
يرضى و يقنع بما قسمه الله له من الحلال الطيب من الرزق و لا يمد يده للسحت
لإيمانه بأن المال الذى يأتى عن طريق غير مشروع يمحو البركة , و يفسد الأخلاق و
الأجيال و يهدم العفة و النزاهة و يولد الطمع و يميت الضمير , و يجلب غضب الرب فهو
مردود الدعاء لا تفتح له أبواب السماء لقوله صلى الله عليه وسلم "أطب مطعمك تكن
مستجاب الدعوة " و لا تقبل له صدقة و لا حج من هذا المال فإن الله طيب لا يقبل إلا
طيباً , كما لا يبارك للمرتشي فى أولاده و ماله و جسده و عمله إلا إذا أقلع عن أكل
الحرام و أبعد نفسه عن كل مشبوه محظور , ويتوب الله على كل من تاب
3-
الإسراف
إن
إهدار المال العام بالتبذير فى إنفاقه هو نزغ شيطانى لقوله تعالى (إن المبذرين
كانوا إخوان الشياطين و كان الشيطان لربه كفوراً) و خاصة إذا كان إنفاقه فى أوجه
ليس من ورائها عائد محقق أو لا تضيف نفعاً أو إذا كان الإنفاق فى ترف يجلب مفسدة
أو من أجل إشباع هوى شخصى ينتظر من ورائه منفعة شخصية ( كل ذلك كان سيئة عبد ربك
مكروها ) 0 إن مراعاة الله و استشعار مراقبته فى كل وقت و كل عمل إنما يوجب ترشيد
الإنفاق سواء كان استثمارياً فى العقود و البيع و الشراء , أو كان أجوراً و مكافآت
وما فى حكمها , فيكون الاعتدال دون إسراف و لا تقتير ( و الذين إذا أنفقوا لم
يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواماً )و كلمة الترشيد تحمل معنى الحكمة و
التأنى و الدراسة الأمينة للوصول إلى أنسب الأسعار و أفضل المعطيات , كما تعنى
العدالة و التوازن فى التوزيع و الاهتمام بالفقير و الصغير بقدر الاهتمام بالكبير
حتى يشعر بالرضا فينطلق لسانه و وجدانه بالشكر , فينشرح صدره للعمل بإخلاص , فتحل
البركة و يعم الرخاء 0
4-
الإهمال
إن
ممتلكات الدولة فى كل صورها و أشكالها هى أمانة عند المسئولين عنها و القائمين على
تشغيلها و تخزينها , و عليهم الحفاظ عليها و اختيار الأكفاء لإدارتها بالعلم و
الخبرة , و إجراء الصيانة الدورية اللازمة لها فى موعدها, وذلك لتعطى أكبر عائد
بأقل تكلفة و حفاظاً عليها من التلف أو سرعة الاستهلاك و ما يمثله ذلك من إهدار
للمال العام و خيانة للأمانة و مخالفة للشرع (و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون
)- و الكل فى ذلك مسئول – الكبير و الصغير لقوله صلى الله عليه وسلم ( كلكم راع و
كلكم مسئول عن رعيته"
5-
الإختلاس
وهو: استيلاء الموظَّفين والعاملين في مكانٍ ما على ما في أيديهم من أموال نقديَّة دون سندٍ شرعي. فهو الاستيلاء على المال العام – و ما فى حكمه – بغير وجه حق بمعرفة من هو فى عهدته وتحت مسئوليته , مثال ذلك أمين الخزينة أو الصراف الذى يخون الأمانة بالسرقة من الخزينة التى هى مجال عمله و مفتاح رزقه , و هو مكلف بالمحافظة عليها و جردها أولاً بأول و التثبت من صحة أرصدتها , و مطالب بعدم الاقتراب و التصرف فى أى من محتوياتها بغرض تحقيق منفعة شخصية , و لو كانت على سبيل السلفة المؤقتة, فالاقتراب منها وقوع فى الشبهات , و من وقع فى الشبهات وقع فى الحرام, و من أتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه و عرضه , و ذلك حسبما جاء بالحديث الشريف , و مثله كذلك كمثل أمين المخزن الذى يستغل موقعه بالاختلاس مما فى عهدته من مواد مخزنية مثل مواد البناء أو المواد التموينية أو الوقود أو الأدوية أو الملابس أو الكتب أو الآلات و غيرها , فهو خائن للأمانة و خيانة الأمانة من صفات المنافقين لقوله صل الله عليه وسلم ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا اؤتمن خان "
التدليس
هو الاستيلاء على المال العام بالاحتيال و الخداع و الغش
ومن أمثلة ذلك تزييف الأوراق النقدية و تداولها أو تزوير مستندات و ضمانات و دراسات غير أمينة تقدم للبنوك للحصول على قروض لإقامة مشروعات وهمية , أو اختلاق عقود بيع أو شراء أو تنازلات مزيفة للاستيلاء على أراض أو عقارات أو سيارات أو ممتلكات للدولة , أو تقديم مؤهلات و شهادات دراسية و بيانات مزورة تؤدى إلى اعتلاء مناصب و ممارسات مهنية , و من ثم تحقيق مكاسب بطريق غير مشروع , أو الإدلاء بمعلومات أو تقديم إقرارات و بيانات تخالف الحقيقة بغية التهرب من تسديد رسوم أو ضرائب مستحقة للدولة , ومنها التدليس في أموال التأمين الصحي من الموظفين وسرقة الأدوية والتلاعُب بها، مثل: أنْ يقومَ الطبيب بوصْف أدوية لا يحتاج إليها الموظف المتمارض من حيث النوعيَّة والكميَّة، وإعطاء هذه الأدوية للصيدلية المتعاملة بالمسروقات، فتُباع بسعرٍ أقلَّ من سعر التكلفة لدواءٍ مُشْتَرى بشكلٍ رَسْمي، ومدوَّن عليه التسعيرة (لاصق النقابة)، ويقوم الصيدلاني بتغيير كميَّة الأدوية المكتوبة في الوصفة بطُرق غير مكشوفة، كأنْ يكون مكتوب في الوصفة علبة واحدة، فيغيِّر الصيدلي الرقْم إلى علبتين، ويأخذ العلبة الأخرى له.أو يقوم بصرف برفانات ومعجون أسنان وغيره من السلع التي ليس في حاجة إليها بحجة أنه يخصم منه 2%كل شهر تأمين صحي فيتمارض بالاتفاق مع الطبيب المدلس ليستولي علي المال العام ..وما من موظف فعل هذه الفعلة إلا وابتلاه الله بالأمراض والأوجاع فالجزاء من جنس العمل ..
كل ذلك مما يلحق الضرر باقتصاد الأمة و أفراد المجتمع, و هو حرام شرعاً فقد جاء فى الحديث الشريف قول رسول الله صلى الله عليه و سلم (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به )- حيث يكون الاستمتاع بالمال مؤقتاً ثم ينقلب خزياً و عاراً و مرضاً و هلاكاً للمذنب و أهله ( نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ )
ولنعلم جميعاً أن الله رقيب و ناظر إلينا و أنه تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور , و يجزى كلاً على قدر أمانته , كما أن الخائن عاقبته و خيمة فى شتى مظاهر الحياة من عمل و مال و أهل و صحة , و ملعون فى الآخرة فهو شخص ناقص الإيمان , عاص لربه, ظالم لنفسه ( و سيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون )
ويندرج تحت هذا التدليس من صور الاعتِداء على المال العام:
التهرُّب من السداد للبنك - نوَّاب القروض - بحجَّة أنَّ له حقًّا في بيت المال.وكذلك التهرب الضريبي و سرقة الكهرباء من الدولة بحجَّة أنَّها لا تُعطي المواطن حقَّه كاملاً.
توقيف ساعة (عدَّاد) الكهرباء أو الماء في الدولة المسلمة؛ لأنَّ بعضَ الناس يَظنون أنَّ له الحقَّ في التهرُّب من ذلك لو كانت الدولة كافرة؛ بحجة إضعاف تلك الدولة، والله - عزَّ وجلَّ - يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا"(النساء: 58).والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول:"أدِّ الأمانةَ إلى من ائْتَمَنكَ، ولا تَخُنْ مَن خَانك)"()
استعمال الكمبيوتر أثناء العمل لأغراض شخصيَّة غير خاصَّة بالعمل.
وكذلك التدليس في أموال التأمين الصحي من الموظفين وسرقة الأدوية والتلاعُب بها، مثل:
أنْ يقومَ الطبيب بوصْف أدوية لا يحتاج إليها الموظف المتمارض من حيث النوعيَّة والكميَّة، وإعطاء هذه
الأدوية للصيدلية المتعاملة بالمسروقات، فتُباع بسعرٍ أقلَّ من سعر التكلفة لدواءٍ
مُشْتَرى بشكلٍ رَسْمي، ومدوَّن عليه التسعيرة (لاصق النقابة)، ويقوم الصيدلاني
بتغيير كميَّة الأدوية المكتوبة في الوصفة بطُرق غير مكشوفة، كأنْ يكون مكتوب في
الوصفة علبة واحدة، فيغيِّر الصيدلي الرقْم إلى علبتين، ويأخذ العلبة الأخرى له.أو
يقوم بصرف برفانات ومعجون أسنان وغيره من السلع التي ليس في حاجة إليها بحجة أنه
يخصم منه 2%كل شهر تأمين صحي فيتمارض بالاتفاق مع الطبيب المدلس ليستولي علي المال
العام ..
وما
من موظف فعل هذه الفعلة إلا وابتلاه الله بالأمراض والأوجاع فالجزاء من جنس العمل
..
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد فياعباد الله
كيفيَّة التوبة من سرقة المال العام:
أولاً: الاعتداء على المال العام أمرٌ خطير، وذنبٌ عظيم، وجُرْمٌ كبير، والواجبُ على مَن أخَذَ منه شيئًا أنْ يتوبَ إلى الله - تعالى - وأنْ يَرُدَّ ما أخَذَ؛ لأنَّ الأصلَ في المال العام أو شِبه العام - ونعني به مال الدولة والمؤسَّسات العامَّة والشركات الخاصَّة - هو المنْعُ، وخصوصًا أنَّ نصوصَ الكتاب والسُّنة قد شدَّدتِ الوعيد في تناول المال العام بغير حقٍّ، وقد جعَلَ الفقهاءُ المالَ العام بمنزلة مال اليتيم؛ في وجوب المحافظة عليه، وشِدَّة تحريم الأخْذِ منه، ويُستثنَى من ذلك ما تَعَارَف الناس على التسامح فيه من الأشياء الاستهلاكيَّة، فيُعْفَى عنه باعتباره مأْذونًا فيه ضِمنًا، على ألاَّ يتوسَّعَ في ذلك؛ مُرَاعاة لأصْل المنْع، على أنَّ الوَرَع أوْلَى بالمسلم الحريص على دينه؛ "ومَن اتَّقى الشُّبهات، فقدِ استبرَأَ لدينه وعِرْضه"().
والقائم بالاعتداء على المال العام بسرقة أو نهب ونحوه، مُعْتَدٍ على عموم المسلمين لا على الدولة فقط، ومَن أخَذَ شيئًا من هذا، فإنه لا يَملكه، والواجب عليه رَدُّه إلى بيت المال - خزينة الدولة - لِمَا روى عن سَمُرة بن جُنْدَب - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "على اليدِ ما أخَذَتْ، حتى تُؤَدِّيَه"(أحمد وأبو داود والترمذي).
قال ابن قُدامة - رحمه الله -: "إذا ثبَتَ هذا، فمَن غصب شيئًا، لَزِمَه رَدُّه إنْ كان باقيًا بغير خِلافٍ نَعْلَمه"
وهذا الردُّ مِن تمام التوبة، فإنه يُشترط لصحة التوبة رَدُّ المظالِم والحقوق إلى أهلها، مع الندَم والاستغفار، والعَزْم على عدم العود لذلك، لكن إذا تعذَّر الردُّ إلى بيت المال، فإنه يتصدَّق بما بَقِي من المال على الفقراء والمساكين، وإنْ كان هو فقيرًا، جازَ أن يأخذ منه قَدْرَ حاجته، وأمَّا ما سَبَق أكْلُه وإنفاقُه وصَرْفُه، فنرجو أنْ يعفوَ الله عنه.
ثانيًا: يَلزم مَن أخذَ شيئًا من المال العام من أيِّ طريقة أنْ يردَّه إلى مَحلِّه، ولو سبَّب ذلك حَرَجًا له، فإنْ عجَزَ الإنسان عن إرجاع ما أخَذَ أو سيُسبِّب حدوثَ مَفْسدة أكبر بإرجاعها، فإنها تُجْعَل في مَنْفعة عامَّة للمسلمين؛ قال النَّوَوي في "المجموع": "قال الغزالي: إذا كان معه مالٌ حرامٌ وأرادَ التوبة والبراءَة منه، فإنْ كان له مالِكٌ مُعينٌ، وجَبَ صَرْفُه إليه أو إلى وَكيله، فإن كان مَيِّتًا وجَبَ دَفْعُه إلى وارِثه، وإنْ كان لمالكٍ لا يَعرفه، ويَئِس من معرفته، فينبغي أن يَصْرِفَه في مصالح المسلمين العامَّة؛ كالقناطر والرُّبُط، والمساجد ومصالح طريق مكة، ونحو ذلك مما يَشترك المسلمون فيه، وإلا فيتصدَّق به على فقيرٍ أو فقراء، وينبغي أن يتولَّى ذلك القاضي إن كان عفيفًا، فإنْ لَم يكنْ عفيفًا، لَم يَجُز التسليم إليه، وإذا دَفَعه إلى الفقير لا يكون حرامًا على الفقير، بل يكون حَلالاً طيِّبًا، وله أن يتصدَّقَ به على نفسه وعِيَاله إذا كان فقيرًا؛ لأنَّ عِيَالَه إذا كانوا فقراءَ فالوصْفُ موجودٌ فيهم، بل هم أَوْلَى مَن يتصدَّقُ عليه، وله هو أنْ يأخذَ منه قَدْر حاجته؛ لأنَّه أيضًا فقيرٌ، وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرْع، ذَكَره آخرون من الأصحاب، وهو كما قالوه، ونقَلَه الغزالي أيضًا عن معاوية بن أبي سفيان وغيره من السلَف، عن أحمد بن حنبل، والحارث المحاسبي، وغيرهما من أهْل الوَرَع، والله - سبحانه وتعالى - أعلم".
قال الغزالي: "إذا وقَعَ في يده مالٌ حرامٌ من يدِ السلطان، قال قوم: يردُّه إلى السلطان، فهو أعلمُ بما يملِك، ولا يتصدَّق به، واختار الحارث المحاسبي هذا، وقال آخرون: يتصدَّق به إذا عَلِم أنَّ السلطان لا يردُّه إلى المالك؛ لأن ردَّه إلى السلطان تكثيرٌ للظلم"، قال الغزالي: "والمختار أنَّه إنْ عَلِم أنه لا يردُّه على مالِكه، فيتصدَّق به عن مالكه".
قلتُ - القائل الإمام النووي -: المختارُ أنَّه إنْ عَلِم أنَّ السلطان يَصْرِفَه في مَصْرف باطلٍ، أو ظنَّ ذلك ظنًّا ظاهِرًا، لَزِمَه هو أنْ يَصرِفه في مصالح المسلمين، مثل القناطر وغيرها، فإنْ عَجَز عن ذلك أو شقَّ عليه - لخوفٍ أو غيره - تصدَّق به على الأحوج، فالأحوج، وأهمُّ المحتاجين ضعافُ أجناد المسلمين، وإنْ لَم يَظنَّ صَرْفَ السلطان إيَّاه في باطلٍ، فليُعْطه إليه أو إلى نائبه، إنْ أَمْكَنَه ذلك من غير ضَررٍ؛ لأنَّ السلطان أعْرَفُ بالمصالح العامَّة وأقْدَرُ عليها، فإنْ خافَ مِن الصَّرْف إليه ضررًا، صَرَفه هو في المصارف التي ذَكَرناها، فيما إذا ظنَّ أنَّه يَصْرفه في باطلٍ".
والإنسان مسؤول أمامَ الله عزَّ وجلَّ عن هذا المال:"من أين اكْتَسَبه؟ وفيمَ أنْفَقَه؟ بهذا جاءَتِ الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
نسألُ
الله أن يُجَنِّبنا المكاسبَ المحرَّمة، وأنْ يَحفظَنا عن الحرام أيًّا كان، وصلى
الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصَحْبه وسلَّم.