
أدب الرسول صلى الله عليه وسلم مع ربه
حياؤه صلي الله عليه وسلم مع ربه أدب
خشيته صلي الله عليه وسلم من ربه أدب
صومه الدائم صلي الله عليه وسلم أدب
قيامه صلي الله عليه وسلم الليل حتي تتفطرقدماه أدب
إقراره بالعبودية لله عزوجل أدب
رضاؤه بماقسم الله له وصبره علي البلاء أدب
دعاؤه وتضرعه لله في كل وقت أدب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي المبعوث رحمة للعالمين
أمابعد فياجماعة الإسلام يقول الله تعالي:" هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ
وَدِينِ
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا "(الفتح/28).
عباد الله :" حديثنا إليكم اليوم عن أدب الرسول صلي الله عليه وسلم مع
ربه فرغم تعدد نواحي العظمة عند رسول الله صلي الله عليه وسلم ولكننا
نري أن من أبرز نواحي العظمة المحمدية، ذلك الأدب العظيم مع الله الذي
أرسَله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين
كله.ومن هذا الأدب
حياؤه صلي الله عليه وسلم مع ربه أدب
كان صلي الله عليه وسلم من أدبه مع ربه شديد الحياء فعن أبي سعيد الخدري قال كان صلي الله عليه وسلم من أدبه مع ربه شديد الحياء فعن أبي سعيد الخدري قال كان رسولُ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم أشدَّ حياءً من عذراءَ في خِدْرِها وكان إذا كرِه شيئًا عرَفْناه في وجهِه "(متفق عليه).
ولقد كان حياؤه مثلاً في أدب الأنبياء مع ربهم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله
عنه في حديثه عن المعراج وفرْض الصلاة، أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-راجَع ربَّه؛ نُزولاً على مشورة سيدنا موسى -عليه السلام- ثلاث
مرات،حتى خفَّف فرْض الصلاة من خمسين إلى خمسٍ، فلمَّا أخبَر موسى
بذلك، قال: ارجِع إلى ربك، واسْأَله التخفيف لأُمتك، فقال -صلى الله عليه
وسلم-:"سألت ربي حتى اسْتَحْييتُ منه، ولكن أرضى وأُسلِّم"(البخاري).
خشيته صلي الله عليه وسلم من ربه أدب
كان -صلى
الله عليه وسلم- أشدَّ عباد الله خشيةً لربه، وأعظمهم رجاءً فيه، وأكثرهم حبًّا له،
وكانت أحبَّ الأوقات إليه، تلك الساعات التي يعتزل فيها الناس؛ ليَأْنَس بمناجاة خالق
الكون، ومُبدِع الوجود.
كان قبل أن يُبعث يَمكُث في غار حِراء الليالي ذوات العدد، مستغرقًا في
عبادة خالقه، ويَملأ جوانب نفسه بالضراعة إليه، ولَما جاءَه الحق
واختارَه ربُّه رسولاً إلى الناس كافة، كان أعظمُ ما تَسعد به نفسُه، تلك
الساعاتِ الطويلةَ التي يَقضيها في التهجُّد راكعًا ساجدًا قانتًا لله؛ يُسبِّح
بحمده، ويَذكر آلاءَه، ويُلِح عليه في الرجاء، ذاكرًا أنه قيُّوم السموات
والأرض ومَن فيهنَّ، ونور السموات والأرض ومن فيهنَّ، وأنه الحق،
ووَعْده
الحق، ولقاؤه حق، وقوله حقٌّ.
وبعد أن فُرِضت الصلاة، كان يأنَس إليها أُنس الرضيع إلى صدر أمه،
ويَشتاق قلبه إلى وقتها شوقَ الظمآن إلى الماء، فيها سَلوته، وفيها
مَسرَّته؛"جُعِلت قرَّة عيني في الصلاة".
صومه
الدائم صلي الله عليه وسلم أدب
عباد الله :" ولقد بلَغ به الأدب مع ربه، أنه كان يظَلُّ صائمًا طاويًا، مواصلاً
الصيام، سعيدًا بالجوع والعطش؛ لأن فيه قربًا من العلي الأعلى؛ فعن أبي
هريرة -رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن
الوصال في الصوم، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله؟
قال:"أيُّكم مثلي؟ أَبيت يُطعمني ربي ويَسقين"(متفق عليه).
قيامه صلي الله عليه وسلم الليل حتي تتفطرقدماه أدب
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- يواظب على قيام الليل والتبتُّل، مواظبة
أفرَغت في قلوب المسلمين إيمانًا به وحبًّا له، وتفانيًا في نُصرته،
ولقد خُيِّل إلى بعض الصحابة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن
أجزَل له ربُّه في العطاء، حتى غفَر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وبعد أن
نصَره نصرًا عزيزًا، وفتَح له فتحًا مبينًا - خيِّل إلى هذا البعض أنه -صلى
الله عليه وسلم- بعد أن بلَغ تلك المنزلة، سيُسَلِّم نفسه إلى شيءٍ من
الدَّعة، ويَخلد إلى قليلٍ من الراحة، ولكنه -عليه السلام- يَغرق في العبادة،
ويُكثر من الخَلوة، ويُبالغ في التهجُّد، فيَعجب لذلك هؤلاء الأصحابُ،
ويسألون عن السر فيه؛ كما ورد عن السيدة عائشة -رضي الله عنها- أنها
قالت: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم من الليل حتى تَتفطَّر
قدماه، فقلت له: لِم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفَر الله لك ما تقدَّم من
ذنبك وما تأخَّر؟! فقال:"أفلا أحبُّ
أن أكون عبدًا شكورًا؟".
ولقد اختلط الأمر على بعض الصحابة، فظنُّوا أن من الأدب مع البارئ -عز
وجل- أن يَنقطع الإنسان إلى العبادة، وأن يترك الدنيا إلى الآخرة، ولكنه
-صلى الله عليه وسلم- ردَّهم إلى الصواب، وبيَّن لهم - في جَلاءٍ لا يَقبل
التأويلَ - أن خشية الله لا تَستلزم الانقطاع عن الدنيا، فلقد رُوِي عن أنس
بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: جاء ثلاثة رَهْطٍ إلى بيوت أزواج النبي
-صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا، كأنهم تَقالُّوها،
فقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد غفَر الله ما تقدَّم من
ذنبه وما تأخَّر؟! فقال أحدهم: أما أنا، فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر:
وأنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج، فجاء
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال:"أنتم الذين قلتُم كذا وكذا؟ أما والله
إني لأَخشاكم لله وأتْقاكم له؛ لكني أصوم وأُفطر، وأُصلي وأرقُد، وأتزوَّج
النساء، فمن رغِب عن سُنتي، فليس مني".
وهكذا كان أدبه -صلى الله عليه وسلم- مع ربِّه أثرًا من آثار خشيته له،
وفَرْط حبِّه لذاته، وخضوعه لجلاله، فكان خاليًا عن المغالاة والتكلُّف،
موسومًا بالعطف على الناس، بعيدًا عن الزِّراية بهم والنِّقمة عليهم، فلم
يَدْعُ يومًا على قومه بالهلاك، بل كان يطلب لهم الهداية والمغفرة، قائلاً -
في أشد المواقف إمعانًا في إيذائه والكفر به -:"اللهمَّ اهْدِ قومي؛ فإنهم لا
يعلمون".
ولقد كان من بالِغ أدبه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يشعر أن فضائله
قَبَسٌ من فضل الله عليه، فكان إذا صبَر على بلاءٍ، يشكر ربه على
التوفيق، بل كان يستغفره؛ خوفًا من تَبِعة التقصير؛ فلقد جاء في سيرته
الكريمة أنه ذهب يومًا إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الإسلام، فردُّوه ردًّا
غير جميلٍ، وأغروا به سُفهاءَهم وعبيدهم، يَعفِرونه بالتراب، ويَحصِبونه
بالحجارة، وهو صابر مُحتسب، فما هو إلا أن جلَس إلى ظلِّ شجرة، حتى
طفِق يَستعيذ بالله من غضبه، قائلاً: "أعوذ بنور وجهك الذي أشرَقت به
الظلمات،وصلَح به أمر الدنيا والآخرة، أن تُنزل عليَّ غضَبك، أو تُحِلَّ على
سَخطك، إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ، فلا أُبالي".
الله قد ملأ صدره حكمة وإيمانًا، وإليك نوعًا آخر فريدًا في باب الأدب، كان -صلى
الله عليه وسلم- كثيرًا ما تَفيض عيناه دمعًا، حين يجد أن لسانه وعمله لا يَفِيَان
بالتعبير عن شكر الله على ما أنعَم به عليه؛ فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال:
"قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-:"اقرأ عليّ"، قلت: أقرأ عليك وعليك
أُنزل؟ قال:"فإني أحب أن أسْمَعه من غيري"، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلَغت:"
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ
شَهِيدًا"(النساء/
41). قال: "أَمسِك"،
فإذا عيناه تَذرِفان".
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد فياعباد الله لازلنا نواصل الحديث حول أدب الرسول صلي الله عليه وسلم مع ربه ومنها أيضاً
إقراره بالعبودية لله عزوجل أدب
وكان من أعظم أدب الرسول مع ربِّه، أن كان أحب ألقابه إلى نفسه أنه عبد
الله، وكان يحب دائمًا أن يثبت ذلك في نفوس المسلمين جليًّا واضحًا،
فتارة يُقرِّره بالقول؛ كما ورد عنه أنه قال :"لَا تُطْرُونِي كما أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فإنَّما أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولوا: عبدُ اللَّهِ وَرَسُولُه"(البخاري).
وتارة يقرِّره تقريرًا عمليًّا؛ فقد ورد عنه أنه دخل على أصحابه، فقاموا
إجلالاً له، فقال لهم :"لا تَقوموا كما تقوم الأعاجم، يُعظِّم بعضهم بعضًا؛
إنما أنا عبد؛ آكُل كما يأكل العبد،
وأجلِس كما يجلِس العبد"(البيهقي).
رضاؤه
بماقسم الله له وصبره علي البلاء أدب
كان أدب الرسول مع ربه مثلاً بليغًا في الرضا بقضائه، والشكر على نَعمائه، والصبر على بلائه، والتسبيح بحمده والإخلاص في دعائه، والصدق في العبودية له، والحياء من جلاله؛ حتى استحقَّ من ربه مقامًا محمودًا، وثناءً كريمًا."مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ"(القلم: 2 – 4).
دعاؤه وتضرعه لله في كل وقت أدب
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أحواله ما ترك الدعاء أبداً، وما
يئس منه قط مهما تأخرت الإجابة، ومهما طال الطريق، وكان أشد ما يكون
دعاءً ورجاءً وخشوعاً وابتهالاً عند مواقف الضيق والشدة، يفزع إلى ربه
ويحتمي بحماه، ويطلب عونه، ويرجو مدده وتأييده،
انظر إليه
صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وقد اشتد الضيق بالمسلمين.
يقول صلى الله عليه وسلم :"اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك
عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد"وبالغ في الابتهال
صلى الله عليه وسلم حتى سقط رداءه عن منكبيه، وأشفق عليه الصديق
رضي الله عنه وأرضاه، فأتى إليه يقول: حسبك يا رسول الله! ألححت على
ربك.
وفي غزوة الخندق والصحابة منهمكون في حفر الخندق كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يدعو لهم ويقول:"اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجرة".
وفي الأحزاب أيضاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين؛
لأنهم أضاعوا عليهم صلاة العصر؛ وذلك لانشغال المسلمين بالدفاع عن
الخندق، فقال صلى الله عليه وسلم:"ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً
كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشم
بل انظر إليه صلى الله عليه وسلم كيف كان يدعو الله في كل أحواله حتى بعد
فجيعة أحد، انظر إليه كيف كان شاكراً حامداً راضياً مطمئناً حتى بعد كارثة
استشهاد ٧٠ من أجلاء الصحابة، اسمع وتدبر جيداً وهو يبدأ دعاءه صلى
الله عليه وسلم بشيء عجيب.
يقول:"اللهم لك الحمد كله" يبدأ بالحمد، وذلك حتى لا يظن ظان أنه ساخط، أو أنه معترض على قضاء الله، "اللهم لك الحمد كله" ويعلم الله كم من النعم والأفضال في أرض فلسطين الآن، مع كل ما نراه من آلام، والتي يجب أن يُحمد عليها سبحانه وتعالى، يكفي قوله سبحانه وتعالى:"وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ"(آل عمران:١٤٠ – ١٤١).