
هل الشقي سبق له في علم الله أزلاً أنه شقي ؟
وَإِن تَدْعُهُمْ
إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا"(الكهف/57).
لاأظلم
ممن ذكربأيات ربه فكفر بها
أسباب إعراضهم
عن الهداية؟
هل هؤلاء
سبق لهم في علم الله أنهم أشقياء؟
قال تعالي:" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ
يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ
إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا"(الكهف/57).
لاأظلم
ممن ذكربأيات ربه فكفر بها
يخبر تعالى أنه لا أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً، من عبد ذكر بآيات الله وبين
له الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وخوف ورهب ورغب، فأعرض
عنها، فلم يتذكر بما ذكر به، ولم يرجع عما كان عليه، ونسى ما قدمت
يداه من الذنوب، ولم يراقب علام الغيوب، فهذا أعظم ظلماً من المعرض
الذي لم تأته آيات الله ولم يذكر بها، وإن كان ظالماً، فإنه أخف ظلماً من
هذا، لكون العاصي على بصيرة وعلم، أعظم ممن ليس كذلك، ولكن الله
تعالى عاقبه بسبب إعراضه عن آياته، ونسيانه لذنوبه، ورضاه لنفسه،
حالة الشر مع علمه بها، أن سد عليه أبواب الهداية بأن جعل على قلبه
أكنة، أي: أغطية محكمة تمنعه أن يفقه الآيات وإن سمعتها، فليس في
إمكانها الفقه الذي يصل إلى القلب، "وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا" أي: صمماً يمنعهم
من وصول الآيات، ومن سماعها على وجه الانتفاع وإذا كانوا بهذه
الحالة، فليس لهدايتهم سبيل،:" وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا
أَبَدًا" لأن الذي يرجى أن يجيب الداعي للهدى من ليس عالماً، وأما هؤلاء،
الذين أبصروا ثم عموا، ورأوا طريق الحق فتركوه، وطريق الضلال
فسلكوه، وعاقبهم الله بإقفال القلوب والطبع عليها، فليس في هدايتهم حيلة
ولا طريق وفي هذه الآية من التخويف لمن ترك الحق بعد علمه، أن يحال
بينهم وبينه، ولا يتمكن منه بعد ذلك، ما هو أعظم مرهب وزاجر عن ذلك.
وأيضاً قوله تعالي :"وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ" بالقرآن ولذلك رجع
الضمير إليها مذكرًا في قوله أن"يفقهوه" "فَأَعْرَضَ عَنْهَا" فلم يتذكر حين
ذكر ولم يتدبر"وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ" عاقبة ما قدمت يداه من الكفر
والمعاصي غير متفكر فيها ولا ناظر في أن المسيء والمحسن لابد لهما
من جزاء.
ثم علل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم بقوله:"إِنَّا جَعَلْنَا
على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً" أغطية جمع كنان وهو الغطاء "أن يفقهوهُ وفي ءاذانهم
وَقرًا" ثقلًا عن استماع الحق وجمع بعد الإفراد حملًا على لفظ من ومعناه
"وَإِن تَدْعُهُمْ" يا محمد "إِلَى الهدى" إلى الإيمان "فَلَنْ يَهْتَدُواْ" فلا يكون
منهم اهتداء ألبتة "إِذَا" جزاء وجواب فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة
الرسول بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببًا في
انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول على تقدير قوله مالي لا أدعوهم حرصًا
على إسلامهم؟ فقيل "وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذًا" "أَبَدًا" مدة
التكليف كلها.
"وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى"يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
وَإنْ تَدْعُ يا مُحَمَّد هؤلاء المعرضين عن آيات الله عند التذكير بها إلى
الاستقامة على محجة الحق والإيمان بالله، وما جئتهم به من عند
ربك"فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا" يقول: فلن يستقيموا إذا أبدا على الحقّ، ولن
يؤمنوا بما دعوتهم إليه، لأن الله قد طبع على قلوبهم، وسمعهم
وأبصارهم.
قال البغوي:"فلن يهتدوا إذا أبداً" وهذا في أقوام علم الله منهم أنهم لا
يؤمنون .
أسباب
إعراضهم عن الهداية؟
قوله تعالى
:"وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا"
بين في هذه الآية الكريمة : أن الذين جعل الله على قلوبهم أكنة تمنعهم أن يفقهوا ما ينفعهم من آيات القرآن التي ذكروا بها لا يهتدون أبداً ، فلا ينفع فيهم دعاؤك إياهم إلى الهدى ،لأن من أشقاهم الله لا ينفع فيهم التذكير جاء
مبيناً في مواضع أخر ، كقوله :" إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ "(يونس/96-97).
والمراد بكلمة ربك: حكمه النافذ، وقضاؤه الذي لا يرد، وسنته التي لا
تتغير ولا تتبدل في الهداية والإضلال. لأنهم استحبوا العمى على الهدى-
وقولـه تعالى :"كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ . لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الألِيمَ"(الشعراء/200) ، وقولـه تعالى : وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ
عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ"(يونس/101).
وقولـه تعالى : "وَما كانَ لِنَفْسٍ أنْ تُؤْمِنَ إلا بِإذْنِ اللهِ ويَجْعَلُ الرِجْسَ عَلى
الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ "(يونس/100).
وقولـه تعالى :"إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَىٰهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم
مِّن نَّٰصِرِينَ" (النحل /37).
هل
هؤلاء سبق لهم في علم الله أنهم أشقياء؟
هذه الآية
وأمثالها في القرآن فيها وجهان معروفان عند العلماء .
أحدهما : أنها في الذين سبق لهم في علم الله أنهم أشقياء ،عياذا بالله تعالى
أي أن الله علم أزلاً أنهم سيكونون أشقياء بعد أن بين لهم طريق الخير
وطريق الشر فاستحبوا
الضلالة علي الهدي
والثاني : أن المراد أنهم كذلك ما داموا متلبسين بالكفر والظلم ، فإن هداهم
الله إلى الإيمان
وأنابوا زال ذلك المانع ،
والأول
أظهر ، والعلم عند الله تعالى .
وقولـه
في هذه الآية الكريمة " إذاً" جزاء وجواب ، فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة
الرسول صلى الله عليه وسلم ، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سببا للاهتداء سببا لانتفائه
; لأن المعنى : فلن يهتدوا إذا دعوتهم ، ذكر هذا المعنى الزمخشري ، وتبعه أبو حيان
في البحر ، وهذا المعنى قد غلطا فيه ، وغلط فيه خلق لا يحصى كثرة من البلاغيين وغيرهم
...
ونظير هذه
الآية الكريمة في عدم الارتباط بين طرفي الشرطية قوله تعالى :"قل لو كنتم في بيوتكم
لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم"(). لأن سبب بروزهم إلى مضاجعهم شيء آخر
غير مذكور في الآية ، وهو ما سبق في علم الله من أن بروزهم إليها لا محالة واقع ، وليس
سببه كينونتهم في بيوتهم المذكورة في الآية ، وكذلك قوله تعالى : قل لو كان البحر مدادا
لكلمات ربي لنفد البحر"18 \ 109 ] ، إلى غير ذلك من الآيات
وإن تدعهم
إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا
هذا تصوير دقيق للكافرين والفاسقين والنصابين ومن علي شاكلتهم ؛
يبتدئون بالإنكار من غير روية؛ وتعرف للأمر من كل وجوهه؛ فإذا سارع
إليهم جحدوا؛ أو أعرضوا عن الحق؛ وقد بدا نوره؛ وسدت عليهم كل
منافذ الإدراك؛ فلا تسمع آذانهم؛ ولا تفقه قلوبهم؛ ولذا قال (تعالى): ومن
أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها الاستفهام هنا لإنكار الوقوع؛ أي:
للنفي المؤكد مع التوبيخ للظالمين؛ والتنديد بهم؛ أي: لا أحد أظلم ممن
ذكر بآيات الله (تعالى) في الكون؛ ودلالتها على الخلق؛ وأنه وحده الذي
خلق كل شيء؛ وأنه وحده هو المعبود؛ ولا معبود سواه؛ ذكر هذا التذكير؛
فلم يتريث؛
ويتأمل؛ بل سارع بالإعراض؛ والتولي عنها؛ والفاء للترتيب والتعقيب؛ أي
أنه رتب على التذكير الإعراض السريع من غير تأمل فيما ذكر به؛ ونسي
ما قدمت يداه من كفر وظلم وأكل مال الناس بالباطل؛ وتطفيف في الكيل
والميزان؛ نسي هذا في مقام التذكير بآيات الله (تعالى)؛ وكمال سلطانه؛
نسي ما قدمه من شر؛ ولم يفتح بابا للاستغفار والإقلاع؛ والتعبير بـ "ما
قدمت يداه "؛ يراد به: ما قدم؛ وعبر باليد؛ وهي الجزء؛ عن الكل؛ وذلك
من المجاز المرسل؛ لأن ذلك الجزء له مزيد اختصاص من بين الأجزاء؛
لأنه أكثر الشر يكون به.