
توقيرالحكام وعدم سَبِّهِم وإهانتهِم
الواجب علي المسلم لإمامه: "توقيره واحترامه.
النهي عن سبهم وإهانتهم
في الخروج علي الحكام شرووبال
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد
فهذا الحقُّ رعاه الشارعُ الحكيم؛ بأنَّ
أمرَ به أيضًا ونهى عن ضده، فنهى عن سبِّ الأئمة وإهانتهم، وقصْدُ الشارعِ من ذلك ما
أشار إليه القرافي -رحمه الله- في كتابه"الذخيرة" حيث قال: "قاعدةٌ:
ضبطُ المصالحِ العامة واجب: ولا تنضبط المصالح العامة إلا بعظمةِ الأئمةِ في نفوسِ
الرعية، ومتى اختلفت عليهم أو أُهينوا تعذرت المصلحة".
وقد سبقه إلى ذلك سهل بن عبد الله التَّستُري
-رحمه الله- عندما قال:"لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عظَّموا السلطانَ والعلماء،
فإنْ عظَّموا هذين؛ أصلحَ اللهُ دُنياهم وأُخراهم، وإنْ استخفوا بهذين؛ أفسدوا دُنياهم
وأُخراهم".
فالشارعُ الحكيم إنما راعى هذا الأمر؛ لأجل
أنَّ المسؤوليات على الإمامِ كثيرةٌ وثقيلة ولا يمكن له أنْ يقومَ بذلك على الوجهِ
الصحيح إلا إذا كانت النفوسُ موطَّنةً على احترامهِ وتقديره؛ موعودةً بالأجرِ على ذلك،
مُتوعدةً بالوزرِ إنْ خالفت ذلك.
أما الأمرُ بتوقيرِ الإمام، فقد جاءت به
نصوصٌ نبوية شريفة وعقدَ كبارُ العلماءِ في مؤلفاتِهم أبوابًا خاصة بذلك، ففي كتاب
"السُّنة"لابن أبي عاصم باب في ذكر"تعذير الأمير وتوقيره" وفي
كتاب "الحُجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السُّنة" لأبي القاسم الأصفهاني
فصلٌ في: "فضل توقير الأمير - يعني الحاكم؛ يعني الإمام؛ يعني الرئيس"، وفي
كتاب"النصيحة للراعي والرعية" باب:"ذِكر النصيحة للأمراء وإكرام محلِّهم
وتوقير رُتبهم وتعظيم منزلتهم".
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-:"إنَّ من إجلالِ الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل
القرآن غير الغالِ فيه والجافي عنه وإكرامَ ذي السلطان المقسط"(سنن أبي داود).
وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال:قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-:"خمسٌ مَن فعل واحدةً منهن كان ضامنًا على الله –عز وجل- وذكرَ
منهن أو دخلَ على إمامهِ يريد تعذيرهُ أو توقيره"(أحمد و الطبراني).
ومعنى:"كان ضامنًا على الله":
أي ضامنًا دخول الجنة.
وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: سمعت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:"السلطانُ ظِلُّ الله في الأرض فمن أكرمه؛
أكرمه الله، ومن أهانه؛ أهانه الله"(أخرجه ابن أبي عاصم في السُّنة وهو حديث حسن).
أما النهي عن سبهم وإهانتهم:
فقد جاءت به آحاديث وآثار عن السند، وعقد أهلُ العلم
في مؤلفاتهم بابًا لذلك، ففي السُّنة لابن أبي عاصم باب: ما ذُكر عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- من أمره بإكرام السلطان وزجره عن إهانته".
وفي كتاب "الحُجة"لأبي القاسم
الأصبهاني فصل في:"النهي عن سبِّ الأمراء والولاة وعصيانهم"
ومما ورد في ذلك حديث عمر البكالي -رضي
الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:"إذا كان عليكم أمراء
يأمرونكم بالصلاةِ والزكاة فقد حرَّمَ اللهُ عليكم سبَّهم وحلَّ لكم الصلاةُ خلفَهم
"(الطبراني في الكبير).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- نهانا كبراءُنا من أصحاب
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"لا تسبُّوا أمراءَكم ولا تغشُّوهم ولا تُبغضوهم
واتقوا اللهَ واصبروا فإنَّ الأمرَ قريب"(ابن أبي عاصم في السُّنة والبيهقي في
شُعب الإيمان وغيرُهما بإسناد صحيح).
ومنها قول أبي إسحاق السبيعي:"ما سبَّ
قومٌ إمامهم إلا حُرموا خيره"( ابن عبد البر في التمهيد وأبو عمر الداني في الفتن).
ويقول أبوإدريس الخولاني -رحمه الله-: "إياكم
والطعنَ على الأئمة، فإنَّ الطعنَ عليهم هي الحالقة؛ حالقةُ الدين ليس حالقةَ الشَّعرِ،
ألا إنَّ الطعانين الذين يطعنون في الأئمة، ألا إنَّ الطعانين هم الخائبون وشِرارُ
الأشرار"( ابن زنجويه في كتاب الأموال).
ويقول معروف الكرخي -رحمه الله-:"من
لعنَ إمامَهُ حُرِمُ عدله".
ذكره ابن الجوزي في "مناقب معروف وأخباره".
ويقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "إنَّ
أولَّ نفاقِ المرِء طعنهُ على إمامه"(البيهقي في شعب الإيمان وابن عبد
البر في التمهيد).
وعن أبي الدرداءأيضاً :"إنَّ إلهي تبارك وتعالى يقولُ أنا اللهُ لا
إله إلا أنا مالكُ الملوكِ وملِكُ الملوكِ قلوبُ الملوكِ في يديَّ فإنِ العبادُ أطاعوني
حولتُ قلوبَ ملوكِهم عليهم بالرأفةِ والرحمةِ وإنِ العبادُ عصوْني حولتُ قلوبَ ملوكِهم
بالسخطِ والنقمةِ فساموهم سوءَ العذابِ فلا تشغلوا أنفسَكم بالدعاءِ على الملوكِ ولكن
اشغلوا أنفسَكم بالذكرِ والتضرعِ أُكْفِكُم أمْرَ ملوكِكُم"(السخاوي المصدر:تخريج فضيلة العادلين
الجزء أو الصفحة:157 حكم المحدث:لا يصح مرفوعاً).
فأما الغربيون وأتباعُهم، وأما الأخوان
المسلمون والضُلَّالُ من أشياعِهم وأتباعِهم؛ فيقولون: تريدون تقديسَ البشر وعبادتَهم
من دون الله -جلَّ وعلا-، إنما الرئيسُ أو الإمامُ أو وليُّ الأمر أو الحاكم عند -هؤلاء
الضلال المنحرفين- موظفٌ ينبغي أن يُحاسَب وأنْ يُراجع في كل وقتٍ وحين، فليس بوليِّ
أمرٍ، وعليه فليس للمسلمين على قولِهم ولي أمر وقد غاب:"ومن مات وليس في عنقه
بيعة فمِيتتهُ ميتة جاهلية".
هؤلاء يقولون لابد أنْ نعاملَهُ معاملةً
دقيقة وأن يحاسبَهُ كلُّ فردٍ من أفراد الرعية على ذلك النحو الذي ابتدعه الغربيون
والخوارج من المسلمين الذين ينتمون إلى القبلة، وصارَ على ذلك خوارجُ العصر -عاملهم
الله بعدله-.
هذا النهي ليس تعظيمًا لذواتِ الأمراء
-النهي عن سبِّهم؛ عن الخروج عليهم؛ عن الطعن فيهم؛ عن شتمِهم، عن إهانتهم- النهيُ
عن ذلك ليس تعظيمًا لذوات الأمراء، وإنما هو لعِظَمِ المسؤوليةِ التي وُكلت إليهم في
الشَّرع، والتي لا يُقام بها على الوجهِ المطلوب مع وجودِ سبِّهم والوقيعة فيهم؛ لأن
سبَّهم يُفضي إلى عدم طاعتِهم بالمعروف، وإلى إيغارِ صدورِ العامة عليهم، مما يفتح
مجالًا للفوضى التي لا تعود على الناس إلا بالشرِّ المستطير، كما أنَّ نتيجتَهُ وثمرتَهُ
سَبُّهم والخروجُ عليهم وقتالهم، وتلك هي الطامةُ الكُبرى والمصيبةُ العُظمى.
وقد أغلق النبي - صلى الله عليه وسلم -
هذا الباب إغلاقاً محكماً بما لا مجال معه للاجتهاد، فقال عليه الصلاة والسلام:
"مَنْ رأى من أميره شيئاً فكَرِهَهُ فليصبر؛ فإنه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شِبْراً
فيموت إلا مات ميتةً جاهلية"( البخاري). قال الحافظ ابن حجر: قوله: "شِبْراً
": كناية عن معصية السلطان ومحاربته.
وقال ابن أبي جمرة:
المراد بالمفارقة: السعي في حلِّ عقد البيعة
التي حصلت لذلك الأمير، ولو بأدنى شيء، فكنَّى عنها بمقدار الشِّبر، لأن الأخذ في ذلك
يؤول إلى سفك الدماء بغير حق.
وقال الشيخ عبدالرحمن البراك حفظه الله
في شرح الطحاوية:
أكثر الناس إنما ينكرون على الولاة أمر
الدنيا لا أمر الدِّين، فلا ينقمون تقصيرهم في حقوق الله، إنما نقمتهم الأثَرة، ويطلبون
منافستهم في الدنيا، ولهذا أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه الأنصار فقال:
"إنكم ستلقون بعدي أثَرة؛ فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"، فقوله "أثَرَة":
استبداد بالولايات وبالمال. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فاصبِروا" أي:
لا تنازِعٌوا ولاة الأمر من أجل ذلك.
وكثيراً ما يكون الخروج على الولاة من أجل
المنازعة على السُّلطة باسم الإصلاح الدنيوي أيضاً؛ فينتج عنه شرٍّ مستطير على الناس،
فتسفك الدماء وتنتهك الحرمات وتذهب الأموال وينتشر الفساد، خصوصاً إذا لم يكن هناك
استقرار في الأمر فتعمُّ الفوضى، ويتمكن كل مجرم من بلوغ مَرَامِه واقتراف إجرامه.
انتهى.
وأما حديث: "فمن جاهَدَهُم بيدِه فهو
مؤمِنٌ، ومَنْ جَاهَدَهم بلسانه فهو مُؤمِنٌ، ومَنْ جَاهَدَهم بقَلبِه فهو مُؤمِن...
" وهو في صحيح مسلم، فهو مفسَّر بالحديث الذي قبله عند مسلم أيضاً: " مَنْ
رأى مِنكُم مُنكَراً، فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطِع فبلسانِه، فإن لم يستَطِع فبقلبِه..."
وكذلك الأحاديث الواردة في الباب، فالإنكار مقرون ومقيَّدٌ بالاستطاعة، وبحسب الأشخاص
وبالمصالح العليا للأمة، وقد فصَّل هذا الحافظُ ابن رجب في شرحه للحديث في جامع العلوم
والحكم، ونقل عن الأئمة مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم ما يَشْفِي ويكفي، قال أحمد: لا يتعرض
للسلطان، فإن سيفه مسلول.
وحَسْبُ أهل الفتنة في هذا الباب أن يعلموا
أن مقدَّمَهم وسيِّدَهم في هذا الباب الظالم ذو الخويصري الذي اعترض على رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - في قسمة الغنائم، وقال: اعدِل يا محمد. الحديث في الصحيحين.
وهل وقع قَتْل أمير المؤمنين عثمان بن عفان
الخليفة الراشد رضي الله عنه إلا من خلال هذا الباب، حيث مزاعم الأثرة المفضية للخروج
والمنازعة والقتل، فابتدأها الغوغاء ضد عثمان رضي الله عنه "سلمية" كما يسميها
البعض وانتهت بقتل عثمان والمصحف بين يديه، ولا تزال الأمة الإسلامية تتجرع آثار
هذه المنازعة "السلمية" وما أفضت إليه.
قال ابن تيمية رحمه الله:
يجب العدلُ على كلِّ حاكم وكل قاسِم؛ لكن
إذا قُدِّر أن القاسم أو الحاكم ليس عدلاً لم تبطل جميع أحكامه وقَسْمِه على الصحيح
الذي كان عليه السلف، فإنَّ هذا من الفساد الذي تفسد به أمور الناس... فأما إذا كان
في القسمة ظلم؛ مثل أن يعطي بعض الناس فوق ما يستحق، وبعضهم دون ما يستحق؛ فهذا هو
الاستيثار الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم -... ومعلوم أن هذا ما زال في الإسلام
من ولاة الأمور ومن دخل في هذه الأمور، وإنما يستثنى في الخلفاء الراشدين ومن اتبعهم.
فإذا كان ذلك كذلك، فالمعطَى إذا أُعطِي
قَدْرَ حقِّه أو دون حقه كان له ذلك بحكم قِسمَةِ هذا القاسم. كما لو قسم الميراث وأَعطَى
بعض الورثة حقه، كان ذلك بحكم هذا القاسم، وكما لو حكم لمستحِقِّ بما استحقه كان له
أن يأخذ ذلك بموجب هذا الحكم. وليس لقائل أن يقول: أخَذَه بمجرد الاستيلاء، كما لو
لم يكن حاكم ولا قاسِم، فإنه على نفوذ هذه المقالة تبطل الأحكام والأعطية التي فعلها
ولاة الأمور جميعهم، غير الخلفاء. وحينئذ فتسقط طاعة ولاة الأمور؛ إذ لا فرق بين حُكْم
وقَسْمٍ وبين عدمه. وفي هذا القول من الفساد في العقل والدِّين ما لا يخفى على ذي لُبّ؛
فإنه لو فُتِح هذا الباب أفضى من الفساد إلى ما هو أعظم من ظُلم الظالم.
والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها
وتعطيل المفاسد وتقليلها، ورجَّحت خير الخيرين بتفويت أدناهما، وهذا من فوائد نَصْبِ
ولاة الأمور. ولو كان على ما يظنه الجاهل لكان وجود السلطان كعدمه، وهذا لا يقوله عاقل،
فضلاً عن أن يقوله مسلم؛ بل قد قال العقلاء: ستون سنةً من سلطان ظالم خيرٌ من ليلة
واحدة بلا سلطان. وما أحسن قول عبد الله بن المبارك: لولا الأئمة لم يأمن لنا سُبل،
وكان أضعفُنا نهباً لأقوانا. انتهى ملخصاً.
وقال شيخ الإسلام:"ولعله لا يُعرف
طائفةٌ خرجت على ذي سُلطان؛ إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظمُ من الفساد الذي
أزالته".
وحسبك بابن تيمية إماماً في العلم والدعوة
والجهاد، ولا يخفى ما وقع عليه من سجن وظلم، ومع ذلك فهذا قوله في شأن أثَرَة الحكام
والتعامل معهم.
وصلي اللهم علي سيدنا محمد وعلي أله وصحبه وسلم