
عمارة الكون في القرآن والسنة
إِعْمَارُ الأَرْضِ، وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ قيم إجتماعية
عمارة الكون يكون بالصلاح والإصلاح
من صور عمارة الأرض الزراعة والصناعة
التجارةَ مِن وسائل الإعمار وسُبله
حتي يكتمل إعمار الأرض لابد من العمل الدؤب
الحمد لله رب العالمين، أمر بالصلاح والإصلاح، ونهى عن الفساد والإفساد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنْ محمداً عبده ورسوله،اللهم صلاة وسلاماً عليك ياسيدي يارسول الله وعلى آلك وأصحابك وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فياعباد الله.
مِنَ الْقِيَمِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ
الَّتِي حَثَّنَا عَلَيْهَا الشَّرْعُ الْحَنِيفُ:"إِعْمَارُ الأَرْضِ، وَإِتْقَانُ
الْعَمَلِ؛ فَقَدْ خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الإِنْسَانَ لِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ؛
قَالَ تَعَالَى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"(الذاريات:
56).
وَحَثَّنا عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ أَجْلِ عِمَارَةِ هَذِهِ الأَرْضِ؛ قَالَ تَعَالَى :"هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا"(هود: 61).
وهذه العمارةُ تشمل كلَّ ما فيه نفعٌ وفائدة للفرد والمجتمع؛ فالمسلم كالغيث، أينما حلَّ بِخَيْرٍ نفع،وحين يري الشر أبتعد ودفع ومن استوي عنده العمَار بالخراب، والإصلاح بالإفساد فقدانتكست فطرته وماشفع ولانفع..
عمارة الكون يكون بالصلاح والإصلاح
عباد الله:" وعمارة الكون يكون
بالصلاح والإصلاح فإن الله أصلح الأرض لإرسال
الرسل وإنزال الكتب وأمر العباد بطاعته وإتباع رُسُله ليصلح الله لهم أحوالهم ونهى
عن الفساد في الأرض :"وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا"الله
أصلحها بإنزال كتبه، وإرسال رسله، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
فمن أفسد فيها بعد ذلك فإنه قد أفسد في الأرضِ بعد إصلاحها، قال تعالى:" هُوَ
أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ"
قال ابن كثير: أَيْ: "جَعَلَكُمْ فِيهَا
عُمَّارا تُعَمِّرُونَهَا وَتَسْتَغِلُّونَهَا وَمَعْنَى الْإِعْمَارِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا
الْأَرْضَ عَامِرَةً بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزَّرْعِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ
تَعْمِيرًا لِلْأَرْضِ حَتَّى سُمِّيَ الْحَرْثُ عِمَارَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ
عَمْرُ الْأَرْضِ.
عباد الله:" لقد سبَق المسلمين كثيرٌ مِن الأمم التي أخذت بأسباب هذا السبق؛ حيث تكاتفت وتعاونت، وأخذَتْ أمورها على محمل الجِد، فأعطاها الله تعالى على قدرِ اجتهادها، حتى ولو كان مقصدها الدنيا فقط، وهذا قانونٌ إلهيٌّ لا يتغير ولا يتبدل؛ قال الله تعالى:" مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ"(هود/ 15).
ولو أننا رجَعْنا بالذاكرة إلى تاريخنا الإسلامي الممتد
عبر القرون وقارناه بعهدنا الحالي، لعلِمْنا الفرق الشاسع والبون الواسع بين العهدين،
وما نحن فيه الآن من تقصير، والتاريخ ينبئنا أن الحضارةَ الإسلامية علَّمت الدنيا بأَسْرِها
في الوقت الذي أطبق فيه الظلامُ على العالم أجمعَ، خاصة أوروبا، فيما يعرف بـ: العصور
المظلِمة، لا ينكر أحد ذلك، أو يجهله، مِن هنا أو هنالك.
من صور عمارة الأرض الزراعة والصناعة
عباد الله:" إن عمارةَ الأرض تأخذ صورًا شتى؛ فهي تشمَل الزراعة، والصناعة، واستخراج ما في باطنها من كنوز وثروات، كذلك تشمل إعمال العقل في كلِّ ما يفيد هذه البشرية وتلك الإنسانية، فيحاول هذا الإنسانُ بما أعطاه الله تعالى من عقل وعلم أن يحوِّلَ الصحراء القاحلة إلى أرض خضراء ممتلئة بالزروع والثمار، كذلك عليه أن يسبَحَ في الفضاء ليستكشفَ ما به من أسرار، ويعرِف ما يفيده ليفعله، وما يضره ليتجنَّبَه..
كل ذلك في إطار مِن التواضع لله تعالى، وعدم العُجْب والغرور بهذا العقل
الذي قد يجرُّ صاحبه إلى الدمار والهلاك، ليس له وحده، ولكن للكون كله بما فيه؛ قال
تعالى:" حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا
أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(يونس:
24).
والذي يتدبَّر السنَّة الشريفة يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّنا على الإعمار والإصلاح في كل وقت وحينٍ؛ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ما مِن مسلم يغرِس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"(البخاري ومسلم)،
وروى: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَن أحيا أرضًا ميتة، فهي
له"( النسائيُّ وأبو داود والترمذي)، و عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا قامت الساعةُ وفي يدِ أحدكم فسيلةٌ، فإن استطاع
ألا يقومَ حتى يغرِسَها فليفعل"(أحمد والبخاري)،
كذلك اهتم الإسلامُ بالصناعة والحرفة كسبيل
مِن سبل الإعمار في الأرض؛ فقال تعالى مخبِرًا عن نبي الله داود عليه السلام:"
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ
شَاكِرُونَ"(الأنبياء: 80)، وقال سبحانه:" وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ
بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ"(الحديد: 25).
وكثير من أنبياء الله عملوا بالصناعة ومنهم نبي الله داود كان يصنع الدروع روى أن
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا مِن أن يأكل
من عمل يده، وإن نبيَّ الله داود كان يأكلُ مِن عمل يده"(البخاريُّ).
التجارةَ مِن وسائل الإعمار وسُبله
كذلك فإن التجارةَ مِن وسائل الإعمار وسُبله؛
قال الله تعالى: "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا "(البقرة:
275)، وقال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ "(النساء:
29). روى ابنُ أبي الدنيا في كتابه "إصلاح
المال" عن نعيم بن عبدالرحمن: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"عليكم
بالتجارة؛ فإن فيها تسعةَ أعشار الرزق"(ضعيف).
وينبغي أن تقوم التجارة على الصدق في المعاملة،
والبُعد عن كافة البيوع المحرَّمة، والذي يتدبر القرآنَ الكريم والسنَّة المطهرة يتبين
له - بجَلاء - ما حرَّمه الله ورسولُه في هذا الجانب؛ فقد حرم الإسلام الخمر والاتجار
فيها، ولعن كلَّ مَن له صلة بها، كما حرَّم الغش والاحتكار، وحرم الربا، والغَبْن،
والغصب، والسرقة، وكافة المعاملات التي بها ضرر للغير؛
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:"مَن غشنا فليس منا"(مسلم)،
وعنه صلى الله عليه وسلم قال:"التاجر الصَّدُوق الأمين المسلِم مع النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء يوم القيامة"(الدارقطني)،
وقال صلى الله عليه وسلم: "رحِم الله رجُلًا
سَمْحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى"(البخاري والترمذي).
وعنه صلى الله عليه وسلم قال:"البَيِّعانِ بالخيار حتى يفترقا، فإن صدَقا وبيَّنَّا بورِكَ لهما في بيعهما، وإن كتَمَا وكذَبَا مُحِقَتْ بركةُ بيعهما"(البخاري ومسلم)،
عباد الله أقول ماتسمعون وأستغفر الله العظيم
لي ولكم
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول
الله أما بعد:
حتي يكتمل إعمار الأرض لابد من العمل الدؤب
فيأيُّها الناس، ولكي يكتملَ إعمار الأرض لا بد مِن العمل الدؤوب لتحقيق ذلك، وقد امتلأ القرآن الكريم بالآيات التي توزعت على الكثير من سوره، اقترن فيها الإيمانُ بالعمل الصالح، الذي يكون مردودُه بالإيجاب على الفرد والمجتمع؛ قال تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا"(الكهف/30)،
بل إن اللهَ تعالى أمَرنا على سبيل
الوجوب بهذا العمل؛ قال سبحانه:"وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"(التوبة: 105).
وأكَّدت السنَّة الشريفة على ذلك؛ فقد روى أن رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم قال:"لأن يحتطب أحدُكم حزمة على ظهره، خيرٌ له مِن أن
يسأل الناسَ، أعطَوْه أو منعوه"(البخاري).وقال صلى الله عليه وسلم :"كان داود عليه السلام
لا يأكلُ إلا مِن عمل يده"( البخاري).
عباد الله:" والعمل يصلُ إلى مرحلة العبادة إذا ابتُغِيَ به وجهُ
الله، ولم يتعطل بسببه فرضٌ مكتوب على المسلم؛ روى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان
جالسًا مع أصحابه ذات يوم، فنظروا إلى شاب ذي جلَد وقوة وقد بكَّر يسعى، فقالوا: ويحَ
هذا؛ لو كان شبابُه وجَلَدُه في سبيل الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا
تقولوا هذا؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى
على أبوينِ شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يُعفُّها فهو
في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان"(الطبراني
والبيهقي).
عباد الله:" إن المسلمَ مطالَب بتعمير
هذه الأرض بعقيدة راسخة، بعلم نافع، بعمل متقن، بصدق تعامل، بأداءِ أمانةٍ، بوفاء وعد،
بسلوك رشيد، بإنتاج جيد، بعيدًا عن التكبُّرِ والغرور والجشَع والطمع، وكل ما يُخِلُّ
بالفطرة الإنسانية التي فطَر اللهُ الناس عليها، وهذا الزمن الذي نعيشه، وواقعنا الذي
نحياه أحوج ما نكون فيه إلى العمل والإعمار مِن غيره، بعدما تخلَّف بنا الرَّكْب، ودب
النزاع والشقاق بيننا، فهل مِن مدَّكِر؟ وهل مِن مستجيب؟!اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ..اللهم اتنا في
الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..
عباد الله أقول قولي هذا وقوموا إلي صلاتكم يرحمكم الله وَزأقم الصلاة