هل يفضح الله عز وجل عاصيا بأول مرة أم بعد التكرار؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحبه، أما بعد:
قال تعالي:"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ
الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ"(محمد/31).
ستر الله على عبده ليس على إطلاقه
فالله تبارك وتعالى موصوف بالحياء والستر،
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل حيي ستير، يحب الحياء والستر"(أحمد
وأبو داود والنسائي).
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه: لا يستر الله على
عبد في الدنيا، إلا ستره الله يوم القيامة"( مسلم).
قال ابن قتيبة في (مشكل الحديث): معنى ستير
أي ساتر، يستر على عباده كثيرا من عيوبهم، ولا يظهرها عليهم، وستير بمعنى ساتر، كما
جاء قدير بمعنى قادر، وعليم بمعنى عالم. اهـ. وستِّير، أي: يحب الستر لعباده المؤمنين ستر عوراتهم،
وستر ذنوبهم، فيأمرهم أن يستروا عوراتهم، وأن لا يجاهروا بمعاصيهم في الدنيا، وهو يسترها
عليهم في الآخرة،
وقال ابن القيم في نونيته:
وَهُوَ الْحَيِي فَلَيْسَ يفضح عَبده
عِنْد التجاهر مِنْهُ بالعصيان
لكنه يلقِي عَلَيْهِ ستـــــــــره
فَهُوَ الستير وَصَاحب الغفران
والستر يكون في الدنيا وفي الآخرة
وكما يستر الله العبد في الدنيا يستره
يوم القيامة وهذا أعظم شيء أن يستر العبد ويدخل الجنة كما في حديث ابن عمر أنه سمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل حتى
يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي رب أعرف. قال: فإني قد سترتها
عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم. فيعطى صحيفة حسناته. وأما الكفار والمنافقون
فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله"(متفق عليه).
فهذا يدل على أن الله تعالى يستر عبده المؤمن
المستتر بالمعصية في الدنيا، ثم يتم عليه ستره يوم القيامة.
قال ابن حجر في (فتح الباري): العصاة من المؤمنين في القيامة على قسمين: أحدهما: من معصيته بينه وبين ربه، فدل حديث ابن عمر على أن هذا القسم على قسمين: قسم: تكون معصيته مستورة في الدنيا، فهذا الذي يسترها الله عليه في القيامة، وهو بالمنطوق. وقسم: تكون معصيته مجاهرة، فدل مفهومه على أنه بخلاف ذلك. اهـ.
هل يفضح الله عز وجل عاصيا بأول
مرة أم بعد التكرار؟
فهذا محل خلاف بين أهل العلم.وفيه قولان
للعلماء،
الأول :" نعم قد يكسق الله ستره
عن العبد لأول ذنب قاله ابن عقيل ، واعترض على من قال بالثاني قائلاً:" ترى آدم هل كان عصى قبل أكل الشجرة بماذا؟ فسَكَّت.
اهـ.
والثاني مروي عن عمر وغيره من الصحابة،
وأثر عمر هذا أورده ابن كثير في (مسند الفاروق) بإسناد ابن خزيمة من طريق حميد عن أنس
أن عمر أتي بشاب قد حلَّ عليه القطع، فأمر بقطعه، فجعل يقول: يا ويله، ما سرقت قط قبلها
! فقال عمر: كذبت ورب عمر، ما أسلم الله عبدا عند أول ذنب.ثم قال: إسناده صحيح، وقد
استدلوا به على أنه إذا قذف رجلا فلم يحد القاذف حتى زنا المقذوف، فإنه لا يحد القاذف؛
لأنا استدللنا بذلك على تقدم زناه قبل القذف، والحدود تدرأ بالشبهات. اهـ.
لكن الله عز وجل بحكمته قد يفضح بعض عباده
ويرفع ستره عنهم، كما جاء في الحديث: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه،
لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم
تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله"(الترمذي، وصححه
ابن حبان).
ومن سعة ستر الله سبحانه أنه لا يهتك ستر
عبده عند أول ذنب، أخرج أبو داود في الزهد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ قَالَ: أُتِيَ
عُمَرُ بِشَابٍّ قَدْ سَرَقَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُ قَبْلَهَا قَطُّ: فَقَالَ
عُمَرُ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ، مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسْلِمَ عَبْدًا عِنْدَ أَوَّلِ
ذَنْبٍ.
ووردت هذه القصة براويم أخري أن الذي جاءت
هي أمه تبكي وتقول أعفوا عن ابني فإنه أول مرة يسرق فاستحلفه عمر بن الخطاب رضي الله
عنه أن يصارحه هل هي أول مرة أم لا فقال السارق ليست بأول مرة فقال عمر بن الخطاب:
" الله أقرب من أن يفضح عبده من أول مرة "
في الفضيحة حكم وعظات
وعبر لمن أراد أن يعتبر
الفضيحة خزي وعار وشنار إلا أن حكمة الله تعالى قد
تقتضي في بعض الأحيان في حق بعض الناس أن يرفع الله عنه ستره، ويظهر عيبه أو ذنبه لبعض
خلقه، إما تعجيلا للعقوبة، أو تنبيها وزجرا للمؤمن، أو عبرة لمن يعتبر، أو غير ذلك
من الحكم التي لا نحيط بها علما، فيبقى المؤمن راجيا عفو الله وستره، خائفا من مكره
وعقابه؛ قال تعالى:"أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ
إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ"(الأعراف: 99). وقال تعالي :"وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ
لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ"(فاطر: 10).
قال ابن عطية:"يَمْكُرُونَ" معناه يتخابثون
ويخدعون، وهم يظهرون أنهم لا يفعلون، ويَبُورُ معناه يفسد، ويبقى لا نفع فيه. اهـ.
هل الفضيحة ابتلاء ونوع من العقوبة ؟
والفضح نوع من العقوبة،وهي ابتلاء قال تعالي:"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ"(محمد/31).
قال القرطبي:" ونبلو أخباركم : نختبرها ونظهرها
. قال إبراهيم بن الأشعث : كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال :"اللهم
لا تبتلنا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا".
وهل في ذلك خير للعبد؟
وقد تكون خيراً للعبد، فيكفر بها من خطاياه وذنوبه .. وتكون سبباً لتوبته وأوبته، كما أن الستر ليس خيراً للعبد على كل حال، فقد يكون مكراً واستدراجاً للعبد، فليس كل من ستر الله عليه خيراً من كل من كُشِف عنه الستر، وإذا أراد الله فضح عبد، فقد تقع الفضيحة من العبد نفسه، فيكشف الستر عن نفسه،
وقد يزين
له الشيطان ذلك فيدعوه إلى الفضيحة، أو يدعو غيره إلى ذلك، ولا يقع شيء من ذلك إلا
بتقدير الله تعالى، فكل شيء بقدر، فالله تعالى إن شاء ستر عبده، وإن شاء فضحه، والفضيحة
قد تقع من العبد نفسه، وقد تقع من غيره، والشيطان يحب الفضيحة ويسعى إليها، ولا يخرج
شيء عن قدر الله تعالى، وقد يستر الله العبد مدة، ثم يفضحه، ولله في ذلك الحكمة التامة
سبحانه.
فائدة:"اعلم أنَّ السَّتَّار ليس من
أسمائه تعالى، ولم يرد ما يدل على ذلك، خلاف ما هو شائع عند عوام الناس". اهـ.
وصلي اللهم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم