
ويل للأعقاب من النار
هل يمسح الرجلين أم يغسلهما ؟
لاتصح الصلاة بدون الوضوء ولايصح
الوضوء إلا بإسباغه والتحرز من عدم ترك عضو من أعضاء الوضوء وهي غسل الوجه واليدين
إلي المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين لقوله تعالي :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ
أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"
(المائدة/6).
عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنة
الغسل . وهذا أيضا إسناد صحيح .
وفي حديث أميري المؤمنين عثمان وعلي وابن
عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب ; أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه ، إما مرة ، وإما مرتين ، أو ثلاثا ، على اختلاف رواياتهم
.
وفي حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده
، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ، ثم قال : " هذا وضوء لا
يقبل الله الصلاة إلا به " .
وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة وفي
صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أسبغوا الوضوء ،
ويل للأعقاب من النار " .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي
الله عنهما قَالَ :"تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِي صلى الله عليه
وسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاَةُ
وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا ، فَنَادَى بِأَعْلَى
صَوْتِهِ : وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ . مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا"(
البخاري ومسلم ).
وفي رواية أخري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ
:" رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ
إِلَى الْمَدِينَةِ ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ
الْعَصْرِ ، فَتَوَضَّئُوا وَهُمْ عِجَالٌ ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ
تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ"(مسلم).
وقد روي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة
رضوان الله عليهم ، كما قال الإمام الترمذي رحمه الله – بعد أن روى الحديث نفسه عن
أبي هريرة رضي الله عنه - :
وفي الباب عن عبد الله بن عمرو ، وعائشة
، وجابر ، وعبد الله بن الحارث ، ومعيقيب ، وخالد بن الوليد ، وشرحبيل ابن حسنة ، وعمرو
بن العاص ، ويزيد بن أبي سفيان " انتهى." سنن الترمذي " (1/96)
وراوي الحديث هو الصحابي الجليل عبد الله
بن عمرو بن العاص ، وكان من علماء الصحابة ومن المكثرين مِن الرواية ، فقد كان يَكتب
كل شيء يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في صحف خاصة عنده ، حتى اشتهرت إحدى صحائفه
التي سماها بـ " الصادقة "، توفي ليالي الحرة بالطائف.
( تخلف عنا ) : أي تأخر عنا .وأرهقتنا الصلاة ) : أي كاد وقتها أن يخرج .يقول بدر الدين العيني رحمه
الله :
" أي : غشيتنا الصلاة . أي : حملتنا
الصلاة على أدائها . وقيل قد أعجلتنا لضيق وقتها . وقال القاضي : ومنه المراهق بالفتح
في الحج ، ويقال بالكسر : وهو الذي أعجله ضيق الوقت أن يطوف " انتهى.
( ويل ) : اختلف العلماء في معناها ، فمنهم
من قال : هو واد في جهنم ، ومنهم من قال غير ذلك ، والجميع متفق على أنها كلمة وعيد
وتخويف وتهديد .
يقول بدر الدين العيني رحمه الله :"
ويل من المصادر التي لا أفعال لها وهي كلمة عذاب وهلاك " انتهى.
" عمدة القاري " (2/9)( الأعقاب
) : جمع عقب ، وهو مؤخر القدم .
1- وجوب غسل الرجلين في الوضوء ، وعدم إجزاء المسح من غير غسل ، نأخذ ذلك من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة مسحهم أرجلهم مسحا سريعا من غير غسل وإجراء للماء عليها ، وهذا الحكم متفق عليه بين مذاهب المسلمين الأربعة، ولذلك بوب عليه الإمام البخاري بقوله : " باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين " انتهى. " صحيح البخاري " (كتاب الوضوء/ باب رقم 27)،
وقال الإمام الترمذي رحمه الله : " وفقه هذا الحديث أنه لا يجوز المسح على القدمين إذا لم يكن عليهما خفان أو جوربان " انتهى. " سنن الترمذي " (1/96) وبوب عليه النسائي بقوله : باب إيجاب غسل الرجلين . " سنن النسائي " (كتاب الطهارة/ باب رقم 89)، كما بوب عليه البيهقي رحمه الله بقوله : " باب الدليل على أن فرض الرجلين الغسل وأن مسحهما لا يجزئ " انتهى. " السنن الكبرى " (1/68)،
وبوب عليه الإمام ابن خزيمة بقوله : " باب
التغليظ في ترك غسل العقبين في الوضوء ، والدليل على أن الفرض غسل القدمين لا مسحهما
إذا كانتا غير مغطيتين بالخف أو ما يقوم مقام الخف ، لا على ما زعمت الروافض أن الفرض
مسح القدمين لا غسلهما ، إذ لو كان الماسح على القدمين مؤديا للفرض لما جاز أن يقال
لتاركٍ فضيلةً : ويل له " انتهى. " صحيح ابن خزيمة " (1/83)
وجوب تعميم أعضاء الوضوء بالغسل ، وذلك بإيصال الماء إلى جميع أجزاء أعضاء الوضوء وعدم ترك أي محل منها ، نجد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : ( ويل للأعقاب من النار ) فتخصيصه ذكر الأعقاب لأنها في مؤخرة القدم، فهي مظنة لعدم وصول الماء إليها لمن لم يتعاهدها بذلك ، فدل على ضرورة العناية بإسباغ الوضوء في محل الفرض .
وقد استنبط الإمام البخاري رحمه الله هذه الفائدة
من الحديث في إحدى المواضع التي أخرجه فيها ، فقال : " باب غسل الرجلين ولا يمسح
على القدمين " انتهى. " صحيح البخاري " (كتاب الوضوء/باب رقم 27) وبوب
النووي رحمه الله على هذا الحديث في " شرح مسلم " بقوله : باب وجوب غسل الرجلين
بكمالهما . " صحيح مسلم " (كتاب الوضوء/باب رقم 9). وبوب عليه أبو داود في
سننه : باب في إسباغ الوضوء . " سنن أبي داود " (كتاب الطهارة، باب رقم
46)
الفوائد الأخرى المستنبطة من الحديث .
مايستفاد من الحديث للمتأمل في حديث ويل للأعقاب من النار يجد فيها فوائد كثيرة ، منها :
شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه
، حيث كان يتأخر عن القافلة ويمشي آخرها كي يعين ضعيفهم ويحمل عاجزهم ويتفقد أحوالهم
.
حرص الصحابة رضوان الله عليهم على أداء
الصلاة وعدم تأخيرها عن وقتها ولو كانوا في حال السفر والتعب والنصب .
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم
أصحابه وبيان الحكم الشرعي عند حاجتهم إليها ، وعدم سكوته صلى الله عليه وسلم عن الخطأ
إن وقع منهم .
وفي الحديث فائدةٌ نبَّه عليها البخاري
رحمه الله بقوله في تبويب الحديث بقوله : " باب من رفع صوته بالعلم " انتهى.
صحيح البخاري " (كتاب العلم/باب رقم 3).
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" واستدل المصنف على جواز رفع الصوت بالعلم بقوله : ( فنادى بأعلى صوته ) ، وإنما
يتم الاستدلال بذلك حيث تدعو الحاجة إليه لبعد أو كثرة جمع أو غير ذلك ، ويلحق بذلك
ما إذا كان في موعظة كما ثبت ذلك في حديث جابر : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته ) الحديث أخرجه مسلم " انتهى. " فتح
الباري " (1/143)
وفي قول الراوي رضي الله عنه ( مرتين
أو ثلاثا ) دليل أيضا على الأسلوب التعليمي النافع الذي كان يستعمله صلى الله عليه
وسلم ، وذلك بتكرار الكلام بالعلم كي يحفظ عنه المستمعون ويتثبت المتشككون ، وقد أخرج
البخاري الحديث أيضا في موقع آخر وبوب عليه بقوله : باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم
عنه . " صحيح البخاري " (كتاب العلم/ باب رقم 30)
وفي الحديث أيضا تذكير المسلم بضرورة
تحري موافقة الشريعة في جميع أفعاله وأقواله ، ولا يتهاون في شيء منها ، فقد توعد النبي
صلى الله عليه وسلم أولئك الذين لا يبلغ الماء أعقابهم في الوضوء بالويل والنار يوم
القيامة ، وهو أمر يسير في نظر كثير من الناس ، ولكنه عند الله عظيم ، فليحذر المسلمون
أن يتهاون فيما قد يكون سبب هلاكه في الآخرة ، وقد قال الله تعالى : ( وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ )
النور/15.
ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف ، فقد ضل وأضل . وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضا ، ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث ، وأوجب مسحهما للآية ، فلم يحقق مذهبه في ذلك ، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء ; لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك ، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما ،
ولكنه
عبر عن الدلك بالمسح ، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين
ومسحهما ، فحكاه من حكاه كذلك ; ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور فإنه لا معنى
للجمع بين المسح والغسل ، سواء تقدمه أو تأخر عليه ; لاندراجه فيه ، وإنما أراد الرجل
ما ذكرته ، والله أعلم . ثم تأملت كلامه أيضا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين ،
في قوله : ( وأرجلكم ) خفضا على المسح وهو الدلك ونصبا على الغسل ، فأوجبهما أخذا بالجمع
بين هذه وهذه .(تفسير ابن كثير).
والله أعلم .