من هو العاقل ؟ وما هي علامات العقل ؟ ومن هم العقلاء ؟
الحمدلله والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد:"
العقل نعمة عظمى يجب أن يشكر المولى عليها شكراً عملياً ، وذلك بحفظ العقل مما يفسد صلاحه .
والعقل دواء القلوب ، وشفاء الصدور ، وتاج المؤمن في الدنيا ، وقائده إلى الآخرة ، وعدته في النوائب ، لا يعدله شيء ، ولا يوازيه أمر ، إذا تم العقل تم معه كل شيء ، وإذا ذهب العقل فلا قيمة لشيء .
ولا يكمل الدين إلا بالعقل ، ولا يجمل الحياء إلا بالعقل ، فهما تابعان له كما أن العقل إذا حرم نور الدين وبصيرة الهدى فهو وبال على صاحبه ، وحسرة على حامله
العاقل هو من يعقل عن الله ، ويؤمن به حق الإيمان ، ويذعن لحكمه ، ويتبع رسله.
العاقل الدين شريعته ، والحلم طبيعته ، والرأي الحسن سجيته ، إن نطق أصاب ، وإن سمع وعى ، وإن كلم أجاب .
وقيل : للعاقل خصال يعرف بها :
يحلم عمن ظلمه ،ويتواضع لمن هو مثله ، ويسابق بالبر من هو فوقه ،
وإذا رأى باب فرصة انتهزها ، يتدبر ثم يتكلم ،
وإن عرضت فتنة اعتصم بالله ثم تنكبها .
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال :" أتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عاشرَ عشرةٍ , فقال رجلٌ من الأنصارِ :"من أكيَسُ النَّاسِ وأكرمُ النَّاسِ يا رسولَ اللهِ ؟ فقال : أكثرُهم ذِكرًا للموتِ وأشدُّهم استعدادًا له أولئك هم الأكياسُ ذهبوا بشرفِ الدُّنيا وكرامةِ الآخرةِ"(ابن ماجه).
وفي رواية أخري عن عبدالله بن عمر قال :"كُنتُ معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ ، فجاءَهُ رجلٌ منَ الأنصارِ ، فَسلَّمَ على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ ، ثمَّ قالَ:"يا رسولَ اللَّهِ أيُّ المؤمنينَ أفضلُ ؟ قالَ:"أَحسنُهُم خُلقًا ، قالَ : فأيُّ المؤمنينَ أَكْيَسُ ؟ قالَ : أَكْثرُهُم للمَوتِ ذِكْرًا ، وأحسنُهُم لما بعدَهُ استِعدادًا ، أولئِكَ الأَكْياسُ"(ابن ماجه).
العاقِلُ هو مَن يَسيرُ في حياتِه وعَينُه على آخِرَتِه؛ لأنَّ مَن صحَّت بِدايتُه استَقامَتْ نِهايتُه، ومَن تَذكَّرَ الموتَ ومُصيبتَه هانَت عليه جميعُ المصائبِ وأحسَنَ العملَ.
الرَّجلُ يسأل :"فأيُّ المؤمِنين أكيَسُ؟"، والكَيْسُ: العَقْلُ والفِطْنةُ، فهل يقول الرسول الكيس الفطن هو الذي جمع مالاً وعدده ؟
وإنما يقول:"أكثَرُهم للمَوتِ ذِكْرًا، وأحسَنُهم لِمَا بعْدَه استِعْدادًا؛ أولئكَ الأَكْياسُ العُقَلاءُ،
العاقل لا يقدم اللذة العاجلة والمتعة الزائلة على الحياة الدائمة والنعيم المقيم ، فإن الحياة مهما طالت ، والعمر مهما امتد ، والدنيا مهما أقبلت فلابد من الرحيل ، ولا مناص من الفراق ، وهناك الدوام ، إما في الشقاء وإما في النعيم .
العاقل يعلم أن الحياة الدنيا دار مرور وعبور ، وأنها لهو ولعب وتفاخر وزينة ، وأنها أشبه براكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها .
العاقل لا يتبع هواه ، ولا ينقاد لشهوته ، لأن الهوى ينتج من الأخلاق قبائحها ، ويظهر من الأفعال فضائحها ، ومن أطاع هواه أعطى عدوه مناه ، فالعقل صديق مقطوع ، والهوى عدو متبوع .
قال تعالي:"أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا "(الفرقان/44,43).
العاقل لا يقدم عقله على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يجعل الشرع تبعا لرأيه .
العاقل يعرف بسكونه وسكوته ، وخفض بصره وحركته في أماكنها اللائقة بها ، ومراقبته للعواقب ، فلا تستفزه شهوة عاجلة عاقبتها ضرر ، ينظر في الأمور فيتخير الأعلى والأحمد عاقبة ، من مطعم ومشرب وملبس وقول وفعل ، ويترك ما يخشى ضرره ، ويستعد لما يمكن وقوعه .
اللهم متعنا بعقولنا ، اللهم عمر قلوبنا وعقولنا بحبك وحب من يحبك ، اللهم نور أبصارنا ، وزك نفوسنا ، واحفظ من الزيغ أفكارنا وعقولنا .
وحين خلق الله تعالى الإنسان ؛ كرّمه ورفع قدره بأعظم نعمة وهبها إياه ، ألا وهي نعمة العقل ، وجعل الله تعالى كمال الرجل مقترناً بكمال عقله ؛وجعل ربنا تعالى العقل مناط التكليف ، فلا يُكَلَّفُ إلا عاقل ، وإذا غاب العقل سقطت التكاليف .
العقل زينة الرجال ، وكمال الجمال ، وجمال الفِعال ... إذا كان في أُسرة رجل عاقل أو امرأة ؛ رفعوا سقف الأسرة إلى عنان السماء ، وصارت الأسرة مفخرة للأبناء ، يرمقها الناس بأبصارهم غبطةً وثناء ، ويتقاطرون إليها بغيةَ نيل رأي العقلاء.
بالعقل أَدرك الناس معرفةَ الله عزَّ وجلّ.
وحين يتراءى لك شخص ؛ فإنه يستتر بالسكوت حتى ينطق ، فإذا نطق ظهرت قوة عقله من ضعفه ، وما ذاك إلا لأن اللسان ترجمان العقل ودليل عليه ،قال بعض الحكماء: على العاقل أنْ يكون عالماً بأهل زمانه ، مالِكاً للسانه ، مُقْبِلاً على شانه. وقال الحسن البَصْريّ: لسانُ العاقل من وَراء قَلْبه، فإذا أراد الكلامَ تفكّر، فإن كان له قال، وإن كان عليه سكت.
ويظهر عقل العقلاء في صور وأنماطٍ شتى ، فمنها
التغافل عن كثير من سفاسف الأمور التي لو تفطن لها المرء لتكدرت الحياة ولم تصفُ لأحد ، فيمر العقلاء عليها مرور الكرام ، ويجعلونها طي النسيان ، بل طي الغفلة وعدم الفطنة ، وليس بهم غفلة ، ولكنه التجافي عن صغائر الأمور كرماً منهم وعقلاً .
وها هو العاقل من الرجال يدخل بيته فيرى صوراً شتى من الملاحظات ؛ تثير حفيظته وتبعث غضبه، فيطويها كلَّها ، ويبتلع مرارةَ غضبِه ، فيُظهر لأهله سرورَه بالمظاهر الحسنة ، لتكون تقدِمةً لاقتراح إصلاح بعض الملاحظات ، فتقع اقتراحاته موقع القبول من أهله ، ويبتدرونها مصلِحين.
ويظهر عقل العاقل ورجاحته بأن ترى الشخص مُنزِلاً الناسَ منازلَهم ، إذ يعرف للكبير حقه ، ولذي الوجاهة وجاهته ،ويحفظ لذوي الهيئات مكانتَهم ، يوقر العلماء ويُعلي مكانتهم ، ويرحم الضعفاء ، ويعطي كلَ ذي حق حقه ، فلا يبخس الحقوق ، ولا يظلم ، ولا يحقِر غيره ، ولا يشمت بأهل العاهات ، ولا يعيِّر أهل البلوى.
كريم سخي خلوق حيي ، يعطي بِلا منٍّ وينسى هباتِه، ويشكر جهود الآخرين ولو قلَّت ويحفظها لهم.
ومن مظاهر العقل عند العقلاء :
حسنُ التدبير لشؤون حياتهم ، وإدارةُ أموالهم بصورة حسنة. فإذا تيسر للعاقل شيء من المال ؛ فإنه يحسن التصرفَ فيه ، ويصرفه بعقل وروية ، دون تلاعب أو إسراف أو تبذير
حسنُ المشي ، والاعتدالُ في النظر ، والتريثُ عند الإجابة
والعاقل الرزين لا يغتر بنصح الكذابين ، ولا يطمئن إليهم .
والعاقل الرزين غير قابل للخديعة ومكر الماكرين ، ويردعه دينه وعقله أن يمكر بأحد أو يخدعَه
ومن صفات العقلاء ذوي الألباب كثرةُ مشاورتهم لأهل العقول ، وأخذُ رأيهم في ما يهمهم من أمور ، وعدمُ الاستبداد بالرأي ؛ لأنهم يرون أن من استبد برأيه هلك ، فتراهم يستشيرون أهل الخبرة ،ويجمعون الأدلة ، ويرجحون بين الآراء.
ومن صفات العقلاء:
تدثرُّهم بدثار الحياء ، والتحلي بمكارم الأخلاق ، والخروج إلى الناس بمظهر الرجولة ، ويأخذون على أنفسهم عهداً ألا يرى الناس منهم ما يشين.
ومن صفات العقلاء: أنهم يعْفون عمن ظلمهم ، ويتواضعون لمن هم دونهم ، ويسابقون إلى البِر مَن فوقَهم ، يتطلعون إلى أبواب البر والإحسان ، وإذا انفتح أمامهم باب شرٍّ وفتنة اعتصموا بربهم وسألوه العصمة والثبات.
ومن صفات العقلاء حسنُ اختيار الرجال ، وصياغةُ المقال ، وحسنُ المنطق ، قال يحيى بن خالد: ثلاثةُ أشياء تدلُّ على عُقول أرْبابها: الكتاب يدُل على عقل كاتبه، والرسولُ يَدُل على عقل مُرْسِله، والهديَّةُ تدل على عقل مُهديها.
ومن علامات عقل الرجل ورجاحته: حرصُه ألا يبدرَ منه ما يشينه ، أو ينتقده الناس بفعله ، فيتجافى عما يعده الناس من خوارم المروءة ، ولا يأتي إلا ما يحمده الناس عليه أو يسكتون عنه ، فإن أكل أكل بأدب ، وإن مشى مشى بتؤدة ، وإن تحدث أتى بأحاديث الرجال ، وإن شاوره أحد ؛ وجد لديه رأياً ناضجاً ونصحاً ورحمة ، وإن لبِس ثياباً اختار لنفسه ما يلبسه الآخرون دون أن يكون لباس شهرة يتميز به دونهم.
ومن علامات عقل الرجل أن تراه متضامناً مع المحيطين به مندمجاً بهم ، فيُسَرُّ لما يسرهم ، ويضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما منه يتعجبون ، ويُجيب دعوتهم ، ويحضر مجالسهم ، ويشاركهم الحديث والرأي والمشورة ، كل ذلك فيما أباحه الله تعالى دون الانخراط معهم في المحرمات ، وهذا هو ديدن معلم البشرية ومربيها على الخيرات ـ صلى الله عليه وسلم :"كَانَ يَضْحَكُ مِمّا يُضْحَكُ مِنْهُ وَهُوَ مِمّا يُتَعَجّبُ مِنْ مِثْلِهِ وَيُسْتَغْرَبُ وُقُوعُهُ وَيُسْتَنْدَرُ"( زاد المعاد).
ومن العلامات الكبرى على عقل الرجل: أن تراه متديناً صالحاً مقَدِّماً أمور دينه وما ينفعه عند ربه على شهوات نفسه ، وها نحن نرى كتاب ربنا يفيض بالثناء على أولي العقول:" إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّأُوْلِى ٱلنُّهَىٰ "(طه - 54) .و هَلْ فِى ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ (الفجر - 5) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ 10العاقل يعمل و لا ينطِق !
فأعقَلُ النَّاسِ هو:" الَّذي يَرى الأمورَ على حَقيقتِها، فلا تَخدَعُه المظاهِرُ ولا تُلْهيه السَّفاسِفُ عن إداركِ الحقائقِ، فهو يَرى الدُّنيا على حقيقتِها، دارَ ابتِلاءٍ وامْتِحانٍ، كما قال تَعالى:"الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا"(الملك: 2).، وغايَتُها أن تَكونَ قَنْطَرةً يَعبُرُ عليها إلى الدَّارِ الآخِرةِ، ومَرحَلةُ يتَزوَّدُ الإنسانُ منها إلى الآخِرَةِ، ولأنَّ مَن صدَقَ في ذِكْرِه للمَوتِ فرَّ إلى اللهِ ومَن صدَق فِرارُه إلى اللهِ، صدَقَت توبتُه وإنابتُه إلى ربِّه، وصدَق في سَيرِه وهَدْيِه على صراطِ اللهِ حتَّى يَلْقى اللهَ تبارك وتعالى.
اللهم متعنا بوافر العقول ، وآتنا الحكمة ، وأصلح أعمالنا وسرائرنا.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل