
الإنصاف في حل مسائل الخلاف
هل يجوز جعل الطابق
الذي تحت المسجد محلات وجراج تؤجر لصالح المسجد من أجل سد حاجاته؟
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه، أما بعد:
هذا الأمر ممااختلف فيه بين الفقهاء فبعضهم أجاز إنشاء مبنى من عدة طوابق بعضها للمسجد, وبعضها
يخصص - كقاعة اجتماعات, أو نحوها - مع تخصيص الطابق السفلي لمحلات تجارية, جعل الطابق الذي تحت المسجد حوانيت تؤجر لصالح المسجد
من أجل سد حاجاته. اهـ.
واشترطوا ألا يتضمن تقسيم العمارة على النحو المذكور ما
يخالف شرطًا اشترطه من أوقف المال لبناء المسجد؛ لأن شرط الواقف معتبر، ففي شرح
الخرشي لمختصر خليل المالكي: يعني أن الواقف إذا شرط في كتاب وقفه شروطًا, فإنه
يجب اتباعها حسب الإمكان إن كانت تلك الشروط جائزة؛ لأن ألفاظ الواقف كألفاظ
الشارع في وجوب الاتباع. انتهى.
ولا بد أولاً من
بيان حكم ساحة المسجد، وهل هي من المسجد أو لا؟ كما جاء في الموسوعة الفقهية:
أما رحبة المسجد، وهي ساحته التي زيدت بالقرب من
المسجد لتوسعته، وكانت محجراً عليها فالذي يفهم من كلام الحنفية والمالكية
والحنابلة في الصحيح من المذهب أنها ليست من المسجد، ومقابل الصحيح عندهم أنها من
المسجد، وجمع أبو يعلى بين الروايتين بأن الرحبة المحوطة وعليها باب هي من المسجد،
وذهب الشافعية إلى أن رحبة المسجد من المسجد، فلو اعتكف فيها صح اعتكافه. اهـ.
وذكر في الإنصاف
أنها إن كانت محوطة فهي منه وإلا فلا،
وقال بعضهم :" ما كان حائط المسجد شاملاً
ومُدخلاً له في المسجد فهو من المسجد، وما كان خارج محيط المسجد فهو خارج المسجد. اهـ
وعليه، فمتى كان لهذه الساحة حكم المسجد لم يجز
فتح المحال التجارية فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع
في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك."(الترمذي).
وعن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في
المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار.."( الترمذي وأبو داود وغيرهما). .
ولهذا ذهب جماهير
أهل العلم إلى كراهة البيع والشراء في المسجد، سواء كانت السلعة حاضرة أو غائبة
موصوفة، وذهب بعض أهل العلم إلى تحريم البيع والشراء في المسجد، مع اتفاق الجميع
على أن ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه.
قال الشوكاني رحمه
الله في نيل الأوطار:"أما البيع والشراء "أي في المسجد" فذهب جمهور
العلماء إلى أن النهي محمول على الكراهة، قال العراقي: وقد أجمع العلماء على أن ما
عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه. وهكذا قال المارودي. وأنت خبير بأن حمل
النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند
القائلين بأن النهي حقيقة في التحريم، وهو الحق، وإجماعهم على عدم جواز النقض وصحة
العقد لا منافاة بينه وبين التحريم فلا يصح جعله قرينة لحمل النهي على الكراهة.
وذهب بعض أصحاب
الشافعي إلى أنه لا يكره البيع والشراء في المسجد، والأحاديث ترد عليه.
وفرق أصحاب أبي
حنيفة بين أن يغلب ذلك ويكثر فيكره، أو يقل فلا كراهة، وهو فرق لا دليل عليه".
اهـ
وقال المرداوي في
الانصاف: "لا يجوز البيع والشراء للمعتكف في المسجد وغيره على الصحيح من
المذهب، نص عليه في رواية حنبل، وجزم به القاضي وابنه أبو الحسين وغيره وصاحب
الوسيلة والإيضاح والشرح هنا وابن تميم، وقدمه في الفروع والرعاية الكبرى وغيرهما".
وعلى كل حال..
فالأولى بالمسلم الابتعاد عن البيع والشراء في المسجد، لأن هذا المكان بني لعبادة
الله تعالى، فلو جاء الناس بسلعهم إليه لبيعها فيه صار سوقاً، وفي موطأ مالك أن
عطاء بن يسار: كان إذا مر عليه بعض من يبيع في المسجد دعاه فسأله ما معك وما تريد؟
فإن أخبره أنه يريد أن يبيعه قال: عليك بسوق الدنيا وإنما هذا سوق الآخرة.
وفيه أن عمر بن
الخطاب بنى رحبة من ناحية المسجد تسمى البطحاء وقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد
شعراً أو يرفع صوتاً فليخرج إلى هذه الرحبة. ا هـ.
وبناء عليه:" متى
لم يكن لهذه الساحة حكم المسجد جاز فتح المحال التجارية فيها، لأن البيع والشراء
حينئذ ليس واقعاً في المسجد، وما ذكرته من كون ما يباع في هذه المحال غير معلوم،
فاعلم أن الأصل في المسلمين السلامة، وأنهم لا يبيعون إلا ما كان مباحاً، فإذا
اطلع على من يبيع شيئاً محرماً، وجب نهيه عن ذلك ومنعه منه بما أمكن من الوسائل،
وإذا كانت هذه المحال يُصرف ربحها في مصلحة المسجد فعلى القائمين على المسجد أن
ينظروا فيما يباع فيها، وأن يتحروا موافقة الشرع في ذلك وعدم مخالفته.
ونناشد وزارات
الأوقاف بمراعاة مثل هذه الأمور وبخاصة أن هذه الأماكن والمحال إذا يتم استغلالها
جيداً تعود بالنفع الوفير علي المسجد والانفاق عليه ..ويستفاد منها في عمارة المساجد..
هذا والله تعالي
أعلم