
شهادة الزمان والمكان والجوارح على الخلق
لفضيلة الشيخ عبدالناصربليح
الحمدُ للهِ رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد
أنَّ سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، الذي أرسلَهُ رحمةً للعالمين فأظهرَ الحقَّ
وأبادَ الفسَاد، صلَّى اللهُ وسلم عليه وعلى آله وأصحابهِ وأتباعهِ إلى يومِ الدِّين.أما
بعدُ: فيا أيها الناسُ اتقوا اللهَ:" الَّذِي
خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفُورُ"(الملك: 2)
أيها المسلمون:
أصل من أصول الإيمان أن نؤمن بالله
واليوم الآخر قال تعالى:"وَلَكِنَّ الْبِرَّمَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"(البقرة/177).وقال:"وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا"(النساء/ 136].
وفي حديث جبريل الذي أتاه صلي الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام
والإيمان والإحسان اولساعة قال :" فما الإيمانُ ؟ قال : أن تُؤمِنَ باللهِ
وملائكتِه والجنَّةِ والنَّارِ والبعثِ بعد الموتِ والقدَرِ كلِّه "(مسلم).
عباد الله :" ألاَ وإنَّ مِنْ أحداثِ اليومِ الآخرِ: نُطق الشهود عليك يوم القيامة، وهم: شهادة السماء والأرض، وشهادة يديك ورجليك، وشهادة بقية جوارحك، وشهادةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عليك، وشهادة الملائكة، وشهادة أعظم الشاهدين اللهُ جلَّ جلالُه،شهادةُ خير وأكبر الشاهدين: وهي خاتمةُ الشهاداتِ وأعلاها وأجلُّها، قال تعالى:"قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا"،
وقال تعالى:"قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ" ولكن ماذا سيحصلُ لكَ قبلَ هؤلاءِ الشهودِ يوم القيامة سيبعث المرء من قبره قال تعالى:" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"(يس: 51 – 54)،
وقال صلى الله عليه
وسلم:"إنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يومَ القِيَامَةِ، فأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ
عنهُ الأَرْضُ"(البخاري).
عباد الله :"ثم يحشر الناس لموقف الحساب عراة غورلاًقال تعالى:"وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا " وخَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فَقَالَ: يا أيها النَّاسُ إنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إلى اللهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، ثُمَّ قالَ:"كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ"(البخاري ومسلم)، ثمَّ يُحشرُ أهلُ الموقفِ فريقٌ إلى الجنةِ وفريقٌ على وجوههم إلى جهنم،
قال
تعالى:"يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا" وَنَسُوقُ
الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا "(مريم/86,85).
عباد الله ويأتي وقت الحساب قال تعالى:"إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ"(الغاشية/26).ويقول صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:"ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللهُ ليسَ بيْنَهُ وبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إلا مَا قَدَّمَ،
ويَنْظُرُ أَشْأَمَ منهُ فلا يَرَى إلا مَا قَدَّمَ، ويَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ
فلا يَرَى إلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فاتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"(مسلم)وقال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ نُوقِشَ
الحِسَابَ يَهْلِكْ"(البخاري ومسلم).
عباد الله :" سنطلبُ لأداءِ شهادةٍ
عظيمةٍ لأنبياء الله، فهل أنتَ مُستعدٌ لها؟كما صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "َيجِيءُ نُوحٌ
وأُمَّتُهُ، فيقُولُ اللهُ تعالى: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، فيَقُولُ
لأُمَّتِهِ: هلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لا ما جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فيَقُولُ
لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فيَقُولُ: محمدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأُمَّتُهُ،
فَنَشْهَدُ أنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ:"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَعَلَى النَّاسِ والوَسَطُ العَدْلُ"(البخاري).
أيها الناس :" وكما شهدنا علي الأنبياء تأتي شهادةُ الأرضِ والسماءِ : قال تعالى عن فرعون وقومه:" فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ، وهناك شاهد آخر أسفل منا، ونحن فوقه، نعيش على ظهره، إنها الأرض تشهد بكل ما عملنا عليها من خير أو شر،
كما قال الله تعالي:"يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا" قالَ صلي الله عليه وسلم :"أَتَدْرُونَ ما أَخْبَارُهَا؟ قالُوا: اللهُ ورسُولُهُ أَعْلَمُ، قالَ: فإنَّ أَخْبَارَهَا أنْ تَشْهَدَ على كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بما عَمِلَ على ظَهْرِهَا أنْ تَقُولَ:عَمِلَ كَذَا وكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، قالَ: فهذهِ أخْبَارُهَا"(الترمذي).
وقال
عليٌّ رضيَ اللهُ عنه:"إذا مَاتَ الْمُؤْمِنُ بَكَى عليهِ مُصَلاَّهُ مِن الأَرْضِ،
وبَابُهُ مِنَ السَّمَاءِ"( المروزي).
عباد الله:" وعلى هذه الأرض أشجار
وأحجار تشهد كذلك كما روي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم:" لا يسمع مدى صوت
المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة"(البخاري)..
قال العلماء: من عصى الله تعالى في موضع
من الأرض فليطعه في نفس الموضع حتى يشهد له بالحسنات، كما سيشهد له بالسيئات،:"إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ"(هود114).
فيا له والله من منظر مهول، هذه الأرض التي
طالما وطئناها بأقدامنا،وعملنا عليها الذنوب والمعاصي فأثقلناها بذلك بالخطايا والآثام،
ولم يشعر العاصي أنها ستنطق عليه، فتخبر بكل ما عمل عليها من زنا وقتل، وظلم وجور،
وكذب وسرقة، ومقارفة للحرام، كما أنها ستشهد بالصلاة، والذكر، والتسبيح، والسير في
الطاعات، والطواف، والسعي، وغير ذلك من المشي إلى العلم، وزيارة الإخوان، وغير ذلك
من أنواع القربات والطاعات، فلتكتب آثارك عليها يا عبد الله بالخير.
عباد الله:" وكم تشهد الأرض
والسماء كذلك النفس تشهد على ابن ادم وقد يقول قائل نفس الإنسان تشهد عليه؟ نعم و تكون
هذه الشهادة عند الاحتضار، حيث لا ينفع الندم، ولا يجدي الأسف في تلك اللحظات التي
يكون الواحد فيها في ذروة الحسرة، وشدة الألم، وتقفل أبواب التوبة ويعترف الإنسان ويشهد
على نفسه بالتقصير والتفريط، فأغلى أمانيه أن يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ"(المؤمنون/99).
ولكن الله يكذبه، ولكن الله تعالي يأبى ذلك ويقول: كَلَّا، وقد قال سبحانه في تكذيب
هذا الإنسان: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ"(الأنعام28).
وكذلك تشهد الكُفَّارِ على أنفسهم قال تعالي" وَشَهِدُواْ
عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ"(الأنعام/130).
وكذلك تشهد الأيدي والأرجلِ وبقيَّةُ الجوارحِ يومَ القيامةِ: قال تعالى:"الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ"(يس/65). وقال تعالى: "حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"(فصلت/20)، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث طويل:"..مَنْ ذا الذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ على فِيهِ، ويُقَالُ لِفَخِذِهِ ولَحْمِهِ وعِظَامِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ ولَحْمُهُ وعِظَامُهُ بعَمَلِهِ،
وذلكَ لِيُعْذرَ مِنْ نَفْسِهِ، وذلكَ الْمُنَافِقُ وذلكَ الذِي يَسْخَطُ اللهُ علَيْهِ"(مسلم)، و(عنْ أنسِ بنِ مالكٍ قالَ: كُنَّا عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فَضَحِكَ، فقالَ:"هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟» قالَ قُلْنَا: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، قالَ: مِنْ مُخَاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قالَ: يَقُولُ: بَلَى، قالَ: فَيَقُولُ: فإني لا أُجِيزُ على نَفْسِي إلا شَاهِدًا مِنِّي، قالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وبالْكِرَامِ الكَاتِبِينَ شُهُودًا، قالَ: فَيُخْتَمُ على فِيهِ، فيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي،
قالَ: فَتَنْطِقُ بأَعْمَالِهِ،
قالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلامِ، قالَ فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ
وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ"(مسلم).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة وزالسلام
علي أشرف المرسلين أمَّا بعدُ:
أيها المسلم: ومِن الشُّهودِ عليكَ يومَ
القيامةِ: شهادةُ نبيِّك محمد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: قال تعالى :"فَكَيْفَ
إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا"(النساء/41).
فكُلُّ نبيٍّ سَيَشْهدُ على أُمَّتهِ يومَ القيامةِ بأنه بلَّغها ما تقومُ به الحُجَّةُ
عليها،
عباد الله:" وسوف تشهد الملائكة علينا أولنا قال تعالى:"وَإِنَّ
عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ"
وقال تعالى:"وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ"
قال ابنُ كثير:"أيْ: مَلَكٌ يَسُوقُهُ إلى الْمَحْشَرِ، ومَلَكٌ يَشْهَدُ عليهِ
بأعْمَالِهِ"
العمر ينقص والذنوب تزيد وتقول عثرات الفتى فيعود
هل يستطيع جحود ذنب واحد رجل جوارحه عليه
شهود
يا من استترت من أعين الخلائق في الدنيا
ألم تعلم بأن الله يرى؟ ألم تعلم بأن الملائكة الكرام الكاتبين يحصون عليك كل صغيرة
وكبيرة؟ أين يهرب الواحد منا والأرض شاهدة عليه، والرسل والأنبياء شهود، والأيام والليالي
شهود، والملائكة شهود، والجوارح والأعضاء والجلود شهود، وكفى بالله شهيداً.
عباد الله:" وبعد أن ظهرت في ذلك اليوم أهوال لا توصف، وبدت أمور لا تعرف،
وكشفت حالات لم تكن تكشف، فيا من غفل ونام بادربالتوبة قبل يوم التناد..
وأقول قولي هذا وقوموا إلي صلاتكم يرحمكم الله ..