
المستثمر التقي و صناعة الاستثمار
الحمد لله رب العالمين ..وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه ولي الصالحين.. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله القائل :" لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنْ اتَّقَى اللهَ ، وَالصِّحَّةُ لِمَنْ اتَّقَى اللهَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى ، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النِّعَمِ"(أحمد).اللهم صلاة وسلاماً عليك ياسيدي يارسول الله وبعد فياجماعة الإسلام
يقول المولي عزوجل :"هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواإِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ"(هود/ 61).
إخوة الإسلام :" إن ديننا الإسلامي دين دنيا ودين , دنيا وأخرة فلم يترك الإنسان لدنياه تأخذه من أخرته ولم يتركه لأخرته تحرمه من دنياه بل القاعدة العامة في الإسلام :"إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"
عباد الله :"وحديثنا إليكم اليوم عن "المستثمر التقي و صناعة الاستثمار" فقد كان صلي الله عليه وسلم يشجِّع على الاستثمار فيما ينفع، فيقول :"مَنْ سَبَقَ إِلَى مَاءٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ"، فخرج الناس يَتَعَادَوْنَ يَتَخَاطُّون (أبوداود). أي يتسابقون من أجل استثمار ما أذن به رسول الله صلي الله عليه وسلم .
لذلك وضع الإسلام مقايس ومعاير لهذا المستثمر الوطني التقي ليسير عليها.. ومن هذه المعاير :"
أن المال مال الله: فالإسلام قرر أمام المستثمر حقيقةَ أن المُلكَ لله وليس لأحد ملك خارج عنه؛ إذ الأرضُ ومن فيها لله وحدَه؛ قال تعالى :"وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا"(المائدة: 18)، وأن المال أيضًا ملك لله سبحانه وتعالى :"وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ"(النور: 34)، غير أنَّ الله عزوجل قد جعل للإنسان ولايةً على ذلك المال وملكًا مجازيًّا له قال تعالى:"إنما أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ "(التغابن/16).،وجعله مستخلفًاً فيه وقائمًا عليه؛ قال تعالى:"وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ"(الحديد/8).
مع الأخذ في الاعتبار أنه لا حرج على المسلم في أن يتنعم بالمباحات والطيبات ، إذا أدى شكرها،ولم يسرف فيها ، فإن الله تعالى أباح الطيبات للمسلمين في حياتهم الدنيا ، ومن بها عليهم في دار القرار يوم القيامة ، قال تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ "(البقرة/ 172). وقال صلى الله عليه وسلم :"لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنْ اتَّقَى اللهَ ، وَالصِّحَّةُ لِمَنْ اتَّقَى اللهَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى ، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النِّعَمِ"(أحمد).
والمحمود في الغنى :"أن يؤدي الغني حق الله وحق الناس عليه ، ويتقي الله تعالى في ماله ، فلا يسرف فيه ولا يبذر ، ولكن ينفق بمقدار،ويكثر من النفقة في سبيل الله".
فالغنى يا عباد الله بغير تقوى هلكة لصاحبه، يجمع المال من غير حقه، ويضعه في غير أهله، ويمنعه من مستحقه، أما إذا كان مع صاحبه تقوى فقد ذهب البأس وجاء الخير، قال محمد بن كعب :"الغني إذا اتقى آتاه الله أجره مرتين، لأنه امتحنه فوجده صادقاً، وليس من امتحن كمن لم يمتحن".
وهذا مما يبين لنا أيها المسلمون أن ديننا لا ينهى المتمسكين به عن طلب الرزق، وعن الاستغناء، وإنما ينهانا أن نجمع هذا المال بغير حقه، وأن نصرفه في غير حقه، وذلك لأن المال فتنة لابن آدم إذا لم يرزق القناعة، صح عنه صلي الله عليه وسلم :"إنَّ لكلِّ أُمَّةٍ فتنةً وإنَّ فتنةَ أُمَّتي المالُ "(الترمذي).
نعم، فتنتنا المال أيها المسلمون ألم يحملنا جمع المال على الغش؟ ألم يحملنا جمع المال على الكذب وشهادة الزور ؟ ألم يحملنا جمع المال على التزوير؟ ألم يحملنا جمع المال على إعطاء الرشوة؟ ألم يحملنا جمع المال على إخلاف المواعيد ونقض العهود؟ ألم يحملنا جمع المال على أكل أموال بعضنا بالباطل؟
نعم هذه هي فتنة جمع المال حتى صار الصديقان المتحابان أعداء لأجل معاملة تجارية بينهما حملت أحدهما على التعدي على الآخر، فإذا هما في أشد العداوة، بعد ما كانا في أعلى مراتب الصداقة.
واعلموا عباد الله أن المال كما يكون سبباً في طغيان العبد في الدنيا وخسارته في الآخرة، فقد يكون كذلك سبباً في سعادته في الدنيا ونجاته يوم القيامة، وذلك إذا طلبه بحقه وأنفقه في مستحقه ، ولا يكون ذلك إلا إذا رزق تقوى في قلبه، وقناعة في نفسه، قال :" نِعمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالحِ "(الحاكم). وقال صلي الله عليه وسلم لعثمان بن عفان لما جهز جيش العسرة: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم"(الترمذي).
فمن منّا اليوم حاله كحالهم، فالواحد منا يخرج صباحاً لا يفكّر إلا في كيفية الحصول على المال، لا يهمه كيف يجمعه؟ من حلال أم من حرام، ثم إذا سئل عن الصلاة هل صلاها في وقتها؟ يقول: العمل عبادة والصلاة لها وقتها في آخر النهار. وأما أن يحضر حلق الذكر في المسجد، أو مجالس العلم والتفقه في الدين فهذا يكاد ينعدم فهو أعز من الكبريت الأحمر.
فلنراجع أنفسنا وأعمالنا، قبل أن يأتي "يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ"(الشعراء/88-89).
عباد الله :" والمستثمر التقي زاهد وليس عنده شره ولا نهم ويعلم أن المال الذي هو قوام وعصب الاقتصاد ماهو إلا أداة لقياس القيمة ووسيلة للتبادل التجاري، وليس سلعة من السلع. فلا يجوز بيعه وشراؤه "ربا الفضل" ولا تأجيره "ربا النسيئة".ولايجوز الطمع والجشع في اكتسابه ولا النهم في جمعه:"لابأس بالغني لمن اتقي" وعَنْ عبْدِاللَّه بنِ الشِّخّير أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم وهُوَ يَقْرَأُ:"أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ"(التكاثر:1).قَالَ:يَقُولُ ابنُ آدَم: مَالي! مَالي! وَهَل لَكَ يَا ابْنَ آدمَ مِنْ مالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ،أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟( مسلم).
عباد الله :"والمستثمر التقي الوطني يعمل بالمضاربة وبالمرابحة: ويعمل بالمشاركة ويعمل بالإجارة .وكذلك أباح له الإسلام بيع السَـلَم: وهي الصورة العكسية للبيع الآجل بالتقسيط وحرم عليه جميع البيوع المحرمة والغش والغبن والتدليس..
عباد الله :" والمستثمرالتقي يتحلي بالأخلاقَ الفاضلة، فقد حرَّم الإسلام كسْب المال من السرقة والغصب، والاحتكار وحرَّم إنماءه من الغشِّ والغَرَر بالناس، وحرم صرفَه في الفواحش والمنكرات؛ بل حث على كسبه من الحلال، وتنميته بالحلال، وإنفاقه فيما يُرضي الله عَزَّ وجل. والمستثمر التقي يتحلي بالأمانة والصدق، فلايتاجر بالخُمُور ولافي المحرمات.
والمستثمر الوطني التقي يعمل علي صناعة الطاقة: التي ازدهرت على يد رسول الله صلي الله عليه وسلم فقد حملَ تميمُ الدَّاريُّ معهُ من الشَّامِ إلى المدينةِ قناديلَ وزيتًا ومُقطًا ، فلمَّا انتَهى إلى المدينةِ وافق ذلكَ يومَ الجمُعةِ أسرجَها في مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فخرَجَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إلى المسجِدِ فإذا هو يَزهرُ ، فقال : مَن فعلَ هذا ؟ قالوا تَميمٌ يا رسولَ اللَّهِ ، قال :"نوَّرتَ الإسلامَ نوَّرَ اللَّهُ عليكَ في الدُّنيا والآخرَةِ ، أما إنَّهُ لو كانَت لي ابنَةٌ لزوَّجتُكها ، فقال نوفَلُ بن الحَرِثِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ : لي ابنَةٌ يا رسولَ اللَّهِ تُسمَّى أمَّ المغيرةِ بنتَ نَوفلٍ ، فافعَل فيها ما أردتَ ، فأنكَحهُ إيَّاها على المكانِ "!(ابن حجر العسقلاني في الإصابة-الجامع لأحكام القرآن للقرطبي( 6 / 12 / 274 ).
فكانت تلك مكافأة عظيمة لبطل من أبطال الإنتاج في دولة الإسلام، ما حظي بها أحد كما حظي بها تميم.
وكان صلي الله عليه وسلم يكثر المشي في الأسواق متفقدًا الأحوال الصناعية والتجارية والزراعية للمسلمين، حتى نعى عليه المشركون ذلك، وأنكروه، قال الله تعالى: "وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا"(الفرقان: 7).
عباد الله :"أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ..أو كما قال..
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله أما بعد فياجماعة الإسلام ..
لقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم بناءً حضارياً اقتصادياً لا يعرف للغش والغبن والاحتكار والربا وأكل المال بالباطل سبيلاً، بناءً حرص على جمع الزكاة لتحقيق التوازن الاجتماعي وإقطاع الأرض لمن يريد أن يحييها بالاستصلاح لتوسيع العمران، واحترام الملكية الفردية بصورة لا ضرر فيها ولا ضرار.
ونتيجة لهذه الاستراتيجية الصناعية في الإسلام برع في الصحابة صناع مهرة ومستثمرون أتقياء اشتهروا بالعديد من الصناعات، فكان خبابُ بن الأرتّ حدادًا يصنع السيوف، وكان سلمانُ الفارسي يعمل في صناعة نسيج السِّلال، وكان سعدُ بن أبي وقاص يبري النبل، وكان عثمان بن طلحة خياطًاً..وفي أيام عمر وعثمان رضي الله عنهما قام المسلمون بتوظيف الهواء في استثمار الطاقة، فصنعوا الرَّحَى الهوائية، وفي زمن سيدنا عثمان أمر ألا يبقى في قرى المسلمين قرية إلا صنع فيها هذه الرحى..فأين نحن من غلق المصانع والشركات من قبل الأنظمة السابقة؟
اللهم اصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا واصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا يارب العالمين ..
عباد الله أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم وأقم الصلاة ..