
قراءة في خطبة الجمعة من مسجد المشيرعبر الأثير
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فخطيب اليوم بمسجد المشير وعبر الأثير من مشاهير الخطباء المرموقين والمفوهين والذي التزم بوقت الخطبة عشر
دقائق وصال وجال ليؤكد علي أن النصر مع الصبر :"إن
تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم "
ولكنه منذ بداية الخطبة اختار منهج
السجع وسار علي وتيرة واحدة من المقدمة حتي الدعاء ..
وتعالي عزيزي الإمام والخطيب لنقف
اليوم مع هذا المنهج وما رأي أهل العلم
وفي مقدمتهم سيد العلماء سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم .
وفي الحقيقة أن أهل العلم أكدوا علي أنه صلى الله عليه وسلم كان يكره السجع المتكلف والداعي للباطل حذرا من
مشابهة الكهان ومن التكلف المنهي عنه، وأما السجع الذي يأتي في غاية الانسجام من غير تكلف فكان يفعله في
بعض الأحيان.
فكانوا لا يحبون السجع في الخطب وفي الدعاء حذراً من التكلف ومشابهة الكهان، وأما السجع الذي يأتي بغير تكلف
فكان يفعله أحيانا.
ويدل لهذا قول ابن عباس :"انظر السجع في الدعاء فاجتنبه فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا
يفعلون
إلا ذلك، يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب"(البخاري).
وقالت عائشة رضي الله عنها:"واجتنب السجع في الدعاء فإني عهدت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يكرهون
ذلك"( ابن حبان وأحمد).
والمكروه عندهم ما كان فيه تكلف، وأما السجع الذي يأتي بغير تكلف فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي به
أحيانا؛ كما في حديث أم زرع.
قال النووي في شرح مسلم عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها،
أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع
ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع".
هذا الحديث وغيره من الأدعية المسجوعة دليل لما قاله العلماء أن السجع المذموم في الدعاء هو المتكلف فإنه يذهب
الخشوع والخضوع والاخلاص ويلهي عن الضراعة والافتقار وفراغ القلب، فأما ما حصل بلا تكلف ولا إعمال فكر
لكمال الفصاحة ونحو ذلك أو كان محفوظا فلا بأس به بل هو حسن.اهـ.
وقال ابن حجر في الفتح عند قوله:... وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده.قال: هو من السجع المحمود والفرق بينه
وبين المذموم، أن المذموم ما يأتي بتكلف واستكراه، والمحمود ما جاء بانسجام وإتقان، ولهذا قال في مثل الأول:
أسجع مثل سجع الكهان؟! وكذا قال كان يكره السجع في الدعاء ووقع في كثير من الأدعية والمخاطبات ما وقع
مسجوعا لكنه في غاية
الانسجام المشعر بأنه وقع بغير قصد. اهـ.
وقد ذكر ابن دقيق العيد في شرح العمدة: أن ما ورد من ذم السجع محمول على السجع المتكلف لإبطال حق وتحقيق
باطل أو لمجرد التكلف بدليل أنه قد ورد السجع في كلام النبي
صلى الله عليه وسلم وفي كلام غيره من السلف...اهـ.
ينبغي أن يعلم أن أفضل الأدعية هي المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما ورد فيها من سجع فليس
مقصوداً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم منزل الكتاب سريع الحساب هازم الأحزاب"، وكقوله صلى الله
عليه وسلم:"صدق وعده وأعز جنده".
وقال الإمام الغزالي، وأما ما يفعله الخطباء من استخدام السجع فهو مكروه، لأنه في الغالب متكلف والسجع المتكلف
لا يلائم الضراعة والذلة وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم السجع، كما ورد في الحديث عن أبي هريرة قال:
"اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول صلى الله عليه
وسلم فقضى أن دية جنينها غرة أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن
النابغة الهذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يُطلُ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:"إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع"(البخاري ومسلم واللفظ لمسلم) وفي رواية
عند مسلم:
"أسجع كسجع الأعراب".
قال الإمام النووي: و"أما قوله صلى الله عليه وسلم «إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه" وفي الرواية الأخرى
:"سجع كسجع الأعراب" فقال العلماء:
إنما ذم سجعه لوجهين:
أحدهما أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله،
والثاني انه تكلفه في مخاطبته، وهذان
الوجهان من السجع مذمومان.
أما السجع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في بعض الأوقات، وهو مشهور في الحديث، فليس من هذا لأنه
لا يعارض به حكم الشرع ولا يتكلفه فلا نهي فيه بل هو حسن
…"(شرح النووي على صحيح مسلم 12/327).
وقال العز بن عبد السلام سلطان العلماء، جواباً على سؤال يتعلق بمن يقصد السجع في كلام الناس وفي الخطب
ونحوها ما نصه: ” إذا كان القصد بالسجع الرياء والسمعة والتصنع بالفصاحة فهو حرام، وإن كان القصد به وزن
الكلام لتميل النفوس إلى قبوله والعمل بموجبه
فلا بأس به في الخطب وغيرها،
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يتصفح كتبه إذا فرغ منها، فإن وجد فيها كلاماً بليغاً فصيحاً نحّاه منها خوفاً
من الرياء والسمعة والإفتخار بالفصاحة، ولا ينبغي للخطيب أن يذكر في الخطبة إلا ما كان يوافق مقاصدها، من الثناء
والدعاء والترغيب والترهيب، بذكر الوعد والوعيد وكل ما يحث على طاعة أو يزجر عن معصية، وكذلك تلاوة
القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بسورة (ق) في كثير من الأوقات لإشتمالها على ذكر الله والثناء عليه،
ثم على علمه بما به توسوس النفوس وبما تكتبه الملائكة على الإنسان من طاعة وعصيان ثم يذكر الموت وسكرته ثم
يذكر القيامة وأهوالها والشهادة على الخلائق بأعمالها، ثم يذكر الجنة والنار ثم يذكر الصيحة والنشور والخروج من
القبور، ثم بالوصية في الصلوات، فما خرج عن هذه المقاصد فهو مبتدع"(فتاوى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد
السلام ص481– 484).
ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث، عن عبد الله بن عمرو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله يبغض البليغ من
الرجال
الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة"( أبو داود والترمذي وأحمد)،
والمقصود بالحديث الرجل الذي يتشدق في الكلام بلسانه ويلفه، كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً كما قال ابن الأثير في
النهاية.
هذا وننبه إلى أن أهل العلم
اختلفوا هل في القرآن سجع أم لا؟
فبعضهم يرى أنه لا سجع فيه وإنما توجد فيه فواصل وهي تخالف السجع في عدة أمور، وقد بسط الكلام في المسألة
السيوطي في الإتقان في علوم القرآن، والزركشي في البرهان
في علوم القرآن، وابن مفلح في الفروع.
وعليه :" فالأولي للخطيب أن يبتعد عن السجع وإن كان ولابد فليكن سجع
خفيف جملة أوجملتين دون تكلف ولاخيلاء ..
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل