أئمة وخطباء المساجد (الحلقة الخامسة)
تحضير .. مهارة .. تكرار .. إطالة .. أخطاء لغوية ..أحاديث موضوعة.. قصص واهية !!
تحدثنامن قبل عن تحضيرالخطبة وأهميته بالنسبة للخطيب واليوم نواصل الحديث عن علاج التكرار للخطب المنبرية..
كيف تعالج تكرار الخطب؟
يشتكي كثير من الخطباء من تكرارالموضوع،والحديث عنه على نمط واحد، وبأسلوب رتيب،لأن تكرار الكلام يكون صعب علي نفسه وملل للمستمع كما قال سفيان بن عيينة عن الزهري :"إعادة الحديث أشدمن نقل الصخر"وقال بعض الحكماء:" من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤنة الاستماع منك"(البيان والتبيين للجاحظ ج1/103بتصرف).
فالتكرارأثقل عليه من نقل الجبال فضلاً عن المفاسد التي تحدث عن هذا التكرار نذكر منها:
1ـ فقدانه المصداقية،ولاسيما إذا انكشفت مبالغاته للناس،ومن ثم يضعف أخذ الناس عنه، أو التأثر بما يقول؛ لأنهم عرفوا عنه المبالغة.
2ـ ملل الناس،وانصرافهم عن تلك القضيةوكما قيل :"كثرة الإمساس تقلل الإحساس".
3ـ إن تركيزه على قضية معينة، وتكرار ذلك سيكون على حساب موضوعات وقضايا قد تكون لها أهمية أكثر من قضيته التي يكررها، وربما تكون أهم منها.
وأحسب أن السبب الرئيسي للشكوي من الخطيب هي: قلة علمه، ومحدودية اطلاعه ومعلوماته، وضعف نظرته إلى واقع الناس. فينبغي عليه إذا اضطر إلي التكرار وهذا لابد منه لأن هناك مناسبات كثيرة خلال العام والناس يحبون أن يربط الخطيب بين الزمان والواقع ويذكرهم بأيام الله ..الخ.
وهنا ينبغي عليه أن يكون حاذقاً وبما يكرره بعيداً وفي الأسلوب الثاني مختلفاً عن الأول وليكن رائده في ذلك القرآن الكريم فيما كرره من قصص الأنبياء والصالحين بل من قصة إبليس نفسه تكررت في مواضع كثيرة من كتاب الله فتارة يقول له :"يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (ص/75).وأخري:"يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (الحجر/32).فانظر الي اختلاف اللفظ في السؤال :" مامنعك " وتارة :"مالك" وهي أساليب بلاغية من كتاب الله فيها تشويق للمستمع حتي لايمل من التكرار..
ويمكن تقسيم الجُمعات إلى قسمين:
القسم الأول:
جمعات توافق مناسبات مهمة:وهذه المناسبات على نوعين:
أ ـ مناسبات طارئة: كحدث يحصل في الحي أو البلد واشتهر وعرفه الناس؛ فهم ينتظرون من الخطيب رأيه فيما حدث، ومنها أيضًا قضايا المسلمين التي تشتعل بين حين وآخر: كقضايا الوطن والأمن والشهادة ونحوها.
وينبغي للخطيب أن يعالج مثل هذه الموضوعات معالجة شرعية، تبين حجم القضية الحقيقي بلا مبالغة ولا تهوين، ومن ثَم يبين موقف المسلم في هذه القضية، وما يجب عليه تجاهها، فلا يكفي مجرد عرضها.
ب ـ مناسبات متكررة بتكرر الأعوام: كرمضان والحج وعاشوراء، والتحذير من البدع المحدثة ونحوها.
وهذه المناسبات مريحة عند كثير من الخطباء؛ إذ لا يحتاجون إلى إعداد خطب جديدة في موضوعاتها، ولربما حفظ الناس خطبهم فيها من كثرة ترديدها، وأصابهم الملل منها.
بيد أن هذه المناسبات تقلق من يهتمون بخطبهم، ويحبون التجديد في موضوعاتها، ويودون إفادة الناس بكل وسيلة ممكنة.
العلاج :
ولتلافي التكرار في كل عام أو كل فترة يمكن تفتيت الموضوع الواحد إلى موضوعات عدة, في كل عام يطرق الخطيب منها موضوعًا وأضرب مثلاً لذلك؛ فبالمثال تتضح الصورة:
فخطبة الدفاع عن الأوطان والتضحية من أجلها من الممكن أن أتحدث عن الانتماء للأوطان وحب الوطن من الإيمان في هذه المرة فإذا تكرر الموضوع أتحدث عن التضحية والتفاني فإن تكرر الحديث في الموضوع أتحدث عن قيمة الوطن الذي نعيش فيه وذكره في كتاب الله والسنة المطهرة وكيف تجلي الله للجبل في طور سيناء ..الخ هذه الموضوعات الشيقة التي تجذب المستمعين ..
مثال أخر :" درج الخطباء في ثالث جمعة من رمضان على الحديث عن غزوة بدر الكبرى، ويقدمون لها بمقدمة عن نصر الله تعالى لعباده، وكون رمضان شهرًا للانتصارات والأمجاد، ويسردون عددًا من المعارك التي وقعت في رمضان، غزوة بدر، وفتح مكة، وعين جالوت، وفتح الأندلس ونحوها، ثم يخصصون الخطبة بكاملها عن غزوة بدر، وهكذا في كل عام. ومن الممكن لتلافي التكرار جمع الغزوات والأحداث الكبرى التي وقعت في رمضان، واختيار واحدة منها في كل عام للحديث المفصل عنها. ويمكن أيضًا تفتيت الغزوة الواحدة إلى عدة موضوعات، في كل عام يطرق جانبًا جديدًا منها.
مثال أخر :" الحديث عن الماء والمحافظة عليه .. والحديث عن الماء عصب الحياة وجعلنا من الماء كل شيء حي .. والحديث عن التبذير والاسراف في الماء وترشيد الاستهلاك ..والحديث عن أسباب ندرة المياه وانقطاعهاوعلي رأسها المعاصي وقلة الاستغفار والتوبة إلي الله ومنع الزكاة ومامنع قوم زكاة اموالهم إلا ومنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا..الخ.
والكلام عن المولد النبوي مثلاً يمكن تقسيمه أيضًا إلى عدة موضوعات منها:
1ـ بيان حقيقة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها تكون باتباعه لا بالابتداع، مع تقرير وجوب محبته من خلال نصوص الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح، وبيان العلاقة بين محبته وتطبيق سنته، وهذا موضوع ثري جدًا يمكن صنع خطب عدة فيها.
2ـ تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي، وبيان أنه بدأ بعد القرون المفضلة في المائة الرابعة للهجرة على أيدي بني عبيد الباطنيين، وظل قرنين من الزمن لا يعرفه أهل السنة، حتى انتقل إليهم في المائة السادسة على يد شيخ صوفي استحسن هذه البدعة وتبناها، وبيان أن دوافع إحداث هذا الموضوع عند بني عبيد كانت فيما أحسب سياسية، ولم تكن بدافع محبة النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته.
ومع أهمية هذا البيان التاريخي في كشف حقيقة هذه البدعة النكراء وتنفير الناس منها، فإنه قل من سمعناه من خطبائنا ومحاضرينا.
3ـ ذكر المخالفات الشرعية في احتفالات المولد، من الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قد يصل إلى حد الشرك، إلى الأناشيد والأهاجيز الصوفية، إلى سائر المنكرات الأخرى: كالاختلاط في بعضها، وكونها تنشد على أنغام الموسيقى أو الدفوف.
4ـ التنبيه على أن الاشتغال بالبدعة يشغل عن السنة، وجعل المولد مثلاً لذلك، فما يصرف فيه من جهد ووقت ومال قد يصرف عن كثير من السنن؛ بل ربما صرف عن الفرائض؛، وكثير ممن يحتفلون بتلك الموالد تظهر عليهم مخالفات شرعية، ويعلم من سيرة بعضهم تضييعه للفرائض فضلاً عن المندوبات.
5ـ أخذ جانب من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مولده أو بعثته أو غير ذلك، ثم التنبيه على بدعة الاحتفال بمثل هذه المناسبات، فهذه خمسة موضوعات كل واحد منها يصلح لأن يكون خطبة مستقلة.
والكلام عن عاشوراء أيضًا يمكن استخراج موضوعات عدة منه، ولا سيما أنه متعلق بقصة نجاة موسى ـ عليه السلام ـ وغرق فرعون. وهي أكثر القصص ورودًا في القرآن، وفيها جوانب كثيرة يمكن أن تكون موضوعات، وفي نهاية كل خطبة منها يتم التنبيه على سُنِّية صيام يوم عاشوراء كذلك الحديث عن مراحل صوم عاشوراء، وأنه كان واجبًا، ثم نُسخ الوجوب إلى السُّنِّية بعد فرض رمضان، ثم في آخر سنة قصد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود، وأمر بصيام التاسع مع العاشر، وذكر فضل صيام هذا اليوم، وفضل شهر الله المحرم.
وهكذا يقال في بقية الموضوعات، تطرح من جوانب متعددة، كل جانب فيها يكون خطبة؛ مما يكون سببًا في إثراء المشروع الخطابي للأمة، وإفادة السامعين، والتجديد في الموضوعات التي يلقيها الخطيب.
خلاصة الأمر أن الداعية المستنير والخطيب المؤثر الذي لديه كم هائل من المعلومات وعنده غزارة من المعرفة ولن يكون ذلك إلا بالقراءة والبحث هو الذي لايشكو من التكرار ولا يشعر جمهوره بملل التكراروالرتابة ..ويستعين بالله عز وجل ولايعجز..
وفي حقيقة الأمر أن الذي يتعلل بتكرار الموضوع نسي أن لغتنا العربية الجميلة ثرية بالكلمات والألفاظ والحروف وكذا المعاني
فالخطيب المستنير والإمام الهمام الذي عنده كم هائل من المعلومات ينظر إلى الموضوع من زوايا عديدة
ألم أقل لك عزيزي الإمام الهمام أن لغتنا العربية ثرية بالحروف والكلمات والألفاظ والمعاني..
اتمنى لك التوفيق والنجاح والسداد وأن يجعل الله عزوجل ذلك في ميزان حسناتنا جميعأ.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.