فَظَلِلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين أمالعد فياعبادَ اللهِ،:
:" وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ"(أل عمران/133-135).
عباد الله:" حديثنا إليكم اليوم عن هذه المقولة " فَظَلِلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً " هذه العبارة التي تكتب بماء الذهب و تُكتبُ بماءِ العبرةِ، وتُحكى لتهذيبِ النفوسِ
قالها رجل من الصالحين هو العابد الزاهد التقي الورع " السريِّ السقطيِّ رحمهُ اللهُ، كما روت لنا كتب السيرة الخطيب البغدادي والذهبي وابن كثير ، عنْ أبي بكرٍ الحربيِّ قالَ: سمعتُ السريَّ يقولُ: احترقَ السوقُ فقصدتُهُ، فلقيني رجلٌ فقالَ: أبشرْ، فإنَّ دكانَكَ قدْ سَلِمَ، قالَ السريُّ: فقلتُ الحمدُ للهِ، ثمَّ مضيتُ غيرَ بعيدٍ، فوقعَ في قلبي أني فرحتُ لنفسي، ولمْ أواسيِ الناسَ فيما همْ فيهِ، فأنا أستغفرُ اللهَ منْ ذلكَ الحمدِ منذُ ثلاثينَ سنةً"(رواها الخطيبُ البغداديُّ في تاريخِ بغدادَ (9/188)، والذهبيُّ في سيرِ أعلامِ النبلاءِ (12/186)، وابنُ كثيرٍ في البدايةِ والنهايةِ (11/18)، كلهم).
عباد الله :" الورع الزاهد حمد الله قال الحمد لله علي أن دكانه لم يحترق بعدما أخبره بعض الناس بذلك فهل في هذا شيء ؟
الرجل لم يتمني لأحد الضرر ولاخراب البيوت كما يحدث هذه الأيام أناس تخصصوا في غلق بيوت الناس وخراب بيوتهم والتضيق عليهم..
فأغلق الله بيوتهم وضيق عليهم عيشهم وجعلهم عبرة لمن يعتبر ..
الرجل لم يشمت في أحد
عباد الله:" الرجل قال الحمد لله حينما أخبره البعض بأن السوق احترق ولم ينجوا غيرمحلك .. قالها ولم يشمت في أحد جاء في مدارج السالكين: وقوله: وكل معصية عيرت بها أخاك، فهي إليك. يحتمل أن يريد به: أنها صائرة إليك، ولا بد أن تعملها، وهذا مأخوذ من الحديث الذي رواه الترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من عير أخاه بذنب، لم يمت حتى يعمله". قال الإمام أحمد في تفسير هذا الحديث: من ذنب قد تاب منه. وأيضًا ففي التعيير ضرب خفي من الشماتة بالمعير، وفي الترمذي أيضًا مرفوعًا:"لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك". اهـ.
وقال ابن رجب في الفرق بين النصيحة والتعيير: من أشاع السوء على أخيه المؤمن، وتتبع عيوبه، وكشف عورته: أن يتبع الله عورته، ويفضحه، ولو في جوف بيته، كما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وقد أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، من وجوه متعددة. وأخرج الترمذي من حديث واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تظهر الشماتة بأخيك، فيعافيه الله ويبتليك". وقال: حسن غريب. وخرج أيضًا من حديث معاذ مرفوعًا: «من عير أخاه بذنب، لم يمت حتى يعمله» وإسناده منقطع. وقال الحسن: "كان يقال: من عيّر أخاه بذنب تاب منه، لم يمت حتى يبتليه الله به". ويروى من حديث ابن مسعود بإسناد فيه ضعف: «البلاء موكل بالمنطق، فلو أن رجلًا عير رجلًا برضاع كلبة، لرضعها». وقد روي هذا المعنى عن جماعة من السلف. ولما ركب ابن سيرين الدَّين، وحبس به، قال: "إني أعرف الذنب الذي أصابني هذا: عيّرت رجلًا منذ أربعين سنة، فقلت له: يا مفلس". اهـ.
الرجل لم يعجب بورعه وعبادته
عباد الله :" السري السقطي قال الحمدلله ولم يصبه العجب ولاالتكبر بورعه وعبادته ولم يقل بفضل عملي وتقواي نجاني الله ولكنه فرح بنجاته من النار..
قيل لعائشة رضي الله عنها : متى يكون الرجل مسيئا ؟ قالت : إذا ظن أنه محسن وقد قال ، تعالى : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى والمن نتيجة استعظام الصدقة ، واستعظام العمل هو العجب .
والعجب أكبر الذنوب .
وكان بشر بن منصور من الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى والدار الآخرة لمواظبته على العبادة فأطال الصلاة يوما ورجل خلفه ينظر ، ففطن له بشر ، فلما انصرف عن الصلاة قال له : لا يعجبنك ما رأيت مني ؛ فإن إبليس لعنه الله قد عبد الله تعالى مع الملائكة مدة طويلة ثم صار إلى ما صار إليه .
الرجل قال الحمد لله ولم يكن حاقداً علي أحد
عباد الله :" السر السقطي قال الحمد لله ولم يقصد أن يخرج من تحت طائلة قول الرسول صلي الله عليه وسلم:" حب لأخيك ماتحبه لنفسك تكن مسلماً" أو قول النبيِّ ﷺ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"( النسائي والبخاري ومسلم ).
أوما قال صلى الله عليه وسلم :" وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما"(الترمذي) .
عبادَ اللهِ، إنَّ في مقاماتِ الإيمانِ لحظاتٍ يرقُّ فيها القلبُ، وتصفو فيها النفسُ، ويستيقظُ ضميرُ المؤمنِ ليحاسبَ نفسَهُ على دقائقَ لا يلتفتُ إليها أهلُ الغفلةِ.
وإذا كان أولئك القومُ يحاسبونَ أنفسَهم على المشاعرِ، فكيفَ بحالِ منْ لا يبالي بآلامِ الناسِ أو حقوقِهِم؟ وكيفَ بمنْ يتغافلُ عن أوجاعِ المجتمعِ، أو يعتدي على مالِ الجماعةِ، وهو منْ أعظمِ الأماناتِ؟
أيُّ قلبٍ هذا؟ رجلٌ يستغفرُ اللهَ منْ كلمةِ حمدٍ قالَها، لا لأنَّ الحمدَ معصيةٌ حاشا للهِ، بل لأنَّهُ رأى في تلكَ اللحظةِ أنَّهُ انفردَ بالفرحِ وتركَ مواساةَ الناسِ في المصيبةِ، فكانتْ فرحتُهُ ناقصةً في ميزانِ التقوى، لأنَّها فرحةٌ لمْ تمتزجْ برحمةٍ ولا بشعورٍ بالجماعةِ.
وأن الله تعالى عظَّم من حق الجار حتى قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "..إن استعانك أعنته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن مرض عدته، وإن مات شهدت جنازته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطيل عليه بالبناء، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا شريت فاكهة فاهدِ له، فإن لم تفعل فأدخلها سرًّا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، ولا تؤذه بقتار قدرك [رائحة طعامك] إلا أن تغرف له منها"(الطبراني والبيهقي).
أيُّ ورعٍ هذا يا عبادَ اللهِ؟ أيُّ نقاءٍ في السريرةِ؟ أيُّ حساسيةٍ في القلبِ؟ رجلٌ ينظرُ إلى داخلِ نفسِهِ قبلَ أنْ ينظرَ الناسُ إلى ظاهرِ عملِهِ، فيرى في قلبِهِ ما لو رآهُ غيرُهُ لعدَّهُ هينًا، ولكنَّ المؤمنَ ينظرُ بعينِ الحقِّ، بعينِ التقوى، بعينٍ ترى ما لا يراهُ الغافلونَ.
كما قال النبي صلى الله عليه و سلم قال : " من رأى مبتلى فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به و فضلني على كثير من خلقه تفضيلا. لم يصيبه ذلك البلاء "(الترمذي حديث حسن).
شعربالأثرة والأنانية فاستغفرثلاثين شنة
عباد الله:" السري السقطي قال الحمد لله وشعر في نفسه بفرحة وغبطة فلما راجع نفسه وحاسب نفسه وجد أنه كان في غفلة والغافلُ ينظرُ إلى نفسِهِ، والمؤمنُ ينظرُ إلى نفسِهِ وإلى الناسِ معها. الغافلُوالإسلام حرم الأنانية والأثرة (حب الذات على حساب الآخرين) وحذر منها بشدة في القرآن والسنة، ودعا بدلاً منها إلى الإيثار وحب الخير للغير، مصوراً الأنانية كمفتاح للشر ومفتاح للدمار المجتمعي، بينما دعا للإخاء والمودة، وأن يكون المسلم نافعاً لغيره، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
فالأخ، أو الشريك الذي دعاه حبه لذاته، وأنانيته؛ لأن يعتدي على أخيه، ويطلب أن يضم نعجته إلى نعاجه و"يريد أن يستأثر لنفسه، ويضمها إلى ما يملكه من الغنم بعد أن تملكته الأنانية وحب الذات"
قال تعالى:إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ "(ص/23).
وأوصلت الأنانية صاحب الجنتين؛ لأن يتعالى على صاحبه بما يملكه، "ويشك في قيام الساعة" قال تعالى:"وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا"(الكهف:34- 36).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا. فلما سلم النبي- صلى الله عليه وسلم- قال للأعرابي: "لقد حجرت واسعا" يريد رحمة الله"(البخاري).
"فقدم هذا الأعرابي نفسه على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، مع أن إسلامه يحمله على تقديم الرسول- صلى الله عليه وسلم- على نفسه، ولم يخصص أحدا بالرحمة إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ونفسه؛ مدفوعا بهذه الأنانية المفرطة"ولذلكَ كانتْ محاسبةُ النفسِ أصلًا منْ أصولِ الإيمانِ، قالَ تعالى:"وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوٰاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا"(الشمس: 7-10).
قالَ الطبريُّ في تفسيرِهِ (20/77): “قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَابَتْ نَفْسٌ أَضَلَّهَا وَأَغْوَاهَا. وَقِيلَ: أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وخاب من دس نفسه في المعاصي، قال قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَأَصْلُ الزَّكَاةِ: النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ زَكَا الزَّرْعُ: إِذَا كَثُرَ رِيعُهُ”.
لا تُنْزَعُ الرَّحمةُ إلَّا منْ شقيٍّ
عبادَ اللهِ:" قال الحمد لله وشعر في نفسه بفرحة وغبطة فلما راجع نفسه وحاسب نفسه وجد أنه بذلك قد نزعت من قلبه الرحمة وأن قلبه قاسي فلم يتأثر بهؤلاء الذين حرقت محلاتهم وأن الله لاينظر إلي صاحب القلب القاسي وهذا ما أشارَ إليهِ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ في الحديثِ "إِنَّ اللهَ تعالى لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ، ولكنْ إِنَّما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم”. فالقلبُ هو موضعُ نظرِ الربِّ، ومنْ عرفَ هذا استقامَ قلبَهُ قبلَ أنْ يُصلحَ ظاهرَهُ، وراقبَ نيتَهُ قبلَ أنْ يزنَ عملَهُ"(مسلم).
وإنَّ القلبَ الذي لا
يلينُ لمصابِ الناسِ قلبٌ قاسٍ، والقلبُ القاسي هو أبعدُ القلوبِ عنْ اللهِ تعالى،
وقدْ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ:"لا تُنْزَعُ الرَّحمةُ إلَّا منْ
شقيٍّ". (أبو داود والترمذي ، وأحمد صحيح).
وفي الحديث الصحيح: عنْ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أنَّهُ قالَ: "الراحمونَ يرحمُهُمُ الرحمنُ، ارحموا منْ في الأرضِ يرحمْكمْ منْ في السماءِ"( أبو داود ، والترمذي وأحمد).
فكيفَ برحمةِ الناسِ عندَ الشدائدِ والمصائبِ؟ وكيفَ برحمةِ أهلِ السوقِ يومَ احترقتْ أموالُهمْ وضاعتْ أرزاقُهمْ؟
يا عبادَ اللهِ، إنَّ من أعظمِ ما يُظهرُ وحدةَ الأمة أن يعيشَ كلُّ واحدٍ منا بضميرِ الجماعة، لا بضميرِ الفردِ المنعزل؛ ينظرُ ماذا تحتاجُ الأمة، لا ماذا يكسبُ هو فقط، ويتألمُ لما يصيبُ غيرَه، لا لما يسلمُ منه وحده.
أيها الأحبة، إنَّ المؤمنَ الحقَّ هو الذي يخرجُ من حدودِ نفسِه إلى حدودِ الأمة؛ يسمعُ أنينَها، ويرى حاجتَها، ويعيشُ همَّها، لأنه جزءٌ من جسدٍ واحد.
ولذلك كان العلماءُ يقولون: إذا صلحتِ القلوبُ صلحتِ الأمة. وإذا صلحتْ علاقةُ الناسِ ببعضِهم صلحتْ أخلاقُهم، وصلحتْ أسواقُهم، وصلحتْ مصالحُهم، وصلحتْ إدارةُ مالِهم العام، لأنَّ من يعطي الناسَ من قلبِه لا يأخذُ منهم ظلمًا بيده.
وهذا يا عبادَ اللهِ هو البابُ الذي ننتقلُ منه إلى معنى عظيمٍ من معاني دينِ اللهِ، ألا وهو: أنَّ قلبَ المؤمنِ إذا رقَّ لا يمكنُ أن يظلمَ الناسَ في أموالِهم، ولا أن يعتديَ على حقٍّ من حقوقِ الجماعة، لأنَّ قلبًا يرحمُ الفردَ لا يمكنُ أن يخونَ الأمة.
الخطبةُ الثانيةُ
الحمدُ للهِ والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد
فياعباد الله:" أنَّ الإيمانَ ليسَ
صلاةً فقط، ولا ذكرًا فقط، ولازكاة فقط ولاصيام فقط ولاحج فقط بلْ أمانةٌ تُحمَلُ، وحقوقٌ تُصانُ، ومصالحُ تُحفَظُ،
ومنْ أعظمِ هذهِ الحقوقِ: حقُّ الجماعةِ، ومالُ الأمةِ، وما استرعانا اللهُ عليهِ
منْ مصالحٍ عامةٍ تُبنى بها البلادُ وتقامُ بها المجتمعاتُ.
قالَ تعالى:"إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلٰى أَهْلِهَا"(النساء: 58).
ويقول رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أنَّهُ:" إنَّ
رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ
القِيَامَةِ"(البخاري).
و(يتخَوَّضونَ في مالِ اللهِ بغيرِ حقٍّ)، أيْ يتصرَّفونَ في مالِ المسلمينَ بالباطلِ.
ان الإنسان لابُد ان يُحاسِبَ نفسهُ على خاطرهِ لأن اللهُ يُحاسبُ العبدَ على نيتهِ
قال احدُ الصالحين اذنبتُ ذنباً عظيماً فحُرمتُ بسببهِ من قيامِ الليل اربعة اشهُر
قالوا لهُ وما هو هذا الذنب ؟
قال كُنتُ أُصلى وراء شيخٍ فرأيتُهُ يبكى فى صلاتهِ فدخلَ فى نفسى شيئٌ منهُ وقُلتُ فى نفسى هذا رجُلٌ مُرائى دون ان اتكلمَ بها إنما كان ذلك فى نفسى ، فحُرمتُ بسببِ هذا الذنب اربعة اشهُر ، وما عُدتُ مرةً أُخرى لقيامِ الليل إلا بعد ان ذهبتُ إليه واستسمحتُهُ من هذا الذنب وكان ذلك فى خاطرى ،،
إذا فإن الله يُحاسِبُ العبدَ على النيات
فالنيةُ هى الأساسُ فى ديننِا ويُحاسبُ اللهُ الإنسانَ عليها
وإليك صورةً لذلك ::
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من تزوجَ إمرأةً على صداق وهو ينوى ان يأكُلَ صداقها حُشر يوم القيامة زانى ))
إذاً حتى ولو لم يأكُل صداقها حُشِرَ يوم القيامةِ زانى
فما بالُنا بمن نوى واكلَ صداقها بالفعل ،،
إذا نحنُ نُحاسبُ على رضا القلب وبُغضهِ ونذكرُ فطهروا انفِسكُم واصلحوا نيتكُم لله
واسمح معى إلى هذا الحديث (( من حضر معصيةً وهو كارهٌ لها كان كمن غابَ عنها ولم يحضرها ،، ومن غابَ عن معصيةٍ وقد رضىَ بها واحبها كان كمن حضرها وهو مُشتركٌ فيها ))
ياسبحان الله الفقرةٌ من الحديثِ مُطمئنة ،، والفقرةٌ الثانيةُ مُفزعة ،،
ولذلك كان الصالحون من التابعين دائماً دائماً يستعملون التقيةَ حتى لا يقعوا فى المحظور لأنهُ يعلمون ان الله يُحاسبُ على رضا القلبِ وبُغضهِ حتى
ولو لم تُترجم النيةُ إلى عملٍ ،،
فها هو الحسنُ البصرىُ لما سُئِلَ :؛ ياتقى الدين اعلىٌ على حقٍ ام مُعاوية ،، فقال الحسنُ البصرىُ شيئ سلمَ اللهُ ايدينا منهُ ونسألُ الله ان يُسلمَ السنتنا ))
وقال رسولُ اللهُ من إدان ديناً وهو ينوى ادائهُ ادى اللهُ عنهُ ، وهكذا من إدان ديناً وهو ينوى إتلافهُ اتلفهُ اللهُ تعالى ،،
يا عبادَ اللهِ… هؤلاءِ رجالٌ أقاموا الدنيا بالأمانةِ، وصانوا الأمةَ بالصدقِ، وحفظوا المالَ العامَّ بالورعِ والخوفِ منَ اللهِ.
صورٌ معاصرةٌ لحفظِ الأمانةِ: الموظفُ الذي يعملُ بضميرٍ، فيعتبرُ الوقتَ مالًا عامًا، المديرُ الذي لا يعطي توقيعًا إلا بحقٍّ، العاملُ الذي لا يستهلكُ أدواتَ المؤسسةِ فيما لا يفيدُ الأمةَ، المسؤولُ الذي لا يجعلُ المنصبَ طريقًا للثراءِ.
يا عبادَ اللهِ… رجلٌ استغفرَ ثلاثينَ سنةً منْ كلمةٍ… لأنهُ لمْ يواسي الناسَ. فكيفَ بمنْ لمْ يرحمْ الناسَ؟ فكيفَ بمنْ ضيّعَ حقوقَهمْ؟ فكيفَ بمنْ مدَّ يدَهُ إلى مالِ الأمةِ؟
إنَّ الذي رقَّ قلبُهُ في قصةِ السريِّ هو الذي يحفظُ مالَ الناسِ، ويعظّمُ المالَ العامَّ، ويعلمُ أنَّ يدَهُ ليستْ ملكًا لهُ، بلْ هي أمانةٌ عندَ اللهِ.
الخاتمةُ: يا عبادَ اللهِ، لقدْ رأينا في قصةِ السريِّ السقطيِّ قلبًا رقَّ منْ كلمةٍ قالها، واستغفرَ منها ثلاثينَ سنةً، لأنها لمْ تُخالِطْ مواساةَ الناسِ، ولا شعورًا بجراحِ الأمةِ. فكيفَ يكونُ حالُ منْ يمدُّ يدَهُ إلى مالِ الأمةِ؟ أو يستهينُ بحقوقِ الناسِ؟ أو يفرحُ بنعمةٍ على حسابِ مصائبِ غيرِهِ؟
إنَّ اللهَ تعالى يقولُ:"وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُو ن"(إبراهيم: 42)،
وقالَ سبحانهُ:"وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ"(الصافات: 24).
وكلُّ منْ كانَ في يدِهِ حقٌّ للناسِ فهو مسؤولٌ عنهُ، صغيرًا كانَ أو كبيرًا، ظاهرًا أو خفيًّا،
قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: كلكمْ راعٍ وكلكمْ مسؤولٌ عنْ رعيتِهِ" (متفقٌ عليهِ البخاري ، مسلم).
يا عبادَ اللهِ، إنَّ الأمانةَ ليستْ
كلمةً تُقالُ، بلْ دمعةٌ تُخفيها القلوبُ منْ خوفِ التقصيرِ، وانكسارٌ بينَ يدي
اللهِ خشيةً منْ يومٍ لا ينفعُ فيهِ مالٌ ولا بنونَ، وحذرٌ منْ سؤالِ ربٍّ عدلٍ لا
تخفى عليهِ خافيةٌ، قالَ تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"(الزلزلة: 7-8).