حُكْمُ الإسلامِ في "البَشْعَةِ"؛
مُيزانُ الشَّرْعِ لِطُرُقِ إثْباتِ الحَقِّ.
حقيقةُ البَشْعةِ وكيفيَّتُها
بَيانُ عَدَمِ شَرعيَّةِ أسَاسِها .
نماذج من الفتاوى المجمع عليها
الحمدُ للهِ الذي أرسلَ رسولَه بالهدى ودينِ الحقِّ، وجعلَ شريعتَه ميزانًا للعدلِ وشرطًا للأمنِ. والصلاةُ والسلامُ على من أقامَ دولةَ الحقِّ والعدلِ، سيدِنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه، والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.أيها الإخوةُ والأخواتُ الكِرام، إنَّ الشريعةَ الإسلاميةَ هي الدستورُ الإلهيُّ الخالدُ الذي يضمنُ صيانةَ الحقوقِ، وحفظَ الأعراضِ، وإقامةَ العدلِ بينَ الناسِ. لقد وضعَ الإسلامُ أسسًا وقواعدَ راسخةً لإثباتِ الحقوقِ وفصلِ الخصوماتِ، لا مجالَ فيها للظنِّ المُجرَّدِ، ولا التحكيمِ العُرفيِّ المُخالفِ لأصولِ العدالةِ الربَّانيةِ.
وفي ظِلِّ تنوُّعِ الثقافاتِ وتأصُّلِ العاداتِ، تبرزُ بعضُ الأعرافِ القبليةِ القديمةِ التي تهدفُ ظاهريًّا إلى إقامةِ العدلِ، ولكنها تتصادمُ تصادمًا مُباشرًا معَ أصولِ القضاءِ الإسلاميِّ. ومن أبرزِ هذه العاداتِ ما يُعرفُ بـِ "البَشْعةِ"، وهي طريقةٌ للتقاضي والحكمِ على المُتَّهمِ بالبراءةِ أو الإدانةِ. هذهِ المحاضرةُ البحثيةُ تسعى إلى وضعِ هذه العادةِ تحتَ مجهرِ الفقهِ والأصولِ، لبيانِ حُكمِ الإسلامِ فيها، مُستندينَ إلى نصوصِ الوحيِ الشريفِ وقواعدِ العدلِ التي جاءتْ بها شريعتُنا الغرَّاء.
المبحث الأول: تَوصِيفُ "البَشْعةِ" وأُصولُها العُرْفِيَّةُ
لفهمِ حُكمِ الإسلامِ في أيِّ نازلةٍ، يجبُ أولًا تَصوُّرُ حقيقتِها.
حقيقةُ البَشْعةِ وكيفيَّتُها.
البشعةُ هي طريقةٌ من طُرقِ المُحاكمةِ العُرفيةِ والقبليةِ كانتْ مُنتشرةً في بعضِ البوادي والأريافِ، وتُعدُّ نوعًا من "القضاءِ بالتَّحمُّلِ" أو "المُحاكمةِ بالنارِ".
* آليةُ التنفيذِ: يُطلبُ من المُتَّهمِ لَعْقُ (لَحْسُ) أداةٍ معدنيةٍ مُسخَّنةٍ جدًا (كـِ المِبشَعة أو المِلعقة)، بعدَ تعريضِها للنارِ حتى الاحمرارِ الشديدِ.
* أساسُ الحُكمِ: يقومُ الحُكمُ على اعتقادٍ عُرفيٍّ، وهو:
• البراءةُ: إذا كانَ المُتَّهمُ صادقًا، فإنَّ لعابَه (ريقَه) يكونُ غزيرًا، ويُشكلُ حاجزًا يحمي لسانَه من الاحتراقِ، فيكونُ بريئًا.
• الإدانةُ: إذا كانَ المُتَّهمُ كاذبًا، فإنَّ خوفَه من انكشافِ أمرِه يُؤدِّي إلى جفافِ ريقِه (تسمَّى حالةَ إيباسِ الرِّيق)، ممَّا يُسبِّبُ التصاقَ المعدنِ الساخنِ بلسانِه واحتراقَه وظهورَ البثورِ، فيكونُ مُدانًا.
بَيانُ عَدَمِ شَرعيَّةِ أسَاسِها .
- إنَّ الأساسَ الذي بُنيَتْ عليهِ البشعةُ هو محضُ الظنِّ والتخمينِ والتَّعلُّقِ بأسبابٍ واهيةٍ غيرِ منضبطةٍ.
* الناحيةُ العلميَّةُ: الاحتراقُ هو نتيجةٌ حتميَّةٌ لِمُلامسةِ أيِّ جسمٍ مُسخَّنٍ إلى درجةِ الاحمرارِ للجلدِ أو الغشاءِ المخاطيِّ (كاللسانِ)، ولا علاقةَ لِبُخارِ اللعابِ بالغزارةِ التي تمنعُ الحرقَ في تلكَ الظروفِ. بل قد يُؤدي الخوفُ لزيادةِ التعرُّقِ أو إفرازِ اللعابِ في بعضِ الأشخاصِ، ممَّا يُبيِّنُ عدمَ انضباطِ هذهِ الطريقةِ واعتباطيَّتَها.
* الناحيةُ الشرعيةُ: الشريعةُ تُحذِّرُ من الحُكمِ بالظنِّ. قال تعالى:
{إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْـًٔا}
هذهِ الآليةُ تُلغي أساسَ العدلِ القائمَ على البينةِ اليقينيةِ، وتجعلُ مصيرَ المُتَّهمِ مُعلَّقًا بِمُجرَّدِ ردِّ فعلٍ فسيولوجيٍّ مُتوقَّعٍ أو غيرِ مُنضبطٍ.
المبحث الثاني: مَنهَجُ الإسْلامِ في إثْباتِ الحَقِّ . (القواعِدُ الفِقْهِيَّةُ)
- الإسلامُ وضعَ قَواعدَ ثابتةً للقضاءِ تفصلُ بينَ الحقِّ والباطلِ، وتَرتكِزُ على اليقينِ أو غلبةِ الظنِّ القريبةِ من اليقينِ بأسبابٍ شرعيةٍ.
أصولُ الإثباتِ المَشْروعِ
طُرقُ الإثباتِ المُتَّفقُ عليها في القضاءِ الإسلاميِّ هي:
* الإقرارُ: اعترافُ المُتَّهمِ على نفسِه بالتهمةِ.
* الشهادةُ: شهادةُ عدلينِ (أو ما يَنُوبُ عنهما بحسبِ نوعِ الحقِّ) بالواقعةِ.
* اليمينُ: الحَلِفُ على نفيِ التهمةِ عندَ عجزِ المُدَّعي عن تقديمِ البينةِ.
* القرائنُ القاطعةُ: الأدلةُ القويةُ والمُتضافرةُ التي تُفضي إلى اليقينِ، مثلَ DNA في العصرِ الحديثِ، بشرطِ عدمِ الاعتمادِ على القرينةِ وحدَها في الحدودِ والقصاصِ.
والأصلُ الفقهيُّ المُتَّفَقُ عليهِ في هذا البابِ، هو قولُ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ:
عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلمَ قال: « لَوْ يُعْطَى الناسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قومٍ ودِماءَهُمْ ولَكِنَّ البَيِّنَةَ على المُدَّعِي، واليَمِينَ على مَنْ أنْكَرَ» .
أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711) بنحوه، والبيهقي (21733) واللفظ له.
● البَشْعةُ كـَ "مُحاكمةٍ بالباطِلِ"
إنَّ إقحامَ البشعةِ في قضاءِ المسلمينَ يُعدُّ إهدارًا للقواعدِ السابقةِ، وتَعطيلًا لأحكامِ الشريعةِ في التقاضي.
* تَعطيلُ البينةِ: البشعةُ تُلغي الحاجةَ إلى الشهودِ والبينةِ، وتُحكِّمُ النارَ الساخنةَ، وهي جمادٌ لا يُمكنُ أنْ يكونَ شاهدًا أو قاضيًا.
* إلزامُ بالباطلِ: الحكمُ الصادرُ عن البشعةِ يُؤدِّي إلى أخذِ مالِ المُدانِ أو إثباتِ حقٍّ عليه بغيرِ دليلٍ شرعيٍّ، وهذا من أكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ الذي حرَّمَه اللهُ. قال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوٓا أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ وَتُدْلُوا بِهَآ إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة (الآية 188)
البشعةُ تُعدُّ من الإدلاءِ بالحُكَّامِ (العُرفيين) للحكمِ بالباطلِ على أموالِ الناسِ.
المبحث الثالث: الحُكمُ الفِقهيُّ القَطْعِيُّ في البَشْعةِ ومُخالفَتُها الشَّرْعِيَّةُ
أجمعتْ فتاوى الهيئاتِ الشرعيةِ والمجامعِ الفقهيةِ على أنَّ البشعةَ حَرامٌ قَطعِيٌّ ومُنكَرٌ عظيمٌ لا يجوزُ الحكمُ به ولا الاحتكامُ إليهِ، لِمُخالفتِها الصريحةِ لمقاصدِ الشريعةِ وقواعدِها.
نماذج من الفتاوى المجمع عليها
من الهيئات التي أصدرت فتاوى واضحة بتحريم "البشعة":
فتوى المركز العالمي للفتوى الإلكترونية بالأزهر الشريف: وقد أكدت الفتوى على أن البشعة حرام ، ولا يمكن الاعتماد عليها كدليل شرعي.وهذا نصها :
« اللجوء إلى «البَشِعَة» لإثبات الاتهام أو نفيه.. ممارسة جاهلية، وجريمة دينية وإنسانية، وصورة مستحدثة من الدجل والكهانة، واعتداء على منظومة العدل التي جاء بها الإسلام.
▪️ أقام الإسلام منظومة العدل على قواعد ثابتة تحفظ الحقوق وتصون الكرامة، ونهى عن كل وسيلة تُهين الإنسان أو تظلمه أو تُعرِّضه للضرر، ومن أخطر هذه الوسائل ما يعرف بـ«البَشِعَة»، التي هي ممارسة قائمة على الإكراه والإذلال، ولا تمتّ إلى القضاء ولا إلى البينات الشرعية بصلة، بل هي من بقايا الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها.
▪️ «البشعة» كهانة وادعاء لمعرفة الغيب، تُشبِه ما كان يفعله أهل الجاهلية من الاستقسام بالأزلام، الذي قال المولى سبحانه عنه: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3]، فهي باب من أبواب الفساد والباطل، يحرم العمل به والتحاكم إليه.
▪️تحمل «البشعَة» في طياتها أشكالًا من التعذيب البدني والنفسي؛ ففيها إذلال وتخويف، وتعذيب بالنار، الذي قال عنه سيدنا النبي ﷺ: «إنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بهَا إلَّا اللَّهُ» [أخرجه البخاري]، وقال أيضا ﷺ: «إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ في الدُّنْيَا» [أخرجه مسلم]، وفيها تمثيل بالإنسان الذي كرمه الحق سبحانه، وقد «نَهى النبيُّ ﷺ عَنِ النُّهْبى والمُثْلَةِ» [أخرجه البخاري]، وفي المثول لخرافة البشعة وصمٌ يلازم من تعرض لها طوال حياته، حتى وإن ثبتت براءته لاحقًا، فتترك بذلك أثرًا وألمًا نفسيًّا واجتماعيًّا -يسبق هذه الممارسة ويتبعها- يعيق حياته ويشوّه سمعته؛ سيما مع ما فيها من اتساع دوائر العقوبة للمشتبه فيهم دون بينة أو دليل؛ بما يخالف قواعد الشرع والقانون.
▪️أغلق الشرع أبواب الخرافة في إثبات الحقوق، ومنع وسائلها التي تُستخدم في الابتزاز والترهيب والتلاعب بمصائر الناس، وجعل مرجع الفصل في الخصومات هو البينة لا الادعاء، صيانةً لكرامة الناس وحقوقهم، فقال سيدنا النبي ﷺ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» [متفق عليه]، وعند الترمذي، قال سيدنا ﷺ: «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ».
▪️ طرق الإثبات في الشرع محددة ومنضبطة، وممارسة «البشعة» ليست مجرد خطأ، بل جريمة شرعية وإنسانية؛ لما تشتمل عليه من الإكراه، والإيذاء الجسدي والنفسي، واستغلال الضعفاء، والتعدي على اختصاص القضاء، والإضرار بالأبرياء، وقد قال ﷺ: «لا ضَررَ ولا ضِرَار». [أخرجه الحاكم]
▪️ لا يجوز التحاكم إلى «البشعة»، والعمل فيها، وإكراه أحد الناس عليها، ولا الاعتداد بنتائجها؛ بل الواجب ردُّ النزاعات إلى القضاء المختص، حيث البينات، والإجراءات العادلة، وصونُ الحقوق بعيدًا عن أساليب الترهيب والابتزاز.
▪️ وبما أن «البشعة» ممارسة محرمة، فإنه لا يجوز نشر المقاطع أو الصور أو الأخبار المروجة لها؛ لما يسببه من إحياء للعادات الجاهلية، وإشاعةٍ للباطل، وتعدٍّ على كرامة الإنسان، وإذكاءِ الفتنة والنزاعات في المجتمع، فضلًا عن كونه تشويهًا للوعي وهبوطًا بالذوق العام.
واللهَ نسأل أن يهدينا سبل الرشاد والسداد، وأن يمنَّ علينا بالعافية في الدين والدنيا والآخرة.
وَصَلَّىٰ اللَّهُ وسلَّم وبارَكَ علىٰ سَيِّدِنَا ومَولَانَا مُحَمَّد، وَعَلَىٰ آلِهِ وصَحبِهِ والتَّابِعِينَ، والحَمْدُ للَّه ربِّ العَالَمِينَ.
#الفتوى_الإلكترونية | #فقهيات | #مفاهيم ،أ- هـ
وُجوهُ التَّحريمِ الشَّرْعِيِّ
يُمكنُ إجمالُ الأسبابِ الفقهيةِ لتحريمِ البشعةِ فيما يلي:
* الوجهُ الأول: التَّعذيبُ والضَّرَرُ والإضرارُ بالنَّفسِ:
البشعةُ تُلحقُ باللسانِ حروقًا مؤلمةً قد تستدعي علاجًا طويلًا، والإسلامُ حرَّمَ الإضرارَ بالنفسِ أو الغيرِ.
عن أبي صِرمةَ مالك بن قيس المازني رضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ قال: "مَن ضارَّ أضرَّ اللهُ بهِ، ومن شاقَّ شقَّ اللهُ عليهِ."
حسن : أخرجه أبو داود (3635)، وابن ماجه (2342)، وأحمد (15755) واللفظ لهم، والترمذي (1940) باختلاف يسير
وفي معناها الحديثُ المشهورُ: "لا ضررَ ولا ضرارَ".
* الوجهُ الثاني: الحُكمُ بما لمْ يُنزِّلِ اللهُ بهِ سُلطانًا:
التحاكمُ إلى البشعةِ هو تحاكمٌ إلى عرفٍ جاهليٍّ يتنافى معَ نصوصِ الشريعةِ، وفي هذا خروجٌ عن مقتضياتِ الإيمانِ وطاعةِ اللهِ ورسولِه. قال تعالى آمرًا بالتحاكمِ إلى ما أنزلَ:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِيٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} سورة النساء (الآية 65)
التحاكمُ إلى البشعةِ يُعدُّ ضربًا من التحاكمِ إلى الطاغوتِ أو التحكيمِ العُرفيِّ المُناقِضِ لأحكامِ اللهِ ورسولِه.
* الوجهُ الثالث: الشُّبهةُ بالكهانةِ والتَّعويذِ:
البشعةُ تَنطوي على اعتقادٍ بأنَّ نتيجةَ الحرقِ ترتبطُ بقوةٍ غيبيةٍ كشفيةٍ (بسببِ الصدقِ أو الكذبِ)، وهذا يدخلُ في بابِ الاستدلالِ على الأمورِ الغيبيةِ أو المستقبليةِ بغيرِ دليلٍ شرعيٍّ، ويُشابهُ الكهانةَ التي حرَّمَها الإسلامُ.
قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "من أتى عرَّافًا فسألهُ عن شيءٍ فصدَّقَه لم تُقبَلْ له صلاةٌ أربعينَ ليلةً."
أخرجه أحمد (16638)، وأبو بكر بن الخلال في ((السنة)) (1402)، وأبو عوانة (9864) واللفظ لهم.
ولفظُ العرَّافِ يُطلقُ على من يدَّعي معرفةَ الغيبِ بأسبابٍ مُخالفةٍ للشريعةِ.
المبحث الرابع: التَّوصِياتُ العِلميَّةُ
- إنَّ الأمةَ التي تُريدُ لنفسِها العزةَ والكرامةَ لا يُمكنُ أنْ تُؤسِّسَ قضاءَها على النارِ والحدائدِ الساخنةِ، بل على العدلِ والبيِّناتِ اليقينيةِ التي صانَها الإسلامُ.
● مسؤوليَّةُ المُجتَمعِ تِجاهَ هذِه العادةِ
* التَّوعيةُ الفقهيةُ: يجبُ على الدعاةِ والعلماءِ والمُصلحينَ في المجتمعاتِ التي تنتشرُ فيها هذهِ العادةُ أنْ يُبيِّنوا حُكمَها الشرعيَّ القاطعَ وأنها من قبيلِ عاداتِ الجاهليةِ الأولى التي جاءَ الإسلامُ لإلغائِها.
* الالتزامُ بالقضاءِ الشرعيِّ: يجبُ حصرُ التقاضي في المحاكمِ الشرعيةِ أو القوانينِ المُستمدَّةِ منها، والتي تَعتمِدُ الأصولَ المُعتبَرةَ، وعدمُ اللجوءِ إلى التحكيمِ العُرفيِّ في الحدودِ والدماءِ وما يُوجبُ الضمانَ.
● وَقْفَةٌ في ميزانِ العدلِ
إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أمرَنا بالعدلِ، وجعلَه أساسَ صلاحِ الأرضِ: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ وَإِيتَآئِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الآية 90 من سورة النحل
فالعدلُ الذي أمرَ بهِ اللهُ هو العدلُ القائمُ على البينةِ واليقينِ، لا على النارِ والشكِّ والظنونِ.
إنَّ الحكمَ بالبشعةِ هو ظلمٌ مُضاعَفٌ: ظلمٌ للمُتَّهمِ بالتعذيبِ والحرقِ، وظلمٌ للمجتمعِ بنشرِ الجهلِ والمُعتقداتِ الباطلةِ.
إنَّ القضاءَ الإسلاميَّ يُبنى على الرحمةِ والتثبُّتِ، فـَ "درءُ الحُدودِ بالشُّبُهاتِ" قاعدةٌ ذهبيةٌ تُناقضُ تمامًا فكرةَ "البشعةِ" التي تُثبتُ الإدانةَ بحرقِ اللسانِ.
الخاتمةُ
لقد بيَّنتْ هذهِ المحاضرةُ أنَّ البشعةَ هي عادةٌ جاهليةٌ باطلةٌ، لا سندَ لها في الشريعةِ الإسلاميةِ، بل تُخالفُ أصولَها ومقاصدَها في حفظِ النفسِ، وإقامةِ العدلِ بالبينةِ الشرعيةِ، وتحريمِ الحكمِ بالظنونِ الفاسدةِ أو وسائلِ الضررِ والإضرارِ.
يجبُ على كلِّ مسلمٍ في أيِّ مكانٍ أنْ يُوقنَ بأنَّ الميزانَ الوحيدَ للحكمِ بينَ الناسِ هو شريعةُ اللهِ، وأنَّ أيَّ عرفٍ أو تقليدٍ يُخالفُها وجبَ تركهُ وإلغاؤهُ.
نسألُ اللهَ أنْ يُرشدَنا وإياكم إلى الحقِّ والعدلِ، وأنْ يُجنِّبَنا وإياكم الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ.