التَّطَرُّفُ لَيْسَ فِي التَّديِّنِ فَقَطْ
الإسلامُ دينُ، اليسر وعدم التشدد والغلو .
امواقف للنبي ﷺ ينهي فيها عن التشدد .
من صورُ التيسيرِ في الإسلام .
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأنَّ مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ. أمَّا بعدُ:
أولًا: الإسلامُ دينُ، اليسرٍ والتيسير :
أيها الإخوة المسلمون:
بِدايةً الإِسلامُ ، دينُ الوَسطِيَّةِ، دينُ الاِعتِدالِ، لَيْسَ دينَ التَّطرُفِ والإِرهابِ، لَيْسَ دينَ التَّعصُّبِ
، لَيْسَ دينَ التَّكفيرِ والغُلُوِّ والتَّشَدُّدِ، فَلا إِفراطَ ولا تَفريطَ، ولا غُلُوَّ ولا تَقْصيرَ،
قَالَ اللهُ تَعَالَى :
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان: 67]،
﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾ [الإسراء: 110]،
﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: 29]. قَالَ جلَّ وعَلا في حَقِّ أُمَّةِ الإِسلامِ
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]،
وَالتَّعَصُّبُ نَوْعَانِ :
تَعَصُّبٌ مَحْمُودٌ ، وَتَعَصُّبٌ مَذْمُومٌ .
التَّعَصُّبُ الْمَحْمُودُ :
مَا كَانَ مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ وَالدِّينِ بِلَا إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ فَلَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ قَطُّ وَلَكِنْ يَغْضَبُ إِذَا مَا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُ اللَّهِ.
تَقُولُ أُمِّنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْحِصَانُ الرَّزَانُ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وعَنْ عَائِشَةَ ’ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ))
التَّعَصُّبُ المَذْمُومُ:
وَهُوَ مَا كَانَ فِي سَبِيلِ الْبَاطِلِ وَالشَّيْطَانِ كَالْغَضَبِ لِلنَّفْسِ أَوْ الغَضَبِ لِلْعَصَبِيَّةِ أَوْ الغَضَبِ لِلْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ الغَضَبِ لِلْعَاطِفَةِ الْغَيْرِ مُنْضَبِطَةٍ بِالشَّرْعِ أَوْ الغَضَبِ لِلْدِّينِ بِدُونِ ضَوَابِطَ شَرْعِيَّةٍ فَرُبَّمَا يُفْسِدُ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِصْلَاحَ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا تَعَدُّونَ فِيكُمُ الصُّرْعَةَ؟ قُلْنَا: الَّذِي لَا تَصْرَعُهُ الرِّجَالُ، قَالَ: قَالَ لَا وَلَكِنِ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِندَ الْغَضَبِ ))
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَٰلِكَ:
حديث أبي ذَرّ الغفاري -رضي الله عنه- أنه قَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ).
ومن ذلك حديث جُنْدَب بن عبد الله -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَ (أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ).
فَالْإِسْلَامُ دِينُ الْوَسَطِيَّةِ وَالْتَّسَامُحِ، يَدْعُو إِلَى الْحِوَارِ وَالْعَدْلِ، لَكِنَّ الْتَّعَصُّبَ الْأَعْمَى يُعْمِي الْبَصِيرَةَ وَيُفْسِدُ الْقُلُوبَ. الْتَّعَصُّبُ الْأَعْمَى؟ إِنَّهُ التَّشَدُّدُ الْأَحْمَقُ فِي نَصْرَةِ الْرَّأْيِ أَوِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْمَذْهَبِ ، حَتَّى يَرْفُضَ الْحَقَّ وَيُفْضِي إِلَى الْعُنْفِ وَالْفِتْنَةِ، كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: "التَّعَصُّبُ هُوَ الْغُلُوُّ فِي التَّعَلُّقِ بِفِكْرَةٍ أَوْ عَقِيدَةٍ، بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ مَجَالًا لِلتَّسَامُحِ".
التَّعَصُّبُ الأَعْمَى:
مَرَضٌ اجْتِمَاعِيٌّ خَبِيثٌ، وَفَيرُوسٌ وَبَائِيٌّ فَتَّاكٌ، وَسَرَطَانٌ مُدَمِّرٌ لِلشُّعُوبِ، حَارَبَهُ الْإِسْلامُ حَرْبًا لَا هَوَادَةَ فِيهَا؛ ذَلِكُمْ لِأَنَّ عَوَاقِبَهُ وَخِيمَةٌ، وَنَتَائِجَهُ خَطِيرَةٌ، إِنَّهُ الْعَصَبِيَّةُ، وَالْقَبَلِيَّةُ، والْعُنْصُرِيَّةُ، والطَّبَقِيَّةُ، وَالْإِقْلِيمِيَّةُ، وَالْحِزْبِيَّةُ، وَالنَّعْرَةُ الْجَاهِلِيَّةُ، إِنَّهُ الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَصَدَقَ الْمَعْصُومُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَقُولُ أَبِي مَالِكٍ الأشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(( أَرْبَعٌ في أُمَّتي مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ في الأحْسابِ، والطَّعْنُ في الأنْسابِ، والاسْتِسْقاءُ بالنُّجُومِ، والنِّياحَةُ. وقالَ: النَّائِحَةُ إذا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِها، تُقامُ يَومَ القِيامَةِ وعليها سِرْبالٌ مِن قَطِرانٍ، ودِرْعٌ مِن جَرَبٍ) صَحِيحِ مُسْلِمٍ .
التَّعَصُّبُ الأَعْمَى :
حَارِبُه الْإِسْلَامُ وأَبْطَلَه، وَبَيَّنَ أَنَّ مِيزَانَ الرِّجَالِ الْحَقِيقِيِّ هِيَ التَّقْوَى قَالَ جَلَّ وَعَلَا [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات:13).
وَعَن أَبِي نَضْرَةَ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى))
أيها الإخوة المسلمون:
إنَّ دينَنَا الحنيفَ دينُ اليُسرِ ، فهو قائمٌ على اليسرِ وعدمِ المشقةِ، فالتيسيرُ على العبادِ مرادُ اللهِ، والمشقةُ لا يريدُهَا اللهُ لعبادِهِ قال تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.[البقرة: 185]،
ومِن يُسرِ الإسلامِ أنَّ اللهَ لم يكلفْ هذه الأمةَ إلّا بمَا تستطيع، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.(البقرة: 286).
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ فقَالَ لَهما:” يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا”.(متفق عليه).
وأنت ترى أنَّ النبيَّ ﷺ جمعَ بينَ الشيءِ وضدّهِ تأكيدًا؛ فإنَّه كان يكفِي قولهُ: ”يسِّرا ”؛ وإنَّمَا ذكرَ الضدَّ: ”ولا تعسّرَا” تأكيدًا للأمرِ.
ثانياً :مواقف للنبي ﷺ ينهي فيها عن التشدد :
السيرة النبوية مليئة بالمواقف الدالة على معاملة النبي ﷺ الناس معاملة حسنة والنهي عن التشدد منها :
1 - عن أنس بن مالك :
(جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي. ) صحيح البخاري
2 -عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ:
"بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟"، قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ، أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟، "أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.) صحيح البخاري
وفي رواية (حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يومئذ) صحيح مسلم
قال الإمام النووي :
وقول أسامة: (حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يومئذ) معناه: لم يكن تقدم إسلامي بل ابتدأت الآن الإسلام ليمحو عني ما تقدم،
(وفي رواية )
قال خالد بن الوليد : وكَمْ مِن مُصَلٍّ يقولُ بلِسَانِهِ ما ليسَ في قَلْبِهِ؟ فقالَ له رَسولُ اللَّهِ ﷺ :
(إنِّي لَمْ أُومَرْ أنْ أنْقُبَ عن قُلُوبِ النَّاسِ ولَا أشُقَّ بُطُونَهُمْ !)
(رواه مسلم في صحيحه )
قال ابن حجر:
"كلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر"،
وقال أيضاً "وفيه دليل على ترتُّب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة".
هذه المواقف والأمثلة من السيرة النبوية تبين بجلاء أنه ينبغي على المسلم أن يعامل الناس بما يظهر من أقوالهم وأفعالهم، ويترك سريرتهم إلى الله تعالى ويعاملهم باليسر والرفق وعدم التشدد.
3 ـ عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ(قطعة ذهب صغيرة)فَقَسَمَهَا بَيْنَ ، الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ ، وَزَيْدٍ الطَّائِيِّ، وغيرهم فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ قَالُوا:
يُعْطِي صَنَادِيد أَهْل نَجْدٍ وَيَدَعُنَا قَالَ:
(إِنَّمَا أَتأَلَّفُهُمْ) فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاتِىءُ الْجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقٌ، فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ يَا مُحَمَّدُ
فَقَالَ:
( مَنْ يُطِعِ اللهَ إِذَا عَصَيْتُ أَيَأْمنُنِي اللهُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونَنِي )
فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ: إَنَّ مِنْ ضِئْضِئِي هذَا أَوْ فِي عَقِبَ هذَا قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ، وَيَدعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ) صحيح البخاري
4 - وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ صَلَّى الْعِشَاءَ فَطَوَّلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: ” أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ، خَفِّفْ عَلَى النَّاسِ، وَاقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا تَشُقَّ عَلَى النَّاسِ “.
(السنن الكبرى للبيهقي).
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ إنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنِ الصَّلَاةِ في الفَجْرِ ممَّا يُطِيلُ بنَا فُلَانٌ فِيهَا، فَغَضِبَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ما رَأَيْتُهُ غَضِبَ في مَوْضِعٍ كانَ أَشَدَّ غَضَبًا منه يَومَئذٍ، ثُمَّ قالَ:
يا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ مِنكُم مُنَفِّرِينَ، فمَن أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ، فإنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ والكَبِيرَ وذَا الحَاجَةِ ) صحيح البخاري
أيها الإخوة المسلمون:
نبينا صلى الله عليه وسلم هو المثال والقدوة التي وجَّهنا القرآن الكريم إلى اتِّباعها والسير على خطاها، كي ننال الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة،
قال الله تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِر}(الأحزاب:21)..
وقد حثنا وأمرنا النبي ﷺ على التعامل بحُسن الأخلاق جميع الناس مع الوالدين والزوجة، والأقرباء والجيران، والعمال والخدم، والفقراء والأيتام، والأصدقاء والأعداء، ومع الناس جميعاً،
فعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
والمعنى: عاملِ الناس بالأخلاق الحسنة بالقول وبالفعل".
ثالثاً : من صورُ التيسيرِ وعدم التشدد في الإسلام :
إنَّ يسرَ الإسلامِ تتجلَّى في كلِّ أمرٍ مِن أمورِهِ، دقيقِهَا وجليلِهَا،
ومِن أهمِّ الصورِ التيسيرُ في تكاليفِ الزواجِ وعدم المغالاةِ في المهورِ، لأنَّ التشددَ والمغالاةَ في ذلك يصرفُ الشبابَ إلى الطرقِ غيرِ المشروعةِ والمحرمةِ، والنفسُ إنْ لم تجدْ للحلالِ طريقًا، وجدتْ في الحرامِ طُرقًا،
لهذا أرشدَنَا النبيُّ ﷺ إلى التيسيرِ في الزواجِ والصداقِ، فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” يُمْنُ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرُ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرُ صَدَاقِهَا “.( أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي).
ومِن مظاهرِ يسرِ الإسلامِ :
أنَّ العباداتِ – مع أنَّها أركانُ الإسلامِ – تسقطُ في حالاتِ الأعذارِ وعدمِ القدرةِ.
فالزكاةُ لا تجبُ إلّا على مَن ملكَ نصابًا وحالَ عليهِ الحولُ، ثم هي نسبةٌ قليلةٌ تنفعُ الفقيرَ ولا تضرُّ الغنيَّ،
والصومُ لا يجبُ إلَّا على المسلمِ البالغِ العاقلِ القادرِ على الصومِ،
والحجُّ لا يجبُ إلَّا على المستطيعِ مرةً واحدةً في العمرِ،
والصلواتُ الخمسُ شُرعتْ في أوقاتٍ مناسبةٍ لا تمنعُ مِن عملٍ ولا تفوتُ بها مصلحةٌ، ورخّصَ قصرَ الصلاةِ الرباعيةِ في السفرِ والجمعَ بينَ الصلاتين، والفطرَ في رمضانَ للمريضِ والمسافرِ، وللمريضِ يُصلِّي قائمًا فإنْ لم يستطعْ فقاعدًا فإنْ لم يستطعْ فعلَى جنبهِ،
وفي الطهارةِ أباحَ المسحَ على الخفينِ والجواربِ بدلَ غسلِ الرجلينِ في الوضوءِ بشرطهِ، وأباحَ التيممَ بدلَ الوضوءِ والغسلِ للمريضِ الذي يضرُّهُ الماء…… وهكذا
ومِن مظاهرِ التيسير في الإسلامِ:
السماحةُ في المعاملاتِ والبيعِ والشراءِ، وذلك بأنْ يتحلَّى كلٌّ مِن البائعِ والمشترِي بالسماحةِ،
فعَن جابرٍ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: “رحِم اللهُ رجلًا سمحًا إذا باعَ وإذا اشتَرى وإذا اقتَضَى”.( البخاري)
. يقولُ الإمامّ ابنُ حجرٍ: ”
فيه الحضُّ على السماحةِ في المعاملةِ، واستعمالُ معالِي الأخلاقِ ، وتركُ المشاحةِ، والحضُّ على تركِ التضييقِ على الناسِ في المطالبةِ وأخذِ العفوِ منهُم.” ( فتح الباري).
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الأَنبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَبَعْدُ:
ومِن أهمِّ مظاهرِ التيسير في الإسلامِ:
التيسير مع غيرِ المسلمين، في السلمِ والحربِ،
فقد روى مسلمٌ في صحيحهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ” كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا” .
فلا يجوزُ أنْ يُقصدَ بالقتالِ مَن ليسُوا بأهلٍ لهُ، كالنِّساءِ والأطفالِ والشُّيوخِ، والزَّمنى والعُمي والعَجَزةِ، والذين لا يُباشرونَهُ عادةً كالرُّهبانِ ، إلاَّ إذا اشتركَ هؤلاء في القِتالِ وبدأّوا هُم بالاعتداءِ، فعندهَا يجوزُ قتالُهُم.
بهذه الأخلاقِ مِن اليسرِ والسماحةِ وعدم التشدد كان الرجلُ لا يكادُ يعاملُ النبيَّ ﷺ إلَّا ويسلمُ إنْ كان كافرًا، أو يزيدُ إيمانُهّ إنْ كان مُسلمًا،
إنَّنا يجبُ أنْ نكونَ دعاةً بتعاملِنَا قبلَ أقوالِنَا، يجبُ أنْ نكونَ رحماءَ بإخوانِنَا حتى تسودَ المودةُ، وينتشرَ الإخاءُ؛ لأنَّ غيابَ التسامحِ يمزقُ شملَنَا، ويفرقُ جمعَنَا.
اللَهُمَّ اجْعَلْنَا لِلْبِرِّ فَاعِلِينَ وَأَصْلِحْ أَحْوَالَنَا أَجْمَعِينَ
وَاحْفَظْ بلَادَنَا فَأَنْتَ خَيْرُ الحَافِظِينَ.
.أسألُ اللهَ أنْ يطهرَ قلوبَنَا ويحسنَ أخلاقَنَا ويجمعَ شملَنَا ويوحدَ كلمتَنَا،
الدعاء...... وأقم الصلاة.......