recent
أخبار عاجلة

خطبة الجمعة فظللتُ أستغفرُ اللهَ منها ثلاثينَ سنة الشيح عبدالناصربليح

  فَظَلِلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً


                                                


 حين يفضح القلب موقف المالِ العام 

الحمدُ للهِ الَّذي لا تُحصى نعمُه، ولا يُجافى عدلُه، ولا يُخلف وعدُه، الحمدُ للهِ على السَّراءِ والضَّراء، وعلى العافيةِ والابتلاء، أحمده سبحانه وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل القلوبَ محلَّ نظره، والأعمالَ موازينَ عدله، وأشهد أن سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبِه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد

 أيها الأحبة الكرام نحن اليوم أمام كلمةٍ واحدة… كلمةٍ قصيرة، لكنها هزَّت قلب رجلٍ من كبار العُبَّاد، فظلَّ يستغفر اللهَ منها ثلاثين سنة.

اسمعوا القصة، وافتحوا لها قلوبكم قبل آذانكم.

 كان الإمام العابد سري السقطي – رحمه الله – في بغداد، فاشتعلت نارٌ عظيمة في السوق، واحترقت المتاجر، وعمَّ البلاء، والناس بين خائفٍ وباكٍ ومفجوع.

فجاءه رجلٌ مسرعٌ يقول له: "أبشر… دكانُك قد سَلِم".

قال أبو بكر الحربي : سمعت السري يقول : حمدت الله مرة ، فأنا [ ص: 186 ] أستغفر من ذلك الحمد منذ ثلاثين سنة . قيل : وكيف ذاك ؟ قال : كان لي دكان فيه متاع ، فاحترق السوق ، فلقيني رجل ، فقال : أبشر ، دكانك سلمت ، فقلت : الحمد لله ، ثم فكرت ، فرأيتها خطيئة .

ويقال : إن السري رأى جارية سقط من يدها إناء ، فانكسر ، فأخذ من دكانه إناء ، فأعطاها ، فرآه معروف الكرخي ، فدعا له ، قال : بغض الله إليك الدنيا . قال : فهذا الذي أنا فيه من بركات معروف .

قال سري السقطي كلمةً لا يجرؤ أحدٌ أن يقول عنها: حرام. قال: "الحمد لله".

ثم علم بعد ذلك أن السوق كله قد احترق… إلا دكانه.

فقال كلمته التي أثرت في القلوب: "فظللتُ أستغفرُ اللهَ من تلك الكلمة ثلاثين سنة".

الله أكبر!

 هل قال كلمةَ كفر؟ .. لا    

هل سرق؟ ..لا  

هل ظلم؟.. لا.

هل أكل مالًا حرامًا؟.. لا.

إنما فرح بسلامته… ونسي المصابين.

فرح بنفسه… وغفل عن غيره.

 وهنا مربط الفرس، وهنا بداية المحاسبة الحقيقية.

 أيها الأحبة الكرام: الإسلام لا يكتفي بأن تكون يدك نظيفة، بل يريد قلبك حيًّا. لا يرضى أن تقول: "أنا ما عملتش حاجة غلط"، بينما قلبك ميت الإحساس.

قال تعالى:"يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ   إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ"(الشعراء/89-88).

 قلبٌ سليم… من الأنانية، من الشماتة، من الفرح على حساب آلام الناس.

 أيها الأحبة الكرام … دعوني أسألكم سؤالًا يهز الضمائر:

ماذا لو كان دكان سري السقطي قد نجا بمال السوق كله؟ ماذا لو كانت نجاته على حساب احتراق الآخرين؟

 هنا ندخل إلى الجرح المفتوح… هنا نصل إلى قضية المال العام.

المال العام يا عباد الله، ليس مال الدولة فقط، ولا مال الحكومة فقط، ولا مال لا صاحب له كما يظن بعض الناس.

المال العام هو:

 حق الفقير

 حق اليتيم

 حق المريض

 حق الأرملة

 حق العامل الغلبان

 حق الطالب في مدرسته

 وحق المريض في سريره

 كل جنيه من المال العام وراءه إنسان.

فإذا فَرِحَ إنسانٌ بزيادةٍ ليست من حقه، أو بمكافأةٍ بلا وجه حق، أو بتسهيلٍ فاسد، أو بتوقيعٍ ظالم، ثم قال: "الحمد لله"…فليتذكَّر هذا الرجل

هذا الرجل الذي استغفر ثلاثين سنة لأنه قال: "الحمد لله دكاني سَلِم".

لم يسرق

لم يظلم

لم يأكل مالًا حرامًا

بل قال كلمةً

خرجت من اللسان

وفضحت ما في القلب

فظلَّ يستغفر الله منها ثلاثين سنة

ثلاثين سنة

علشان فرح بسلامة دكانه وهو ناسي غيره

لكن إحنا؟! نفرح ، ونضحك ، ونأمِّن نفسنا

وورانا ناس بتتوجع ، وناس بتتسرق ، وناس بتدفع التمن

السؤال هنا: مين اللي اتحرق دكانه النهارده؟

عارفين مين ؟

 مستشفى ناقصة علاج

 مدرسة سقفها واقع

 فقير مش لاقي لقمة

وإحنا نقول:

الحمد لله… أنا تمام!

الحمد لله المرتب كبر، والناس جعانة؟

الحمد لله المشروع خلص، والمستشفى ناقصة أجهزة؟

الحمد لله أنا ظبطت نفسي، والباقي يولع؟

أي قلب هذا؟!

قال رسول الله ﷺ:

 "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

واللهِ… ما كذب رسول الله.

 أيها الأحبة الكرام: المال العام اختبار قلوب قبل أن يكون اختبار قوانين.

قد ينجو الإنسان من المحاسبة في الدنيا، لكن من يُحاسِب القلب يوم القيامة؟!

يقول النبي ﷺ:

 "إن رجالًا يتخوَّضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة".

ركز في معنى الحديث

ليس الحديث عن السرقة فقط، بل عن التخوُّض… الاستسهال… التبرير… اللامبالاة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 الخطبة الثانية

الحمدُ لله ربِّ العالمين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه.

أما بعد

 أيها الأحبة الكرام: نعود إلى سري السقطي مرةً أخرى، لا لنُعجب به، ولكن لنحاسب أنفسنا.

سري السقطي لم يُحاسِب الكلمة، بل القلب الذي وراء الكلمة.

وأنا أسألك، وتسأل نفسك:

كم مرة فرحنا بنجاتنا، ونسينا غيرنا؟

كم مرة قلنا: "الحمد لله"، ووراء الكلمة قلبٌ أناني؟

كم مرة مرَّ علينا بلاء الناس، وقلنا: "أنا مالي"؟

واللهِ… هذه أخطر من الذنب.

لأن الذنب يُرى فيُستغفر منه، أما قسوة القلب فلا تُرى.

 أيها الأحبة الكرام … المال العام لا يُضيَّع فقط بالسرقة، بل:

بالسكوت عن الفساد

بالمجاملة على حساب الحق

بالصمت خوفًا على المصلحة

بالفرح بالنعمة دون شكرها بحقها

قال تعالى:"وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ"

قال: أموالكم… ليُشعرنا أن مال غيرك هو مالك، وأن الاعتداء عليه اعتداء على نفسك.

  أيها الأحبة الكرام: لو كان سري السقطي بيننا اليوم، ورأى ما نرى، وسمع ما نسمع

كم سنةً كان سيستغفر؟!

ثلاثين؟ ولا ثلاثمائة؟ ولا العمر كله؟!

إن الله لا يصلح عملًا فيه قلبٌ فاسد.

 ولا يقبل شكرًا بلا إحساس.

 ولا يبارك نعمةً قُطِعت من أفواه الناس.

google-playkhamsatmostaqltradent