فِقْهُ الْحَيَاةِ
الإسلام دين حياة وصناعة للحياة
الحفاظ على الحياة مقصد من مقاصد الشريعة
فقه الحياة في الصبر على البلاء
الحمدُ للهِ الَّذي أَحيا القلوبَ
بنورِ الإيمان، وجعلَ الحياةَ ميدانًا للعبادةِ والعطاء، وأمرَنا أن نحيا حياةً
طيبةً بالإيمانِ والعملِ الصالح، أحمدُه سبحانهُ وأشكره، وأشهدُ أن لا إله إلا
اللهُ وحدَه لا شريكَ له، خلقَ الحياةَ والموتَ ليبلوَنا أيُّنا أحسنُ عملًا،
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، المبعوثُ بالحياةِ بعد الموت، والهدايةِ بعد
الضلال، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
الحياةُ كلمةٌ عابرةٌ في اللفظ، عظيمةٌ
في المعنى، لا يعرفُ قيمتَها إلا من عرفَ سرَّ وجوده فيها، ولا يُحسنُ العيشَ فيها
إلا من فقهَها على ميزانِ الشرعِ والعقلِ معًا, الحياةُ ليست أنفاسًا تُعدُّ، ولا
أيّامًا تمضي، بل هي رسالةٌ تُؤدَّى، وأمانةٌ تُحمَل، وطاعةٌ تُقدَّم للهِ عزَّ
وجلّ, قال ربُّنا جلَّ جلالُه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ فحياةُ القلبِ
بالإيمان، وحياةُ الروحِ بالذكر، وحياةُ الجسدِ بالعملِ والعطاء.
مدخل للخطبة:
ليس في دينِنا رهبانيَّةٌ تُبعدُ
الناسَ عن الحياة، ولا روحانيةٌ جوفاءُ تُميتُ الجسدَ وتقتلُ الطموح، بل الإسلامُ
جاءَ ليُعيدَ للحياةِ معناها، وللإنسانِ قيمتَه، فجمعَ بين العبادةِ والعمران،
وبين الروحِ والمادة، وبين الدعاءِ والعمل.
الإسلامُ لا يريدُ منك أن تعيشَ
الحياةَ عبثًا، بل يريدُ أن تفقهَ الحياةَ؛ أن تفهمَها كما أرادها الله، وأن تسيرَ
فيها وَفقَ منهجِ النبوَّة، لا وفقَ أهواءِ الناس.
كم من أناسٍ يعيشون ولكنهم أمواتٌ في
المعنى! يأكلون ويشربون ولكن لا هدفَ يسمو بهم، ولا عملَ يقرِّبهم إلى الله.
وفي المقابل، كم من أناسٍ ماتت
أجسادُهم، ولكن بقيت آثارُهم حيَّةً إلى اليوم!
أولئك هم الذين فقهوا الحياة فعاشوا
لله، وماتوا على دربِه، فكتب الله لهم حياةً لا تنتهي.
وإنَّ من فقه الحياة أن تفهمَ أنَّها
دارُ عملٍ لا دارُ أملٍ، ودارُ ممرٍّ لا مقرٍّ، وأنَّ أيامَها أوراقٌ تُكتبُ فيها
مواقفُك، فإن كتبتَها بطاعةٍ بقيتْ لك، وإن كتبتَها بمعصيةٍ كانتْ عليك.
عباد الله:
نحن اليوم أحوجُ ما نكونُ إلى فقهِ الحياةِ
في زمنٍ ضاعت فيه الموازين، وأُعجِبَ كلُّ ذي رأيٍ برأيه، وانشغلَ الناسُ
بالمظاهرِ عن المقاصد، وبالكسبِ عن الرسالة، وبالمتاعِ عن المعاد.
نحتاجُ أن نتذكّر: ما معنى الحياة؟
ولماذا نعيش؟ وكيف نعبدُ الله فيها؟
ذلك هو موضوعُ لقائنا اليوم: "فقه
الحياة".
العنصر الأول: الإسلام دين حياة وصناعة
للحياة
حين نقرأ القرآن بعين المتأمّل، ندرك
أنّ الإسلام دينُ حياةٍ بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فهو لا يريد من الإنسان أن
ينسحب من الدنيا أو يعتزلها، بل أن يعمّرها، ويملأها خيرًا وعدلًا وجمالًا.
قال الله تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾
أي طلب منكم عمارتها، لا خرابها، أن
تبنوا وتزرعوا وتعملوا وتبدعوا، وأن تجعلوا كل حركةٍ في حياتكم طاعةً لله.
والإسلام لا يفصل بين الدين والدنيا،
بل يجعل الدنيا مزرعةَ الآخرة, فالنبي ﷺ لم يكن راهبًا في صومعة، بل كان نبيًّا
يقودُ أمةً، ويُقيمُ دولةً، ويخططُ للحياة على الأرض وفق شرع الله.
وكان يشارك في بناء المسجد، وفي حفر
الخندق، وفي التجارة، وفي تنظيم المجتمع، وفي الإصلاح بين الناس، كل ذلك عبادةٌ
وقربةٌ إلى الله.
ولهذا قال بعض السلف: "العبادة
ليست كثرة صلاةٍ وصيام، ولكن العبادة إصلاحُ القلبِ والعملُ على منهج الله."
انظروا كيف أحيا الإسلام الأمم بعد
موتها:
أمة العرب قبل الإسلام كانت ممزّقةً
بالجهل والظلم والعصبية، فلما جاء نور الإسلام، تحولت إلى أمةٍ حيةٍ بالعلم
والعقيدة والعدل, كانت القبيلة تقتل لأجل ناقة، فأصبحت تقاتل لأجل نشر الرحمة
والحق، كانوا يتفاخرون بالأنساب، فأصبحوا يتفاخرون بالإيمان والعمل.
لقد علّمهم الإسلام كيف يعيشون لله،
وكيف يعمّرون الحياة بإيمانهم وعدلهم.
ومن أبلغ ما يدل على أن الإسلام دينُ
حياةٍ قوله ﷺ: "إن قامت الساعةُ وفي يد أحدكم فسيلةٌ، فإن استطاع أن لا يقوم
حتى يغرسها فليغرسها." أي عظمةٍ في هذا التوجيه!
الناسُ تهرعُ حين تقوم الساعة، والنبي ﷺ
يوصي بالزراعة! إنه يريد أن يزرع فينا روح الإيجابية إلى آخر لحظةٍ من الحياة،
يريد أن يقول لنا: عش صانعًا للحياة، لا هاربًا منها، عش معمرًا في الأرض حتى وإن
دنت القيامة.
أيها الأحبة:
لقد جعل الإسلام صناعة الحياة عبادةً،
حتى الكلمة الطيبة صدقة، والابتسامة في وجه أخيك صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق
صدقة، والسعي على العيال عبادة، كما قال ﷺ: "دينارٌ تنفقه في سبيل الله،
ودينارٌ تنفقه في رقبة، ودينارٌ تتصدق به على مسكين، ودينارٌ تنفقه على أهلك،
أعظمها أجرًا الذي تنفقه على أهلك."
أرأيت كيف يجعل الإسلام من تفاصيل
حياتك اليومية عبادةً تُكتب لك بها الحسنات؟
فهو دين يُحب الحياة، ويأمر بإحيائها،
ويرفض الكسل واليأس والعجز.
ومن صور صناعة الحياة التي دعا إليها
الإسلام:
طلب العلم، فهو حياة العقول.
العمل والإنتاج، فهو حياة الأوطان.
الإحسان إلى الخلق، فهو حياة القلوب.
الجهاد في سبيل الله، فهو حياة الأمة
بالعزة والكرامة.
عباد الله: إننا اليوم بحاجةٍ ماسة إلى
أن نُعيد إلى الناس فقه الحياة على منهج الإسلام،
أن نُعلّم أبناءنا أن الحياة ليست
لهوًا ولا عبثًا، بل هي فرصةٌ لصناعة الخير، وأن المسلم الحق هو من يزرع شجرة،
ويغرس فكرة، ويبني بيتًا، ويكتب علمًا، ويترك أثرًا طيبًا بعد رحيله.
العنصر الثاني: الحفاظ على الحياة مقصد
من مقاصد الشريعة
أيها الأحبة في الله: حين نتأمل مقاصد
الشريعة نجد أن الإسلام جاء ليحفظ الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والمال،
والنسل، وأول هذه المقاصد بعد الدين: حفظ النفس، أي حماية الحياة الإنسانية من كل
ما يهددها.
فالحياة في نظر الإسلام ليست مجرد
وجودٍ بيولوجي، بل هي أمانةٌ من الله، يُحاسَب الإنسان على صيانتها ورعايتها.
قال الله جل جلاله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾
فانظر إلى عظمة التشريع، جعل إنقاذَ
حياةٍ واحدةٍ كإحياء البشرية كلها!
حفظ الإسلام الحياة من جهاتٍ متعددة:
1- حفظها من القتل والاعتداء:
حرّم الإسلام القتل بكل صوره، وعدّه من
أعظم الكبائر, قال النبي ﷺ: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئٍ مسلم بغير
حق», فأي دينٍ أعظم من هذا الدين الذي يجعل حياة إنسانٍ واحدٍ أغلى من الدنيا بما
فيها؟
حتى في الحرب، حيث تسيل الدماء، جاء
الإسلام ليضع أخلاق الحرب: لا يُقتل شيخ، ولا امرأة، ولا طفل، ولا يُقطع شجر، ولا
تُهدم بيوت، بل حتى الحيوانات أُمرنا ألا تؤذيها عبثًا, إنه دين يحفظ الحياة حتى
في أشد أوقات القتال!
2- حفظها من الانتحار والتهلكة:
نهى الإسلام عن كل ما يعرّض الحياة
للهلاك، فقال الله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾
وحذّر النبي ﷺ من الانتحار، فقال: «من
قتل نفسه بشيءٍ عُذِّب به يوم القيامة».
فالإسلام يريد من المؤمن أن يصبر على
بلائه، ويستعين بالله، ولا ييأس من رحمته، لأن الله هو واهب الحياة، وهو وحده الذي
يقبضها حين يشاء.
3- حفظها من الأمراض والآفات:
جاءت شريعتنا بالأمر بالنظافة
والوقاية، ونهت عن كل ما يضر الجسد, قال ﷺ: «لا ضرر ولا ضرار».
وأمر بالتداوي فقال: «تداووا عباد
الله، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له دواءً».
فالنظافة عبادة، والوقاية عبادة،
والعلاج عبادة، لأن حفظ الجسد عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه، فهو جسد أُعطي لك
أمانة لتعمل به في طاعة الله لا لتفسده.
4- حفظها من الفقر والجوع والخوف:
ألم يقل الله تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا
رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾؟
فمن مقاصد الإسلام أن يعيش الإنسان آمنًا مطمئنًا، يجد ما يسد حاجته من طعامٍ
وسكنٍ وأمان.
ولهذا حث الإسلام على التكافل
الاجتماعي، فقال ﷺ: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته».
وقال أيضًا: «ليس المؤمن الذي يشبع
وجاره جائع إلى جنبه».
ومن أروع ما يُروى في هذا الباب ما
فعله عمر بن عبد العزيز رحمه الله: كان يرسل إلى ولاته في الأمصار يقول:
“ انظروا من في طريق المسلمين من الضعفاء
والمرضى، فاحملوهم، وأكرموهم، فإنهم أمانة الله بين أيديكم.”
لقد فهم أن الحياة لا تُحترم بالمال
فقط، بل بالرعاية والعناية.
وكذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله
عنه حين وقع عام الرمادة، كان يطوف بالليل يحمل على كتفه جراب الدقيق والسمن،
يقول: “بئس الوالي أنا إن شبعتُ والناس جياع.” إنها دروس في فقه الحياة الواقعية،
لا شعارات.
إن حفظ الحياة اليوم لا يقتصر على
حماية الدماء، بل يشمل حماية العقول من الانحراف، والأبدان من السموم، والبيئة من
الفساد، فالإسلام دين شامل يحمي الإنسان وكل ما تقوم عليه حياته.
لقد صار من فقه الحياة المعاصر أن
نحافظ على مواردنا، ونمنع التلوث، ونعتني بالصحة، ونحارب الإدمان، ونحفظ الأمانات،
لأن كل ذلك يدخل في باب “حفظ النفس” الذي هو مقصد شرعي عظيم.
العنصر الثالث: فقه الحياة في الصبر
على البلاء
أيها الإخوة الأحبة، إن من أعظم ما
تحتاجه النفس في هذه الحياة المتقلبة: فقه الصبر على البلاء, فما من أحد إلا وله
نصيب من الابتلاء، قال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ
وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾.
الابتلاء سنة الله في عباده، وهو علامة
محبة أحيانًا ورفعة درجات، كما قال النبي ﷺ: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم
الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل».
انظروا إلى نبي الله أيوب عليه السلام،
ابتُلي في جسده وماله وأهله سنين طويلة، ومع ذلك ما سمع منه إلا الحمد والثناء،
حتى جاء الفرج من الله فقال سبحانه: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾.
وانظروا إلى آل ياسر في مكة، كانوا
يُعذَّبون في رمضاء الصحراء، والنبي ﷺ يمر بهم ويقول: «صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم
الجنة».
وهذه أم سليم رضي الله عنها، مات ولدها
الصغير، فتهيأت لزوجها أبو طلحة، وتجلدت وصبرت، فلما أخبرته قالت: "ابشر، فإن
الله بارك لنا في ليلتنا"، فرزقهما الله بعد ذلك عبد الله بن أبي طلحة، فكان
من نسله عدد من القراء والعباد.
أيها الأحبة، الصبر ليس مجرد احتمال
الألم ساكتًا، بل هو رضا وتسليم لأمر الله، وثقة أن وراء البلاء حكمة ورحمة. قال
عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وجدنا خير عيشنا بالصبر". وقال علي بن أبي
طالب رضي الله عنه: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس
هلك الجسد".
واليوم، كم من الناس يبتلى في صحته، أو
في ولده، أو في رزقه، وربما يجزع ويسخط وينسى أن البلاء باب للجنة ورفعة في
الدرجات. قال النبي ﷺ: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا همٍّ ولا حزن ولا أذى
ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه».
فلنجعل من ابتلاءاتنا سلّمًا إلى الله،
ولنحوِّل محننا إلى منح، ولنستحضر أن وراء كل دمعة أجرًا، ووراء كل صبر جنّة عرضها
السماوات والأرض, هكذا نفقه الحياة: أن نعيش صابرين، شاكرين، مطمئنين أن ما عند
الله خير وأبقى.
الخاتمة:
أيها الأحبة الكرام: فقه الحياة ليس
دروسًا تُحفظ، بل سلوكٌ يُعاش, هو أن تحيا لله لا لنفسك، وأن تجعل الدنيا طريقًا
إلى الآخرة لا بديلًا عنها، أن تبني الأرض وأنت تبتغي وجه السماء. فلنحيا كما أراد
الله لنا: حياةَ إيمانٍ وعملٍ، حياةَ إحسانٍ وإتقانٍ، حياةَ توازنٍ وسموٍّ, نسأل
الله أن يحيي قلوبنا بذكره، وأن يبارك في أعمارنا في طاعته.