recent
أخبار عاجلة

- خطبة الجمعة ماأنزلنا عليك القرآن لتشقي الشيخ عبدالناصربليح

مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ 

 


  الْقُرْآنُ رَحْمَةٌ وَسَعَادَةٌ

  الْغُلُوُّ وَالتَّشَدُّدُ يُنَاقِضُ مَقْصِدَ الْقُرْآنِ

  وَاجِبُنَا تِجَاهَ الْقُرْآنِ.

 الْقُرْآنُ سَبِيلُ صَلَاحِ الْمُجْتَمَعَاتِ وَنَهْضَتِهَا

 

الحمدُ للهِ رب العالمين  وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، وعلي آله وصحبه وسلم.

حديثنا إليكم اليوم عن قوله تعالي:"  مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى"(طه: 1-2).

آيةٌ جليلةٌ تُعلن أنَّ هذا الكتابَ العظيمَ ما نزلَ ليُثقِلَ على القلوبِ، ولا ليُحمِّلَها ما لا تُطيقُ، بل نزلَ رحمةً، وراحةً، وهدايةً، ونورًا، وسعادةً، وتذكرةً لِمَن يخشى.

قال السعدي في تفسيره: “لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْوَحْيِ، وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْكَ، وَشَرْعِ الشَّرِيعَةِ، لِتَشْقَى بِذَلِكَ،.. إِنَّمَا جَعَلَهُ مُوصِلًا لِلسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ". (تفسير السعدي ص 501).

قَالَ قَتَادَةُ:"مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، لَا وَاللهِ مَا جَعَلَهُ اللهُ شَقِيًّا، وَلَكِنْ جَعَلَهُ رَحْمَةً وَنُورًا، وَدَلِيلًا إِلَى الْجَنَّةِ" (تفسير الطبري، ج16، ص 9). 

وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ مُتَوَلِّي الشَّعْرَاوِي رَحِمَهُ اللهُ: "أنزلنا عليك القرآن لتسعد، تسعد أولاً بأن اصطفاك لأن تكون أَهْلاً لنزول القرآن عليك، وتسعد بأن تحمل نفسك أولاً على منهج الله وفِعْل الخير كل الخير" (خواطر الشعراوي، تفسير طه د15، ص9211).

فيا مَن ظنَّ أنَّ القرآنَ شدَّةٌ بلا رحمةٍ، أو تعبٌ بلا راحةٍ… إنَّك لم تفهم رسالةَ ربِّك.

  الْقُرْآنُ رَحْمَةً وَسَعَادَةً

أيُّها الأحبَّةُ في اللهِ… لقد كان رسولُ الله ﷺ يُجهدُ نفسَه في العبادةِ، يقومُ الليلَ طويلًا، ويُكثِرُ من التلاوةِ والقيامِ حتَّى شقَّ ذلك عليه، فرحِمَه ربُّه ونزلَ قولُه:"مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى".

وقال الرازيُّ في تفسيره: "قَالَ مُقَاتِلٌ إِنَّ أَبَا جَهْلٍ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةٍ وَمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّه ﷺ: إِنَّكَ لَتَشْقَى حَيْثُ تَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ فَقَالَ ﷺ: «بَلْ بُعِثْتُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"

 قَالُوا: بَلْ أَنْتَ تَشْقَى فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، – إلي أن قال-  وَهَذَا الْقُرْآنُ هُوَ السَّبَبُ فِي إِدْرَاكِ كُلِّ سَعَادَةٍ… وَثَانِيهَا: .. مَا أَنْزَلْنَاهُ لِتُهْلِكَ نَفْسَكَ بِالْعِبَادَةِ وَتُذِيقَهَا الْمَشَقَّةَ الْعَظِيمَةَ وَمَا بُعِثْتَ إِلَّا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ"(التفسير الكبير، ج22، ص 7).

فتأمَّلوا يا عبادَ اللهِ القرآنُ رحمةٌ للعالَمين، سعادةٌ في الدنيا قبلَ الآخرةِ، طمأنينةٌ في القلوبِ، وراحةٌ في الأرواحِ، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا"(مريم: 96). أي سيجعلُ لهم محبَّةً في قلوبِ عبادهِ، ورضًا وسكينةً في حياتهم.

وقد قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: “مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي الْفِقْهِ نَمَا قَدْرُهُ، وَمَنْ كَتَبَ الْحَدِيثَ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ، وَمَنْ نَظَرَ فِي اللُّغَةِ رَقَّ طَبْعُهُ، وَمَنْ نَظَرَ فِي الْحِسَابِ جَزُلَ رَأْيُهُ، وَمَنْ لَمْ يَصُنْ نَفْسَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ" (صفة الصفوة لابن الجوزي ح1، ص436 – سير أعلام النبلاء ج 10، ص18 – جامع بيان العلم ج1، ص 511). 

فانظروا كيف ربطَ الإمامُ بين شرفِ القرآنِ ورفعةِ الإنسانِ.

إنَّ القرآنَ الكريمَ ليس كتابَ تشريعٍ وهدايةٍ فحسب، بل هو قبل ذلك وبعده كتابُ رحمةٍ للعالمين، امتلأت آياتُه إشراقًا بالرحمة، وغمرت تعاليمُه القلوبَ بالطمأنينة والسكينة. فقد قال اللهُ تعالى:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ  قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ".

وجعل سبحانه هذا الكتاب المبين مصدرًا للرحمة والفرح والهداية، فقال عز شأنه: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ". فهو كتابُ حكمةٍ ورحمة، ينيرُ دربَ المحسنين، كما قال تعالى:"تِلْكَ آياتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ"

وبيَّن جلّ وعلا أن هذا القرآنَ تنزيلٌ مفصَّلٌ بالعلمِ والإحكام، لا يخرج عن دائرةِ الرحمة والهداية، فقال سبحانه:"وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ".

ولذلك تكررت مادةُ الرحمةِ في القرآنِ الكريمِ أكثرَ من مائتَي مرة، دلالةً على أن هذا الكتابَ العظيمَ أُنزِل ليكونَ رحمةً للعقولِ والقلوب، رحمةً للأفرادِ والجماعات، رحمةً تُنقذُ الإنسانَ من ظلماتِ الجهلِ والضلالِ إلى نورِ الإيمانِ والهدى.

رحمةٌ تُرافقُ المؤمنَ في عبادتِه، فيحيا متوازنًا بين الطاعةِ والجسدِ، بين الروحِ والجسدِ.

أيها الإخوةُ كم من قلبٍ أظلَمَهُ الغفلةُ، فأضاءَهُ القرآنُ! وكم من نفسٍ أرهقَها الهمُّ، فأراحَها القرآنُ! وكم من إنسانٍ حائرٍ ضائعٍ، فهَداهُ القرآنُ!

إذا القرآنُ في الأرواحِ يُتلى 

                         تهاوَتْ كلُّ أحزانٍ ثقيلَهْ

وجاءَ القلبُ مُبتسمًا رضًى 

                   ونالَ النُّورَ في دُنيا جَميلَهْ

فالقرآنُ روحُ القلوبِ كما أنَّ الروحَ حياةُ الأجسادِ، وبهِ تحيا القلوبُ وتزكو النفوسُ وتستنيرُ العقولُ.

  الْغُلُوُّ وَالتَّشَدُّدُ يُنَاقِضُ مَقْصِدَ الْقُرْآنِ

عبادَ اللهِ… إنَّ هذا الدِّينَ دينُ سماحةٍ وبُشرى، لم يُرِد اللهُ لنا فيه عُسرًا ولا مَشقَّةً، بل جاء بالهدايةِ والرحمةِ. قال عزَّ وجلَّ:"يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ"(البقرة: 185).

وقد نبَّهَ النَّبيُّ ﷺ أُمَّتَه إلى خطورةِ الغلوِّ فقال:"إيَّاكم والغلوَّ في الدِّينِ، فإنَّما أهلكَ مَن كان قبلَكم الغلوُّ في الدِّينِ"(أحمد  ، والنسائي  ، وصحَّحه المنذري).

أيها الأحبة… الغلوُّ هو أن يتجاوزَ المرءُ حدودَ الشرعِ، فيُثقِل على نفسِه أو على غيرِه بما لم يُكلِّفْه اللهُ به. وهو عكسُ مقصد القرآن، الذي نزلَ رحمةً وتخفيفًا.

وقصةَ الثلاثة الذين جاءوا يسألونَ عن عبادة رسول الله ﷺ، فكأنَّهم تقالُّوها، فقال أحدُهم: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي". (البخاري 5063، مسلم 1401).

وقال ابن حجرٍ: "أَنَّ الْمُشَدِّدَ لَا يَأْمَنُ مِنَ الْمَلَلِ بِخِلَافِ الْمُقْتَصِدِ فَإِنَّهُ أَمْكَنُ لِاسْتِمْرَارِهِ وَخَيْرُ الْعَمَلِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ"(فتح الباري، ج9، ص 105).

أيها المسلمون:"

 لقد حذَّرَ السلفُ من هذا الداء، فعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال ﷺ:"إياكم والغلوَّ في الدينِ فإنما أهلَك مَن كان قبلَكم الغلوُّ في الدينِ"(أخرجه أحمد (1851) مطولاً واللفظ له، والنسائي (3057)، وابن ماجه (3029)).

ونحن إذا نظرنا إلى تاريخنا وجدنا أن أول فرقةٍ ابتعدت عن روح القرآن هم الخوارج، الذين غلَوا في الدين حتى كفَّروا الصحابة، واستباحوا دماء المسلمين، وقال عنهم وعن غيرهم النبي ﷺ: «يقولونَ مِن خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لا يُجاوِزُ إيمانُهُمْ حَناجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ "(البخاري ، مسلم ).

وقد لخَّص ابن القيم رحمه اللهُ هذه الوسطية بكلمةٍ جامعة فقال:"فَدِينُ اللهِ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ. وَخَيْرُ النَّاسِ النَّمَطُ الْأَوْسَطُ، الَّذِينَ ارْتَفَعُوا عَنْ تَقْصِيرِ الْمُفْرِطِينَ، وَلَمْ يَلْحَقُوا بِغُلُوِّ الْمُعْتَدِينَ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا، وَهِيَ الْخِيَارُ الْعَدْلُ، لِتَوَسُّطِهَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْمَذْمُومَيْنِ"(إغاثة اللهفان، ج1، ص 183).

فالغلوُّ يا عبادَ اللهِ، لا يُنتجُ إلَّا فسادًا وانقسامًا، وضيقًا على الناسِ، ونفورًا من الدين، بينما القرآنُ جاء رحمةً للعالمينَ، يُحبِّبُ الخلقَ في ربهم، ويُيسِّرُ لهم طريقَ النجاةِ.

وقد قال الشاعرُ:

لا تَغلُ في شيءٍ من الأمرِ واقتصِدْ 

                                كلا طرفَي قصدِ الأمورِ ذميمُ

  وَاجِبُنَا تِجَاهَ الْقُرْآنِ.

عباد الله:" إِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كِتَابًا يُتْلَى بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَلَا مَصْحَفًا يُزَيَّنُ بِالذَّهَبِ وَالزُّخْرُفِ، وَلَكِنَّهُ مَنْهَجُ حَيَاةٍ، وَدُسْتُورُ أُمَّةٍ، وَمِيزَانُ عَدْلٍ. نَزَلَ لِيُعْمَلَ بِهِ فِي كُلِّ مَجَالِ الْحَيَاةِ: فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، فِي الْأَسْرَةِ وَالْمُجْتَمَعِ، فِي الْحُكْمِ وَالْعَدْلِ.

قَالَ تَعَالَى:"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا"(البقرة: 143)، أَيْ عَدْلًا مُعْتَدِلَةً، لَا غُلُوَّ فِيهَا وَلَا تَفْرِيطَ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَحْمِلُهَا الْمُسْلِمُونَ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْقُرْآنِ.

قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:"مَا شَدَّدَ أَحَدٌ عَلَى نَفْسِهِ إِلَّا عَجَزَ، فَسُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ الْقَصْدُ وَالِاقْتِصَادُ"(مناقب الشافعي للبيهقي، ج2، ص171).

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ:"الْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَهُوَ دَلِيلُ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ" (السنة للخلال، ج1، ص246).

وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ:"لَنْ يُصْلِحَ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا" (الشريعة للآجري، ج1، ص27).

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ… لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَيَاتِهِ أُسْوَةً فِي تَطْبِيقِ الْقُرْآنِ وَتَجْسِيدِ الْيُسْرِ وَالِاعْتِدَالِ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّهُ ﷺ "ما خُيِّرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أمْرَيْنِ قَطُّ إلَّا أخَذَ أيْسَرَهُمَا"( البخاري ، ومسلم ).

إذًا وَاجِبُنَا – يَا عِبَادَ اللهِ – أَنْ نَجْعَلَ الْقُرْآنَ دَلِيلَنَا فِي كُلِّ طَرِيقٍ، وَنُعَلِّمَهُ لِأَبْنَائِنَا، وَنَجْعَلَ أَخْلَاقَهُ سُلُوكَنَا، وَنَجْعَلَ أَحْكَامَهُ مِعْيَارَنَا فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.

كِتَابُ اللهِ أَحْيَانَا نُسُوكًا 

                          وَأَخْرَجَنَا مِنَ الْبُؤْسِ الْمُهِينِ

فَمَا أَجْمَلْتَهُ دِينًا قَوِيمًا 

                                يُرَبِّي النَّفْسَ بِالرَّأْفَاتِ دِينِ

فَهَذَا هُوَ الْقُرْآنُ – يَا عِبَادَ اللهِ – نَزَلَ رَحْمَةً وَسَعَادَةً، وَحَذَّرَنَا مِنَ الْغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْمَلَ بِهِ وَنَسِيرَ عَلَى نُورِهِ.

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ الذي أنزلَ القرآنَ هُدًى للناسِ وبيّناتٍ من الهدى والفُرقان، نحمدُه سبحانه على ما هدانا، ونشكرُه على ما أولانا، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبدُه ورسولُه، صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه وعلى آلِه وأصحابِه أجمعين.

  الْقُرْآنُ سَبِيلُ صَلَاحِ الْمُجْتَمَعَاتِ وَنَهْضَتِهَا

أيها المسلمون… إنَّ القرآنَ العظيم لم يُنزَّل فقط ليُصلحَ الأفراد، بل لينقلَ البشريةَ من ظلماتِ الجهل والهوى إلى نورِ العدل والهُدى، ومن فوضى العصبية إلى رحابة الأخوّة الإيمانية.

تأمَّلوا قولَه تعالى:"وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا"(مريم: 98).

قال السعدي:"لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، بَلْ بَقِيَتْ أَخْبَارُهُمْ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَأَسْمَارُهُمْ عِظَةً لِلْمُتَّعِظِينَ"(تفسير السعدي، ص 513).

فهذه الآية تحذيرٌ للمجتمعات أن تُعرض عن منهج الله، فإنها إن فعلت كانت عاقبتُها الهلاك كما هلكت الأمم الغابرة.

أيها الأحبة… كان العرب قبل الإسلام قبائلَ متنازعةً متفرقة، يأكل القويُّ ضعيفَهم، تُسيطر عليهم العصبياتُ، وتسود فيهم عبادةُ الأوثان. فلما نزل القرآنُ وجاءت الرسالة، جمع اللهُ شملَهم، ووحَّد صفوفَهم، وصاروا أمةً واحدةً تقود العالمَ بالعدل والإيمان.

قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ: إِنِّي لَأَجْمِعُ أنْ أُخْرِجَ لِلنَّاسِ أَمْرًا مِنْ أَمْرِ الْعَدْلِ، فَأَخَافُ أَنْ لَا تَحْمِلَهُ قُلُوبُهُمْ، فَأُخْرِجُ مَعَهُ طَمَعًا مِنْ طَمَعِ الدُّنْيَا، فَإِنْ نَفَرَتِ الْقُلُوبُ إِلَى هَذِهِ سَكَنَتْ إِلَى هَذَا" (المجالسة وجواهر العلم، ج4، ص331).

المجتمع إن أعرض عن هدي القرآن اختلَّ نظامُه، وإذا احتكم إليه عاش في عدلٍ وأمان.

ألا نرى – يا عباد الله – أن صلاح المجتمعات إنما يكون بالقرآن؟ به تستقيم القوانين، وتُصان الحقوق، ويُقام العدل، وتُبنى الحضارة.

لقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمِ فَأَعَزَّنَا اللهُ بِالْإِسْلَامِ، فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا الله" (المستدرك للحاكم، ج1، ص298).

إذا القرآنُ سادَ الناسَ يومًا 

                          أقاموا العدلَ وانتشرَ الأمانُ

وأمَّا إنْ تُركْنا هَدْيَهُ ضاعوا 

                        وصاروا فوضى تفترسُهُمُ الفِتَنُ

رأينا أن القرآنَ رحمةٌ وسعادة.

وتبيَّن أن الغلوَّ والتشدد يناقضُ مقصدَه.

ووقفنا على واجبنا تجاهه من العمل والاعتدال.

وعلمنا أن المجتمعات لا صلاح لها ولا نهضة إلا بالقرآن.

فليكن القرآنُ منهاجَ حياتنا، ومِعراجَ سعادتنا، وحصنَ مجتمعاتنا، وسبيلَ نهضتنا.

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، وغمومنا.

اللهم علّمنا منه ما جهلنا، وذكّرنا منه ما نُسّينا، وارزقنا تلاوتَه آناء الليل وأطراف النهار.

اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك.

 

 

 

google-playkhamsatmostaqltradent