بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن
وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَفْضَلِ
الْخَلْقِ فَلَمْ يَتَدَابَرُوا
أَسْبَابِ الْخِلَافِ وَالِاخْتِلَافِ
مِنْ أَهَمِّ آدَابِ الْخِلَافِ
وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى
آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَالْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ
أَمْرٌ وَاقِعٌ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِتَفَاوُتِ الْأَفْهَامِ، وَاخْتِلَافِ
الْعُقُولِ، وَلَنْ يَنَالَ الْمُسْلِمُونَ الْعِزَّةَ إِلَّا بِجَمْعِ
شَمْلِهِمْ، وَتَوْحِيدِ كَلِمَتِهِمْ، وَتَآلُفِ قُلُوبِهِمْ، وَالتَّرَفُّعِ
عَنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ؛ فَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعُقُولُ فَلَا تَخْتَلِفُ
الْقُلُوبُ، وَكَيْفَ تَخْتَلِفُ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لِأُمَّتِنَا مِنْ
مُقَوِّمَاتِ الِاجْتِمَاعِ مَا لَا يَجْتَمِعُ لِغَيْرِهَا؟ فَإِلَهُنَا وَاحِدٌ،
وَنَبِيُّنَا وَاحِدٌ، وَدِينُنَا وَاحِدٌ، وَكِتَابُنَا وَاحِدٌ، فَلَمْ يَبْقَ
إِلَّا أَنْ نَكُونَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَفْضَلِ الْخَلْقِ فَلَمْ يَتَدَابَرُوا
وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَفْضَلِ الْخَلْقِ فَلَمْ
يَتَدَابَرُوا، وَلَمْ يَتَهَاجَرُوا، وَلَمْ يَتَخَاصَمُوا؛ وَقَعَ الْخِلَافُ
وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ فَبَعْدَ أَنِ اتَّخَذَ أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَارَهُ بِمُحَارَبَةِ مَانِعِي الزَّكَاةِ،
يَأْتِيهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: كَيْفَ
تُقَاتِلُ النَّاسَ! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي
مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» قَالَ أَبُو
بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛
فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا [هِيَ
الْعَنْزَةُ الصَّغِيرَةُ] كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ:
فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي
بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
️بَلْ وَقَعَ الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الرُّسُلِ
الْمُؤَيَّدِينَ؛ كَمَا وَقَعَ بَيْنَ آدَمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛
حَيْثُ يَقُولُ مُوسَى لِآدَمَ: «أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا
مِنَ الْجَنَّةِ! قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ،
وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ
أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ.
️وَكَذَا الْمَلَائِكَةُ الْمُكَرَّمُونَ وَقَعَ بَيْنَهُمُ
الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ؛ كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي الرَّجُلُ الَّذِي قَتَلَ
مِائَةَ نَفْسٍ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَمَلَائِكَةُ
الْعَذَابِ... رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
️وَوَقَعَ ذَلِكَ أَيْضًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ فِي مَوَاقِفَ كَثِيرَةٍ؛ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْحَسَمَ النِّزَاعُ بِمَوْقِفِ أَبِي
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلِهِ: (مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا؛
فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ
حَيٌّ لَا يَمُوتُ)، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 144]، رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ، وَبَعْدَ هَذَا النِّزَاعِ سَلَّمَ الْجَمِيعُ لِقَضَاءِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَلَا يَخْفَى – عَلَى كُلِّ مُطَّلِعٍ – اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي
مَسَائِلَ فِي فُرُوعِ الدِّينِ، مَعَ احْتِرَامٍ مُتَبَادَلٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ،
وَحُبٍّ وَتَآلُفٍ، وَدُعَاءٍ مُتَوَاصِلٍ؛ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ سَلِيمَةٌ،
وَنُفُوسَهُمْ طَاهِرَةٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ.
أَسْبَابِ الْخِلَافِ وَالِاخْتِلَافِ
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِنْ أَهَمِّ
أَسْبَابِ الْخِلَافِ وَالِاخْتِلَافِ الْمَذْمُومِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ:
1- التَّعَصُّبَ الْأَعْمَى: لِمُجَرَّدِ
الْمُسَمَّيَاتِ، وَحَصْرِ الدِّينِ تَحْتَ رَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ إِشَارَةٍ
مُحَدَّدَةٍ، فَيَنْضَوِي كُلُّ فَرِيقٍ تَحْتَ رَايَتِهِ، وَيُعَادِي مَنْ
خَالَفَهُ وَلَمْ يُتَابِعْهُ، فَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَهُوَ أَخُوهُ وَمُعِينُهُ،
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَهُوَ عَدُوُّهُ وَخَصْمُهُ.
2- امْتِلَاءَ الْقَلْبِ بِالْأَمْرَاضِ
وَالْعِلَلِ: كَالْحِقْدِ وَالْغِلِّ، وَالْكِبْرِ وَالْبَغْضَاءِ، وَتَرَصُّدِ
الْأَخْطَاءِ، وَالتَّرَبُّصِ بِالزَّلَّاتِ وَالتَّجْرِيحِ، وَهِيَ ثِمَارٌ
بَدَهِيَّةٌ عِنْدَمَا يَكُونُ مَنْبَعُ الْخِلَافِ هُوَ الْهَوَى، وَالْإِعْجَابَ
بِالرَّأْيِ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ عِنْدَمَا يَتَشَرَّبُ الْهَوَى يَسْوَدُّ
وَيَقْسُو، وَيُصْبِحُ مَرْتَعًا وَخِيمًا لِكُلِّ آفَةٍ وَعِلَّةٍ.
3- تَقْدِيسَ الْأَشْخَاصِ: وَرَفْعَهُمْ
إِلَى مَصَافِّ الْمَعْصُومِينَ الَّذِينَ لَا يُخْطِئُونَ، وَلَا يُسْأَلُونَ
عَمَّا يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاجِعَهُمْ أَحَدٌ!
وَقَدْ عَلَّمَنَا دِينُنَا أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ
وَيُرَدُّ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ
أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَ يُفْتِي فِي
مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمُتْعَةِ
بِالْحَجِّ (أَيْ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ):
«تَمَتَّعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ». ( رَوَاهُ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ)
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ النَّاسِ:
لَكِنْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ عَنِ التَّمَتُّعِ!
فَغَضِبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا، وَقَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْمَشْهُورَةَ، إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ:
«يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ
حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ!
أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ،
وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ؟!»
الْمَعْنَى:
أَيْ كَيْفَ تُقَدِّمُونَ قَوْلَ
غَيْرِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَوْ كَانَا أَفْضَلَ النَّاسِ بَعْدَهُ، عَلَى قَوْلِهِ
هُوَ؟!
فَكَلَامُ النَّبِيِّ ﷺ هُوَ
الْحُجَّةُ الْمُطْلَقَةُ، وَمَا سِوَاهُ يُقْبَلُ أَوْ يُرَدُّ حَسَبَ
مُوَافَقَتِهِ لِقَوْلِهِ ﷺ.
الدَّرْسُ الْمُسْتَفَادُ:
فِي الأَثَرِ تَأْكِيدٌ عَلَى وُجُوبِ
تَقْدِيمِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ سِوَاهُ،
وَأَنَّ الِاتِّبَاعَ الْحَقَّ هُوَ
اتِّبَاعُ الْوَحْيِ لَا الرِّجَالِ، وَإِنْ كَانُوا عِظَامًا فِي الْقَدْرِ
وَالْمَكَانَةِ.
4- تَنَافُرَ الْقُلُوبِ، وَانْعِدَامَ
التَّفَاهُمِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ: وَيَنْتُجُ عَنْ ذَلِكَ التَّبَاغُضُ
وَالْمُعَانَدَةُ، وَالتَّحَاسُدُ وَالْحِقْدُ وَالْغَيْرَةُ، وَالشِّقَاقُ
وَالتَّمَزُّقُ، وَهِيَ بِدَايَةُ الْهَزِيمَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الْأَنْفَالِ: 46]، وَتِلْكَ
ثَمَرَةٌ مُرَّةٌ لِتَنَافُرِ الْقُلُوبِ، وَانْعِدَامِ التَّفَاهُمِ وَالِانْسِجَامِ
الْمَطْلُوبِ، فَالْأَصْلُ أَنْ تَذُوبَ الْفَوَارِقُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ،
وَيُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيَعِيشُوا بِالْحُبِّ وَالْمَوَدَّةِ،
وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ مِثْلَ تَآلُفِ الْقُلُوبِ؛ فَإِنَّهُ
مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَعَوْنِ اللَّهِ
تَعَالَى.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ.. أُوصِيكُمْ
وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاجْتِمَاعِ وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ،
وَالتَّحَابِّ وَتَرْكِ الْخِلَافِ، فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّفَاقِ،
وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ؛ فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ
رَحْمَةٌ، وَالِاخْتِلَافَ عَذَابٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا
مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾ [هُودٍ: 118-119]. فَالْمَرْحُومُونَ مُتَّفِقُونَ لَا
يَخْتَلِفُونَ، وَإِذَا اخْتَلَفُوا لَا يَتَبَاغَضُونَ، وَلَا يَتَدَابَرُونَ.
وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ تَعَالَى
الْمُؤْمِنِينَ بِالِاتِّفَاقِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ، وَأَوْصَاهُمْ
بِالِاجْتِمَاعِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 103].
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ...
عِبَادَ اللَّهِ..
وَمِنْ أَهَمِّ آدَابِ الْخِلَافِ
وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ:
1- الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ تَعَالَى: وَهُوَ
أَمْرٌ سَهْلٌ نَظَرِيًّا، وَلَكِنْ عِنْدَ التَّطْبِيقِ يَكُونُ صَعْبًا؛ فَكَمْ
مِنْ شَخْصٍ انْتَصَرَ لِنَفْسِهِ، أَوْ مَذْهَبِهِ، أَوْ شَيْخِهِ، أَوْ
جَمَاعَتِهِ، وَهُوَ يَدَّعِي الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ تَعَالَى!
2- رَدُّ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ
إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النِّسَاءِ:
59]، فَتُرَدُّ الْمَسَائِلُ الْخِلَافِيَّةُ إِلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ ظَهَرَ
الدَّلِيلُ فَاتَّبِعْهُ، أَيًّا كَانَ قَائِلُهُ.
3- الْحَذَرُ مِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى:
فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُعْمِي وَيُصِمُّ، وَيُضِلُّ، وَيَصْرِفُ
الْإِنْسَانَ عَنْ خَيْرٍ عَظِيمٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26].
4- عَرْضُ الْآرَاءِ وَمَنَاقَشَتُهَا
بِهُدُوءٍ، وَسَعَةِ صَدْرٍ: وَهَذَا مِنْ أُصُولِ الْحِوَارِ وَالْمُحَاوَرَةِ
فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْبِحَ الْخِلَافُ
تَطَاحُنًا، أَوْ تَشَاجُرًا، فَيُؤَدِّيَ إِلَى التَّفَرُّقِ، وَالتَّبَاغُضِ
5- تَرْكُ التَّعَصُّبِ لِلشَّيْخِ، أَوِ
النَّفْسِ، أَوِ الرَّأْيِ: فَالَّذِي يَتَعَصَّبُ لِشَيْخِهِ، أَوْ لِرَأْيِهِ؛
فَشَأْنُهُ شَأْنُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْبِدَعِ، الَّذِينَ يَتَعَصَّبُونَ لِشُيُوخِهِمْ،
وَيَرُدُّونَ كُلَّ دَلِيلٍ خَالَفَهُمْ؛ بَلْ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَقْوَالَ
مَشَايِخِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ تَشْرِيعًا بِذَاتِهِ، وَرُبَّمَا جَعَلُوا مِنْ
أَقْوَالِهِمْ مَا يَنْسَخُ الشَّرِيعَةَ! نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الضَّلَالِ
وَالْإِضْلَالِ.
6- الِابْتِعَادُ عَنْ مَوَاطِنِ
الِاخْتِلَافِ وَالشَّغَبِ: فَإِنَّ الْعَالِمَ الرَّبَّانِيَّ إِذَا سُئِلَ عَنْ
مَسْأَلَةٍ مَا – وَهُوَ يَعْلَمُ الْمَفَاسِدَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى الْخِلَافِ
فِيهَا، وَالْفِتْنَةَ الَّتِي تُخَلِّفُهَا – فَإِنَّهُ يَرُدُّ السَّائِلَ إِلَى
مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ الصَّالِحِ -
أَحْيَانًا – يَتْرُكُونَ الْفَاضِلَ، وَيَأْخُذُونَ بِالْمَفْضُولِ؛ مُرَاعَاةً
لِلِاخْتِلَافِ، وَخُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ الَّذِي يَجُرُّ إِلَى مَفَاسِدَ
كَبِيرَةٍ، وَقَدْ يَتْرُكُونَ الْمَنْدُوبَ – فِي نَظَرِهِمْ – وَيَفْعَلُونَ
الْجَائِزَ؛ تَحْقِيقًا لِلْمَصْلَحَةِ.
فَمَعْلُومٌ أَنَّ ائْتِلَافَ قُلُوبِ
الْأُمَّةِ أَعْظَمُ فِي الدِّينِ مِنْ بَعْضِ الأُمُورِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا،
فَلَوْ تَرَكَهَا الْمَرْءُ لِائْتِلَافِ الْقُلُوبِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا،
وَذَلِكَ أَفْضَلُ إِذَا كَانَتْ مَصْلَحَةُ ائْتِلَافِ الْقُلُوبِ دُونَ
مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ،
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَائِشَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهَا:
«لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو
عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَلَأَلْصَقْتُهَا بِالْأَرْضِ،
وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ»
(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ
الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَتْرُكُ بَعْضَ الْأُمُورِ
الْمُخْتَارَةِ لِأَجْلِ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَدَفْعًا لِنَفْرَتِهَا،
وَلِهَذَا نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
عَلَى أَنَّهُ يُجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ عِنْدَ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ،
فَقَالَ: «يَجْهَرُ بِهَا إِذَا كَانَ
بِالْمَدِينَةِ»،
قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّ أَهْلَهَا
إِذْ ذَاكَ كَانُوا يَجْهَرُونَ، فَيَجْهَرُ بِهَا لِلتَّأْلِيفِ،
وَلِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّهُ يَقْرَأُ بِهَا، وَأَنَّ قِرَاءَتَهَا سُنَّةٌ،
كَمَا جَهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ
بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ،
فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ يَنْبَغِي
مُرَاعَاتُهُ.
7- الْعَدَالَةُ وَالْإِنْصَافُ مَعَ
الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ: وَمَعَ مَنْ تُحِبُّ وَمَنْ تُبْغِضُ، وَتَقُومُ
لِلَّهِ تَعَالَى شَهِيدًا بِالْقِسْطِ، وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَا يُخْرِجُكَ
غَضَبُكَ عَنِ الْحَقِّ، وَلَا يُدْخِلُكَ رِضَاكَ فِي الْبَاطِلِ، وَلَا
تَمْنَعُكَ الْخُصُومَةُ فِيمَا فِيهِ خَيْرٌ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،
قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ
شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [الْمَائِدَةِ: 8].
وَالتَّارِيخُ الإِسْلَامِيُّ مَلِيءٌ
بِالصَّفَحَاتِ الْمُشْرِقَةِ وَالْمَوَاقِفِ الْخَالِدَةِ الَّتِي أَعْلَى فِيهَا
الْمُسْلِمُونَ قِيمَةَ الْعَدْلِ، وَقَدَّمُوا فِيهَا أَعْظَمَ النَّمَاذِجِ
وَأَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ فِي إِنْصَافِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ:
عَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ – رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ – وَعَدْلُهُ وَإِنْصَافُهُ لِلْيَهُودِيِّ:
عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ
التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
(وَجَدَ عَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ –
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – دِرْعًا لَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ الْتَقَطَهَا،
فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: دِرْعِي سَقَطَتْ عَنْ جَمَلٍ لِي أَوْرَقَ.
فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: دِرْعِي وَفِي
يَدِي، ثُمَّ قَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ.
فَأَتَوْا شُرَيْحًا، فَقَالَ
شُرَيْحٌ: مَا تَشَاءُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟
قَالَ: دِرْعِي سَقَطَتْ عَنْ جَمَلٍ
لِي أَوْرَقَ، وَالْتَقَطَهَا هَذَا الْيَهُودِيُّ.
فَقَالَ شُرَيْحٌ: مَا تَقُولُ يَا
يَهُودِيُّ؟
قَالَ: دِرْعِي وَفِي يَدِي.
فَقَالَ شُرَيْحٌ: صَدَقْتَ وَاللَّهِ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا لَدِرْعُكَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ
شَاهِدَيْنِ.
فَدَعَا قَنْبَرًا مَوْلَاهُ،
وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – فَشَهِدَا أَنَّهَا
لِدِرْعِهِ.
فَقَالَ شُرَيْحٌ: أَمَّا شَهَادَةُ
مَوْلَاكَ فَقَدْ أَجَزْنَاهَا، وَأَمَّا شَهَادَةُ ابْنِكَ لَكَ فَلَا نُجِيزُهَا.
فَقَالَ عَلِيٌّ – رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ –: ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ، أَمَا سَمِعْتَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ – رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ – يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ
سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
فَلَمَّا رَأَى الْيَهُودِيُّ مَا
كَانَ مِنْ عَدْلِ عَلِيٍّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – وَإِنْصَافِهِ، قَالَ:
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَأْتِي مَعِي
إِلَى قَاضِيهِ، فَيَقْضِي عَلَيْهِ، وَيَرْضَى بِذَلِكَ؟!
ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلٰهَ
إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، دِرْعُكَ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، سَقَطَتْ عَنْ جَمَلِكَ الْأَوْرَقِ فَأَخَذْتُهَا.
فَقَالَ عَلِيٌّ – رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ –: أَمَّا إِذْ أَسْلَمْتَ فَهِيَ لَكَ.
فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّمَا
أَسْلَمْتُ لِمَا رَأَيْتُ مِنَ الْعَدْلِ، فَأَنْتَ تَحْمِلُنِي عَلَى الْجَوْرِ
وَأَنَا غَيْرُ مُسْلِمٍ، وَالْيَوْمَ تَحْمِلُنِي عَلَى الْعَدْلِ وَأَنْتَ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ!
فَأَخَذَ الدِّرْعَ، وَقَاتَلَ بَعْدَ
ذَلِكَ مَعَ عَلِيٍّ فِي صِفِّينَ ( البداية والنهاية ) .
8- عَدَمُ اتِّبَاعِ زَلَّاتِ
الْعُلَمَاءِ، وَالْآرَاءِ الشَّاذَّةِ: فَرُبَّمَا اجْتَهَدَ الْعَالِمُ
الرَّبَّانِيُّ فِي مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ فَأَخْطَأَ – وَهُوَ مَعْذُورٌ،
وَمَأْجُورٌ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ اتِّبَاعُهُ فِي هَذَا
الِاجْتِهَادِ الْخَاطِئِ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَطَرًا عَظِيمًا.
9- الِالْتِزَامُ بِآدَابِ الْإِسْلَامِ
عِنْدَ النَّقْدِ وَالِاخْتِلَافِ: وَانْتِقَاءُ أَطَايِبِ الْكَلَامِ،
وَتَجَنُّبُ الْكَلِمَاتِ الْجَارِحَةِ، وَالْعِبَارَاتِ الْمَشِينَةِ
اللَّاذِعَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النَّحْلِ:
125]؛ ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ
يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾
[الْإِسْرَاءِ: 53].
10- الْحَذَرُ مِنْ مَكْرِ الْأَعْدَاءِ،
وَخِطَطِهِمُ الْخَبِيثَةِ: الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ
إِثَارَةَ أَيِّ خِلَافٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ تَجَاوُزَ آدَابِهِ؛
فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِجَابَةٌ لِمُخَطَّطَاتِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، الَّذِينَ
يُوقِعُونَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ.
عباد الله :"
إنَّ أدبَ الخلافِ خُلُقٌ عظيمٌ لا
يستقيمُ حالُ الأمةِ إلا به، وميزانٌ دقيقٌ يُظهِرُ صدقَ الإيمانِ، وصفاءَ النيةِ،
ورُقِيَّ الأخلاق. فليس الشأنُ أن نختلفَ، فذلك من طبيعة البشر، ولكنَّ الشأنَ
كلَّ الشأنِ أن نحسِنَ الاختلاف، وأن نتحلَّى بالإنصاف، وأن نلتزمَ العدلَ
والرحمةَ في القولِ والعمل.
لقد ضربَ سلفُنا الصالحُ أروعَ
الأمثلةِ في أدبِ الخلاف، فكانوا يختلفونَ في الفروعِ ولا تتفرَّقُ قلوبُهم في
الأصول، ويتناظرونَ في المسائلِ، ثم يخرجونَ متحابِّينَ متآخين، لا يطعنُ أحدُهم
في نيةِ الآخر، ولا ينتقصُ من قدره.
فلنَجعلْ خِلافَنا رحمةً لا نقمة،
وتنوُّعًا لا تفرُّقًا، ولنستحضرْ في كلِّ موطنٍ قولَ الله تعالى:
﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]