مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ
الحمدُ للهِ الَّذي جَعَلَ القُرآنَ
هِدايةً لِلمُقبِلين، وجَعَلَ تِلاوَتَهُ بِخُضوعٍ تَهِلُّ دُموعَ الخاشِعين،
وجَعَلَ آياتِهِ نُورًا لِلسّائرين، وشِفاءً لِما في صُدورِ المؤمنين.
نَحمَدُهُ على نَعْمائِهِ الّتي لا
تُحصى، ونَشكُرُهُ على آلائِهِ الّتي لا تُستقصى، ونَستَعينُهُ في أَمرِ الدِّينِ
والدُّنيا، فَهُوَ مَولى المُتَّقين.
وأَشهَدُ أن لا إِلهَ إِلَّا اللهُ
وَحدَهُ لا شَريكَ لَه، أَنزَلَ الكِتابَ تِبيانًا لِكُلِّ شَيءٍ، وهُدًى ورَحمَةً
لِلمؤمنين.
وأَشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا
عَبدُهُ ورَسولُهُ، أَرسَلَهُ اللهُ بِالقُرآنِ هُدًى وضِياءً لِلعالَمين.
اللَّهُمَّ صَلِّ على سَيِّدِنا
مُحَمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصَحبِهِ أَجمَعين، ومَنِ اقتَفَى أَثَرَهُم إِلى يَومِ
الدِّين.
أَمَّا بَعدُ، فَيا أَيُّهَا
المؤمنونَ، أُوصِيكُم ونَفسيَ المُقصِّرَةَ بِتَقوَى اللهِ تعالى؛ فَهِيَ زادُ
السّائرين، ونورُ المُهتَدين، وحِرزُ الخائفين،
فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقوى،
وراقِبوهُ في السِّرِّ والنَّجوَى، لِتَكونوا مِنَ الفائزين.
ثُمَّ أَمَّا بَعدُ أَيُّهَا المُسلِمونَ:
فَالقُرآنُ الكَريمُ هُوَ حَبلُ اللهِ
المَتينُ، والذِّكرُ الحَكيمُ، والصِّراطُ المُستقيمُ، لا تَزيغُ بِهِ الأَهواءُ،
ولا يَشبَعُ مِنهُ العُلَماءُ، ولا يَخلُقُ عن كَثرةِ الرَّدِّ، ولا تَنقَضي
عَجائِبُهُ، ولا تَنتَهي أَسرارُهُ، فَهُوَ أَصلُ السَّعادةِ والهَناءِ، ومِفتاحُ
الطُّمأنينةِ في القُلوبِ، ودَليلُ اليُسرِ في الأَحكامِ، ومَنبَعُ التَّفاؤلِ في
الحَياةِ.
فَكُلَّما غاصَتِ الرُّوحُ في بَحرِ
آياتِهِ، خَرَجَتْ بِلآلِئِ السَّكينةِ، وبِفُيوضاتِ الرَّحمةِ، الَّتي تُلامِسُ
القُلوبَ العَطشى، وتَروي الأَنفُسَ الظَّمأى.
فَالقُرآنُ لَم يُنزَلْ لِيَكونَ
قَيدًا يُثقِلُ حَياةَ البَشَرِ، أَو سَوطًا يَجلِدُ النُّفوسَ، أَو حِملًا
تَنقَطِعُ بِهِ الأَنفاسُ، بَل هُوَ روحُ الحَياةِ، وحَياةُ الأَرواحِ، ومَنبَعُ
اليُسرِ والسَّماحَةِ.
فَالقُرآنُ كَلامُ اللهِ الَّذي أَنزَلَهُ
على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ لا لِشَقائِهِ وشَقَاءِ أُمَّتِهِ، بَل لِسَعادَتِهِ
وسَعادَتِهِم، قالَ تعالى:
{طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: ١-٣].
وَهُوَ مَصدَرُ رَحمَةٍ، قالَ تعالى:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ
شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: ٨٢].
رَحمَةٌ لا يَستَطيعُ البَشرُ – مَهما
فَعَلوا – أَن يَمنَعوا وُصولَها، أَو يَحجُبوا نُورَها، أَو يَسلُبوها بَعدَ
التَّنَعُّمِ بِها، طالَما أَنَّ اللهَ تَعالى هُوَ الَّذي أَذِنَ بِها، قالَ
تعالى:
{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ
رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: ٢].
وَهُوَ مَنبَعُ هِدايةٍ، قالَ تعالى:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي
لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: ٩].
وَهُوَ حامِلُ بَشارةٍ، يُبَشِّرُ مَن
آمَنَ بِهِ وعَمِلَ بِما فيهِ بِالحَياةِ الآمِنَةِ والعاقِبَةِ الحَسَنَةِ
والمَنزِلَةِ العَليَّةِ عِندَ رَبِّ البَرِيَّةِ سُبحانَهُ وتعالى، فيَقولُ
مَولانا:
{وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: ٩]،
ويَقولُ سُبحانَهُ:
{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: ٢].
كما أَنَّهُ كِتابُ نِذارةٍ، قالَ
تعالى:
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: ١٩].
ويُنذِرُ مَن كَذَّبَ بِهِ أَو خالَفَ
تَعاليمَهُ وأَوامِرَهُ، بِعَذابِ اللهِ الَّذي أَعَدَّهُ، قالَ تعالى:
{وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: ١٠].
وقالَ تعالى: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا
شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: ٢].
وكَذا يُنذِرُ مَن يُخرِجُ أَصحابَ
القُرآنِ مِن دائِرَةِ الإِيمانِ ويَرميهِم بِما يُخالِفُهُ، ويَنسبُ ذلِكَ إِلى
اللهِ افتراءً عَلَيهِ، وكانَ ابنُ عُمَرَ رضيَ اللهُ عَنهُما يَصِفُ أَصحابَ هذا
الصَّنيعِ بأنَّهُم شِرارُ الخَلقِ، ويُعَلِّلُ ذلِكَ قائِلًا:
«إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ
نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ».
وقد حَذَّرَنا اللهُ مِنَ الافتِراءِ
عَلَيهِ فقالَ:
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا
يُفْلِحُونَ} [النحل: ١١٦]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
إِنَّ مَن تَدَبَّرَ آياتِ القُرآنِ
وَجَدَ دَعوَتَهُ إِلَى التَّيْسِيرِ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً، فَالإِسلامُ تَيسِيرٌ
كُلُّهُ، لَا تَشَدُّدَ وَلَا غُلُوَّ، لَا عَنَتَ وَلَا تَكَلُّفَ وَلَا حَرَجَ؛
قالَ تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]،
وَقالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وَقالَ سُبحانَهُ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ
عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٢٨]، وَقالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨٦]، وَيَقُولُ سُبحانَهُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَٰئِكَ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الأعراف: ٤٢].
ونَصَّتِ السُّنَّةُ على هَذَا
المَعْنَى، وأَكَّدَتْ هَذَا المَبدَأَ، بَل أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ صَحابَتَهُ
الكِرامَ أَنْ يَلتَزِمُوهُ فِي كُلِّ أَحوَالِهِم، فَعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضيَ
اللهُ عَنهُ قالَ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا
وَلَا تُنَفِّرُوا» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ].
وفي حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ
اللهُ عَنهُ، يَقولُ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثتُم مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ
تُبعَثُوا مُعَسِّرِينَ» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ].
وعَن أَبِي بُرْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ
بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى اليَمَنِ فَقَالَ: «يَسِّرَا وَلَا
تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا»
[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
ورَوَت أُمُّ المُؤمِنِينَ عَائِشَةُ
رضيَ اللهُ عَنها مِن حالِ رَسولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ: «مَا خُيِّرَ بَيْنَ
أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا» [رَوَاهُ
البُخَارِيُّ].
ومَهما حَاوَلَ الإِنسانُ أَنْ
يُشَدِّدَ عَلَى نَفسِهِ أَو غَيرِهِ بِاسْمِ الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ يُغلَبُ، فَفِي
حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «وَلَنْ يُشَادَّ
الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ].
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ الغُلُوَّ وَالتَّشَدُّدَ
يَرجِعَانِ إِلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَعَدِيدَةٍ، مِنها – عَلَى سَبِيلِ المِثالِ
لَا الحَصرِ – عَدَمُ انتِهَاجِ نَهْجِ العُلَمَاءِ فِي الفَهمِ الصَّحِيحِ عَنِ
اللهِ جَلَّ وَعَلَا، قالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النَّحل: ٤٤]؛ فَلَا بُدَّ مِن
تَحَرِّي الدِّقَّةِ فِي الفَهمِ عَنِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا، فَسُوءُ الفَهمِ عَنِ اللهِ
وَرَسُولِهِ خِزْيٌ وَعَارٌ وَهَلَاكٌ وَدِمَارٌ.
ومِنهَا: عَدَمُ سُؤَالِ العُلَمَاءِ
الرَّاسِخِينَ عَنِ أُمُورِ الدِّينِ، وَعَدَمُ رَدِّ الأُمُورِ المُتَنَازَعِ
فِيهَا وَالخَفِيَّةِ إِلَى العُلَمَاءِ، قالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النَّحل: ٤٣]، وَقالَ سُبحانَهُ:
﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النِّسَاءِ: ٨٣].
ومِنها: الجُرْأَةُ عَلَى الكَلَامِ
فِي دِينِ اللهِ بِغَيرِ عِلمٍ، خَاصَّةً التَّجَرُّؤُ عَلَى الفُتْيَا دُونَ
تَحصِيلٍ لِمَا تَتَطَلَّبُهُ مِن تَمَكُّنٍ فِي العُلُومِ، وَقَد بَيَّنَ
النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ آثِمٌ، فَقَالَ: «مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ
كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ].
لِذَلِكَ كَانَ مِن أَشَدِّ مَا
خَافَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أُمَّتِهِ رَجُلٌ قَرَأَ القُرآنَ وَسَرَى نُورُهُ
إِلَيهِ، لَكِنْ حَمَاسَتُهُ وَانفِعَالُهُ وَكِبرُهُ وَهَوَاهُ وَفِكرُهُ
الخَاطِئُ أَخَذُوا بِيَدِهِ إِلَى مَفَاهِيمَ مَغْلُوطَةٍ وَأَفْكَارٍ مَنبُوذَةٍ،
فَوَقَعَ فِي الزَّلَلِ، وَسَقَطَ فِي أَوحَالِ التَّشَدُّدِ وَالتَّنَطُّعِ
وَالخُرُوجِ عَن مَقَاصِدِ الشَّرعِ، وَحَمَلَ القُرآنَ مَا لَا يَحتَمِلُهُ مِنَ
المَعَانِي، وَنَسَبَ إِلَيهِ مَا لَا يَقصِدُهُ مِنَ المَفَاهِيمِ.
فَعَن حُذَيفَةَ رضيَ اللهُ عَنهُ
قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ
القُرآنَ، حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيهِ، وَكَانَ رِدْءًا لِلإِسلامِ،
غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، فَانسَلَخَ مِنهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهرِهِ،
وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّركِ»، قُلتُ: يَا نَبِيَّ
اللهِ، أَيُّهُمَا أَولَى بِالشِّركِ، المَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ قَالَ: «بَلِ
الرَّامِي».
وَإِنَّ النَّاظِرَ فِي القُرآنِ
الكَرِيمِ يَرَى أَنَّهُ كَمْ دَعَا بِآيَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ وَتَوجِيهَاتِهِ
إِلَى حِمَايَةِ الفِكرِ مِنَ الزَّيغِ، وَنَبذِ التَّشَدُّدِ وَالانغِلَاقِ
وَالتَّطَرُّفِ، إِذْ إِنَّ تَحقيقَ ذَلِكَ يُعَدُّ سِيَاجًا قَوِيًّا وَحِصْنًا
مَنِيعًا لِحِمَايَةِ المُجتَمَعِ عَامَّةً، وَالشَّبَابِ خَاصَّةً، وَالأُسَرِ
جَمِيعِهَا، مِن أَيِّ فِكرٍ مُتَشَدِّدٍ.
فَتَرَاهُ يَدعُو الإِنسَانَ إِلَى
نَبذِ الهَوَى وَعَدَمِ اتِّبَاعِهِ؛ فَالهَوَى يَحولُ بَينَ الشَّخصِ وَبَينَ
الوُصولِ إِلَى المَعرِفَةِ الصَّحِيحَةِ، قالَ تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ
أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [المؤمنون: ٧١].
كما تَرَاهُ وَقَد نَهَى عَنِ
الغُلُوِّ فِي الدِّينِ، قالَ تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾
[البقرة: ١٤٣]، وَيَقُولُ ﷺ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُم وَالغُلُوَّ فِي
الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَن كَانَ قَبلَكُم الغُلُوُّ فِي الدِّينِ» [رَوَاهُ
ابنُ مَاجَه].
كما تَرَاهُ وَقَد نَهَى عَنِ القَولِ
عَلَى اللهِ بِغَيرِ عِلمٍ، قالَ تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٤٤].
كما تَرَاهُ وَقَد أَمَرَ بِتَدَبُّرِ
القُرآنِ بَعِيدًا عَنِ الجُمُودِ وَالانغِلَاقِ، قالَ تعالى: ﴿أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: ٢٤]، وَقالَ
سُبحانَهُ: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩].
أيُّها المؤمنونَ:
هكذا هو القُرآنُ العظيمُ، مِشكاةُ
النُّورِ، ومَعينُ السُّرورِ، وسَبيلُ الاعتدالِ في الأقوالِ والأعمالِ، من
تمسَّكَ بهِ نجا، ومن أعرضَ عنهُ غوى، ومن حكَّمَهُ في حياتِهِ رَفَلَ في نِعَمِ
اللهِ ظاهِرَةً وباطنةً، ومن استبدلَ بهِ غيرَهُ خَسِرَ دُنيا ودينًا، قال تعالى:
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ [طه: ١٢٣-١٢٤].
فتمسَّكوا – عبادَ اللهِ – بحبلِ
القرآنِ المتينِ، وتخلَّقوا بأخلاقِه، وتدبَّروا آياتِه، واجعلوهُ نُورَ قلوبِكم،
وربيعَ صدورِكم، وهادِيَكم في ظُلَمِ الحياةِ وتقلباتِها، فإنَّ من عاشَ في ظلالِ
القرآنِ عاشَ آمنًا مطمئنًّا، ومن استضاءَ بنورِه، أنارَ اللهُ لهُ طريقَ الحقِّ
واليقينِ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ اللهَ
العظيمَ لي ولكم، فاستغفِروهُ يغفرْ لكم، إنَّهُ هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الهادي إلى سُبُلِ
اليقينِ، المُنعِمِ على عبادِهِ بنورِ الإيمانِ والتمكينِ.
وأشهَدُ أن لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ
لا شريكَ له، شهادةَ الصادقينَ الموقنينَ.
وأشهَدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً عبدُهُ
ورسولُهُ، سيِّدُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، وخاتَمُ الأنبياءِ والمرسَلينَ.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ على
سيِّدِنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، وسلِّمْ تسليماً كثيراً إلى يومِ
الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ الأخلاقَ الحسنةَ في الإسلامِ هي
أساسُ التعاملِ وميزانُ التفاضلِ بين الأنامِ، والمُسلمُ الصادقُ هو الذي يُعامِلُ
الناسَ جميعاً معاملةً حسنةً، مُسلمينَ كانوا أو غيرَ مسلمينَ، كما أمرَهُ اللهُ
تعالى بقوله:
﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣].
وكما أرشدَ إلى ذلك نبيُّنا الكريمُ
صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فعن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ:
سُئِلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ: ما أكثرُ ما يُدخِلُ الناسَ الجنَّةَ؟ قالَ: التقوى وحُسنُ الخُلُقِ،
وسُئِلَ: وما أكثرُ ما يُدخِلُ النارَ؟ قالَ: الأجوفانِ: الفمُ والفَرجُ.
وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
«إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ»
[رواه أحمد].
ومن الأخلاقِ الحسنةِ التي أمرَ بها
الإسلامُ إكرامُ الضيفِ، فقد قرنَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قِرَى الضيفِ
بالإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ، فقالَ:
«وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» [متفقٌ عليه].
وحُسنُ الضيافةِ من شِيَمِ الأنبياءِ
والمرسَلينَ، فأوَّلُ من أكرمَ الضيوفَ سيِّدُنا إبراهيمُ عليهِ السلامُ، قالَ
تعالى:
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ
الْمُكْرَمِينَ﴾ [الذاريات: ٢٤].
والضيافةُ لا تقتصرُ على إعدادِ
الطعامِ والشرابِ فحسب، بل تشملُ طلاقةَ الوجهِ، وإظهارَ الفرحِ بقدومِ الضيفِ،
وتقديمَ العونِ لهُ، وحُسنَ الاستقبالِ والمعاملةِ.
ومن تمامِ الخُلُقِ أن نكونَ صادقينَ
في تعاملِنا مع الجميعِ، نُكرِمُهم، ونحترمُ ثقافتَهم، ولا نتَّخذُهم موضعاً
للسُّخريةِ أو الاستهزاءِ.
ولْيَحذَرْ كلُّ مسلم أن يُسيءَ إلى
ضيفٍ حتى ولو كان غير مسلم ، فقد قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:«أَلَا
مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ
أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ» [رواه أبو داود].
وقالَ أيضاً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
«المُسلمُ مَن سَلِمَ الناسُ من لسانِهِ
ويدِهِ، والمُؤمنُ مَن أَمِنَهُ الناسُ على دمائِهم وأموالِهم» [رواه النسائي
وأحمد].
فيا عبادَ اللهِ،
تَخلَّقوا بأخلاقِ نبيِّكم، وأكرِموا
الضيفَ كما أمركم، وأحسِنوا إلى الناسِ كافَّةً كما وصَّاكم، لتنالوا محبَّةَ
اللهِ، وتكونوا من أهلِ جنَّاتهِ ورضوانِهِ.
اللهمَّ اجعلنا من أهلِ الخُلُقِ
الحسنِ، ومن المتحابينَ فيك، والمتزاورينَ فيك، والمتعاونينَ على البرِّ والتقوى.
اللهمَّ زَيِّنَّا بزينةِ الإيمانِ،
واجعلنا هداةً مهتدينَ، لا ضالِّينَ ولا مُضلِّينَ.
اللهمَّ أصلِحْ لنا دينَنا الذي هو
عصمةُ أمرِنا، وأصلِحْ لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِحْ لنا آخرتَنا التي
إليها معادُنا، واجعلِ الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من
كلِّ شرٍّ.
اللهمَّ اجعلْ بلدَنا وسائرَ بلادِ
المسلمينَ آمنةً مطمئنَّةً وسائرَ بلادِ العالمينَ.
عبادَ اللهِ،
إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ
وإيتاءِ ذي القُربى، وينهى عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغيِ، يعظُكم لعلَّكم
تذكَّرونَ.
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُركم،
واشكروهُ على نعمِهِ يزِدْكم، ولذِكرُ اللهِ أكبرُ، وأقِمِ الصلاةَ.