recent
أخبار عاجلة

خطبة الجمعة صحح مفاهيمك الشيخ أحمد المراكبي

  صَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ 



الحمدُ للهِ الديَّانِ، المُنزَّهِ عن كلِّ نقصٍ ونُقصانٍ، المُتفرِّدِ بالعِزِّ والسُّلطانِ، الذي أمرَ بالصِّدقِ والإحسانِ، ونهى عن الغِشِّ والخُذلانِ، وجعلَ الأمانةَ زِينَةَ الإيمانِ، والعِلمَ نورًا يُضيءُ للإنسانِ.

نحمدُه سبحانهُ حمدَ الشاكرينَ الرَّاجينَ رِضوانَ الرَّحمنِ، ونستغفرُه من كلِّ زَلَلٍ وخُسرانٍ، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً تُنيرُ القلبَ وتشرحُ الوجدانِ، وأشهَدُ أنَّ سيِّدَنا محمّدًا عبدُه ورسولُه، أصدقُ الخلقِ في اللِّسانِ والبَيانِ، بعثَه اللهُ ليُتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ ويُطهِّرَ النُّفوسَ من البُهتانِ.

اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ على خيرِ مَن علَّمَ الإنسانَ، وهدى إلى طريقِ العدلِ والإحسانِ، وعلى آلهِ وصحبِه أولي الصِّدقِ والإيمانِ.

أمَّا بعدُ، فيا أيُّها المؤمنونَ، أوصيكم ونفسيَ المُقصِّرةَ بتقوى الرَّحمنِ، فإنَّها سِرُّ الفلاحِ في الدُّنيا، وسببُ الفوزِ يومَ يُعرَضُ الإنسانُ على الديَّانِ، بها تُرفَعُ الدَّرجاتُ، وتُغفَرُ الزَّلّاتُ، وتُستَنزَلُ الرَّحماتُ، وتُدفَعُ النِّقَمُ والمِحَنُ، فاتَّقوا اللهَ في السِّرِّ والإعلانِ، وراقِبوه في الخَلوةِ والبُنيانِ، وتزوَّدوا من التَّقوى زادَ الموقنينَ، فإنَّ خيرَ الزَّادِ تَقوَى اللهِ يا أُولي الألبابِ لتُفلِحوا يومَ تُعرَضونَ على الواحدِ المنَّانِ.

ثمَّ أمَّا بعدُ:

إنَّ منَ القضايا الهامَّةِ التي اعتنى بها الشَّرعُ الحكيمُ، وأكَّدَ عليها القرآنُ الكريمُ، ونبَّهت إليها السُّنَّةُ النبويَّةُ المُطهَّرةُ: "تصحيحُ المفاهيمِ"، وتنقيتُها من كلِّ ما يشوبُها؛ فقد قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الملك: 22].

فالناظرُ في كتابِ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ يلحظُ شواهدَ كثيرةً على هذا البابِ، من ذلك قولُه تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...﴾ [البقرة: 177].

كما أنَّ الناظرَ في سنَّةِ الحبيبِ المصطفى ﷺ يجدُ نماذجَ جليلةً لتصحيحِ المفاهيمِ، كقولِه ﷺ: «أتدرونَ مَنِ المفلسُ؟» و«أتدرونَ ما الغيبةُ؟» و«أتدرونَ ما حقُّ الجارِ؟»؛ فالأفكارُ والمفاهيمُ لها أثرٌ بالغٌ في حياةِ الأفرادِ والأُسَرِ والمجتمعاتِ، إذ تُشكِّلُ تصرُّفاتِهم وأقوالَهم وأفعالَهم وآراءَهم ومواقِفَهم.

فيا أيُّها النُّبلاءُ، منَ المفاهيمِ التي يجبُ أن تُصَحَّحَ: الغِشُّ في الامتحاناتِ؛ فهو خيانةٌ، والإصرارُ عليه حَسرةٌ وندامةٌ.

لقد انتشرَ في أوساطِ الغشَّاشينَ كلامٌ شيطانيٌّ خبيثٌ مغلوطٌ، يُخالِفُ شريعةَ اللهِ تعالى، مثلُ قولِ بعضِهم: "إنَّ هذه الموادَّ غيرُ دينيَّةٍ فيجوزُ الغشُّ فيها"، أو "هذا تَعاوُنٌ وتفريجٌ لكُرَبِ الناسِ"، أو "الضَّروراتُ تُبيحُ المحظوراتِ".

ولذلك يُسوِّلُ لهمُ الشيطانُ كبيرةَ الغِشِّ، ولا شكَّ أنَّها من مفاهيمِ الفَشَلةِ، تُخالِفُ صحيحَ الدينِ الذي يدعو إلى العملِ والجِدِّ والاجتهادِ.

ولا بُدَّ أن نُصحِّحَ هذا المفهومَ الخاطئَ، ونعلمَ جميعًا أنَّ الغِشَّ في الامتحانِ أمرُه خطيرٌ، وشرُّه مستطيرٌ، أصابَ الكبيرَ والصغيرَ، والغنيَّ والفقيرَ، والعزيزَ والذليلَ، فجعلَ العزيزَ ذليلًا، والذليلَ في تأخيرٍ، والطِّفلَ كَسولًا، والشابَّ عويلًا، والعجوزَ في تحسيرٍ، والأمَّةَ كلَّها في تدميرٍ وتأخيرٍ وتخسيرٍ.

وممَّا يُبكي العينَ ويُدمي القلبَ: أنَّ الغِشَّ في الامتحانِ عندَ بعضِ الناسِ صارَ حقًّا مُكتسبًا، وواجبًا لا بُدَّ من أدائِه! وإذا قامَ أحدٌ بالأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المنكرِ، وقفوا لهُ بالمرصادِ!

قال أهلُ العلمِ: يومُ الامتحانِ يُكرَمُ المرءُ أو يُهانُ، وقال أهلُ الغِشِّ: يومُ الامتحانِ يَغُشُّ المرءُ أو يُعانُ! أي: يُعانُ على الغِشِّ.

أيُّها المسلمونَ:

إنَّ للغِشِّ أضرارًا خطيرةً ومصائبَ عظيمةً على الأمَّةِ كلِّها، نذكرُ بعضًا منها:

فالغِشُّ حرامٌ، بل من كبائرِ الذنوبِ، لقولِ النبيِّ ﷺ: «مَن غشَّنا فليسَ منَّا»، وهذه الجملةُ عامَّةٌ تشملُ كلَّ ما صَدَقَ عليهِ غِشٌّ في أيِّ نوعٍ منَ المعاملةِ أو العملِ، والغِشُّ في الامتحانِ داخلٌ في هذا العمومِ، فلا يجوزُ للطالبِ أن يغشَّ في امتحانِه، لا مع نفسهِ ولا مع غيره، لأنَّ تبرُّؤَ النبيِّ ﷺ منَ الغاشِّ يدلُّ على أنَّ الغِشَّ من كبائرِ الذنوبِ، وليس من صفاتِ المسلمينَ.

والدالُّ على الشرِّ كفاعلِه؛ فمَن شجَّعَ على الغِشِّ بقولٍ أو فعلٍ أو إشارةٍ أو رِضا، فهو شريكٌ في الإثمِ. قال ﷺ:

«مَن دعا إلى هُدى كان له منَ الأجرِ مثلُ أجورِ مَن تبِعه، لا ينقصُ ذلك من أجورِهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه منَ الإثمِ مثلُ آثامِ مَن تبِعه، لا ينقصُ ذلك من آثامِهم شيئًا» (رواه مسلمٌ).

والغِشُّ خيانةٌ للأمانةِ؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27].

وانتشارُ الغِشِّ في الامتحاناتِ وغيرها رذيلةٌ من أخطرِ الرذائلِ على المجتمعِ، إذ يسودُ فيه الباطلُ وينحسرُ الحقُّ، ولا يعيشُ مجتمعٌ بانقلابِ الموازينِ، حينَ تُسندُ الأمورُ إلى غيرِ أهلِها، وهو ضياعٌ للأمانةِ، وأحدُ علاماتِ السَّاعةِ كما صحَّ في الحديثِ الشريفِ.

ومن نالَ شهادةً بالغِشِّ وتولَّى بها عملًا يحرمُ عليه ما اكتسبَه من ورائها، وكلُّ لحمٍ نبتَ من سُحتٍ فالنارُ أولى به، وقد يصدقُ عليه قولُ اللهِ تعالى:

﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 188].

عبادَ اللهِ:

إنَّ الأسبابَ التي ساعدت على انتشارِ هذه الظاهرةِ كثيرةٌ، منها: ضعفُ الإيمانِ باللهِ، وقلَّةُ الحياءِ؛ فلا يُقدِمُ على جريمةِ الغِشِّ إلَّا ضعيفُ الإيمانِ قليلُ الحياءِ، فإنَّ القلوبَ إذا امتلأت بالإيمانِ باللهِ لا تُقدِمُ على الغِشِّ وهي تعلمُ أنَّه يُغضِبُ اللهَ.

ومنها ضعفُ التَّربيةِ منذ الصِّغرِ، في البيتِ والمدرسةِ، حين لا ينصحُ الوالدانِ أبناءَهم بعدمِ الغِشِّ، ولا ينهَاهُم المعلِّمونَ، بل ربما شجَّعهم بعضُهم عليه! قال ﷺ:

«ما مِن عبدٍ يسترعيهِ اللهُ رعيَّةً، يموتُ يومَ يموتُ وهو غاشٌّ لرعيَّتِه، إلَّا حرَّمَ اللهُ عليهِ الجنَّةَ» (رواه مسلمٌ).

ومن الأسبابِ أيضًا: الكسلُ وضعفُ الشَّخصيَّةِ؛ فترى الطَّالبَ الكسلانَ يقضي العامَ في لهوٍ ولعبٍ، ثمَّ إذا جاءتِ الامتحاناتُ طلبَ النَّجاحَ بالغِشِّ، وإنَّ الغِشَّ هو حيلةُ الكُسالى وطريقُ الفاشلينَ، وقد قيلَ في الحِكمةِ: «مَن دامَ كسلُهُ خابَ أملُهُ، وتحقَّقَ فشلُهُ».

فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وكونوا من الصادقينَ الأمينينَ، واحذروا الغِشَّ فإنَّه بابُ الخُسرانِ والهوانِ، ومَدخلُ الضَّياعِ والخِذلانِ، ومَثارُ سخطِ الرَّحمنِ، ومَنبعُ الفسادِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.

اعلموا أنَّ الغِشَّ وإنْ زيَّنه الشيطانُ للغافلينَ، فإنَّه وبالٌ على صاحبه يومَ يُعرضُ على الديَّانِ، وما نفعَتِ الدُّنيا من خانَ ربَّه في امتحانٍ، فالعِلمُ أمانةٌ، ومن خانَ الأمانةَ خابَ وخَسِرَ في الميزانِ.

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ الديّانِ، الذي أمرَ بالعدلِ والإحسانِ، ونهى عن الظلمِ والعدوانِ.

وأشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً تُنيرُ القلبَ بالإيمانِ.

وأشهَدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً عبدُه ورسولُه، سيِّدُ ولدِ عدنانَ، الداعي إلى الحقِّ والقرآنِ.

اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّ الهُدى والبيانِ، وعلى آلِه وصحبِه ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.

أمَّا بعدُ:

فإنَّ علاجَ الغشِّ في الامتحاناتِ يتمثَّلُ في نقاطٍ كثيرةٍ، منها:

  تقوى اللهِ تعالى:

فنصيحةٌ للطلبةِ في أيَّامِ الامتحاناتِ، وفي غيرِها من الأيَّامِ، أن يتَّقوا اللهَ عزَّ وجلَّ، وأن يُخلِصوا له النيَّةَ في طلبِ العلمِ، وأن يؤدُّوا الأمانةَ في الامتحاناتِ.

  الجدُّ والاجتهادُ في المذاكرةِ طوالَ العامِ:

نوصي الطلابَ جميعاً بالجدِّ والعنايةِ والمذاكرةِ في الدروسِ ليلًا ونهاراً، والتعاونِ فيما بينهم في حلِّ المشكلاتِ، وسؤالِ اللهِ التوفيقَ والعونَ.

  استشعارُ المسؤوليَّةِ الكبيرةِ:

فكلٌّ منَّا مسؤولٌ في مكانِه، والكلُّ سيُحاسَبُ أمامَ اللهِ تعالى عن هذه المسؤوليَّةِ وتلك الأمانةِ الثقيلةِ يومَ القيامةِ، فلا تُقصِّرْ في حقِّ رعيتِك.

فعنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقولُ:

«كُلُّكُمْ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّتِهِ، والإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّتِهِ، والرجلُ راعٍ في أهلِه ومسؤولٌ عن رعيَّتِهِ، والمرأةُ في بيتِ زوجِها راعيةٌ ومسؤولةٌ عن رعيَّتِها»

(صحيح البخاري: ٢٧٥١).

فاحذروا ــ عبادَ اللهِ ــ الغشَّ، فإنَّهُ يَمحقُ بركةَ العلمِ، ويهدمُ القيمَ، واعلموا أنَّ طريقَ الفلاحِ هو الصدقُ والاجتهادُ، وأنَّ مَن جدَّ وجدَ، ومَن زرعَ حصدَ، ومَن سارَ على الدربِ وصلَ، ومَنِ اعتمدَ على الغشِّ خانَ نفسَه قبلَ أن يخونَ غيرَه.

واعلموا أنَّ مَن يُساعِدُ الغاشَّ فقد نالَ منَ الوزرِ مثلَه، واللهُ عزَّ وجلَّ يقولُ:

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٢].

 الدعاء:

اللهمَّ طهِّر قلوبَنا من الرياءِ والعُجبِ، وأعمالَنا من الغشِّ والكذبِ، واهدِ أبناءَنا وبناتِنا إلى طريقِ العلمِ والإيمانِ، واجعلهم من الصادقينَ المتقينَ، وبارِك في أوقاتِهم وجهودِهم، وارزقهم نجاحاً مقروناً برضاك يا رحمنُ يا منَّانُ.

اللهمَّ اجعلنا وإيَّاهم منَ الأمناءِ الصادقينَ، واغفِر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمينَ، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.

google-playkhamsatmostaqltradent