recent
أخبار عاجلة

خطبة الجمعة رسول الله ﷺ نبي السلام ونبي الأمان للشيخ ثروت سويف

 

  رسول الله ﷺ نبي السلام ونبي الأمان


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا"، وبعد 

يرتكِزُ جوهرُ الإسلام على حقيقةٍ واضحة هي: أنه دينُ سلامٍ، وليس دين استسلام، فهو يسلُكُ سبيله إلى السلام مِن مركز القوة، وبدون القوة يكونُ الطريق إلى السلام طريقًا إلى الاستسلام، الذي به تَضيع الحقوق وتُنتَهك الحُرُمات!

في ضوءِ هذه النظرة المتكاملة تحقَّقتْ للإسلام المُرونةُ والحيوية، والقدرة على التلاؤم مع كل زمان ومكان، ومع كل ظروف الحياة المتغيِّرة.

وإذا تتبَّعنا حياةَ الرسول ﷺ قبلَ الهجرة وبعدها في مكة والمدينة، رأينا بوضوحٍ تلك النظرةَ المتكاملة الواقعية الذكية إلى السلام،

 والمتتبِّعُ لآيات القرآن الكريم يرى بوضوحٍ تعميقَ تلك النظرة في نفوس المسلمين كجزءٍ مِن عقيدة سَمْحةٍ تدعو إلى السلام عن حبٍّ له وثقة به، ولا تدعو إليه عن خوف مِن الحرب وما تجرُّه على المتحاربين من ويلاتٍ.

وإذا ما انتقلت ونظرت بعين البصيرة إلى غزوات النبي ﷺ وحروبه، تجد أنه لم يثبت أنه بدأ بحرب بغتة أو فجأة وإنما كانت حروبه دفاعا وإحياءاً لمبدأ السلام، فالنبي ﷺ هو أول واضع لوثيقة تحفظ السلام والأمان، وهو بمثابة أول دستور مدني يكفل الحقوق والحريات، والمدينة آنذاك بها

فى وضوح لا غموض فيه كانت تعاليم الإسلام منذ بدايتها تنضح بالسلم والسلام والمحبة والوئام ويكفى أن رسول الإسلام ﷺ تجلى خلقه وميله إلى السلم فى كل تعاملاته وأقواله وأفعاله يدعو إلى الأمن والأمان ويغرس زهور السلامة فى إفشاء السلام فى وقت شاع فيه الصراع وعمت الجاهلية وساد الاضطراب ليخلص البشرية من الغارات العنترية والزعامات القبلية..

وجاء بدين يكافئ الخالق فيه عباده بجنة قال عنها: «لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا إلا قيلاً سلامًا سلامًا»، وبالتالي السلام هو النعيم الأكبر المنشود والوصف الأعظم للمسلم،

والقرآن الكريم أتت آياته تترى تحمل اسم السلام فبينت أن الله تعالى من أسمائه السلام (هو الله الذى لا اله إلا هو الملك القدوس السلام

وهو سبحانه الذي يدعو عباده إلى دار السلام ويبلغ من استجاب منهم إليها فقال: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: ٢٥]،

وهو الذي سلم أهل الجنة من كل ما ينغص عيشهم أو يكدر صفوهم، وجعل السلام أيضاً من قوله لهم، قال تعالى: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأنعام: ١٢٧]،

 وقال تعالى: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ . هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ . لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ . سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٥ - ٥٨]

 وان تحية أهلها فيها السلام (تحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)

 وان تحية عباد الله يوم يلقونه هى السلام (تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما).

ومع الأعداء قال الله تعالى: «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله» وبالتالي يحرم الله عليك التعرض لمن وادعك وآثر السلام.

 الكلام الحسن رده على الناس بكلام حسن. "وقولوا للناس حسنًا"

وهو سبحانه الذي يدعو عباده إلى السلامة وإفشاء السلام فأثنى على عباده في قوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: ٦٣]

وهو الذي يدعو إلى سبل السلام باتباع منهج الإسلام كما قال: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ [المائدة: ١٦]،

 فكل سلامة منشأها منه وتمامها عليه ونسبتها إليه.

 كما أخبر رسول الله ﷺ أن المسلم الحقيقي هو الذي: «سلم الناس من لسانه ويده»،

 وهو أيضًا ﷺ يذكرنا بأن أفضل صيغة للإسلام تعبد الله فيها هي «أن تطعم الطعام وتفشي السلام على من عرفت ومن لم تعرف»، وهذه نقطة شاملة تعني إفشاء السلام على الجميع؛ لأنك لن تسأل أحدًا عن دينه قبل إلقاء السلام عليه،

وخرج رسول الله ﷺ في صلح الحديبية حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته. فقال الناس: خلأت القصواء فقال: ما خلأت، وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألون فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم قال للناس: انزلوا ....

فدعت -تعاليم الإسلام- إلى تحقيق السلام مع النفس ومع الإنسان ومع الحيوان ومع الطيور ومع الجماد ومع النبات

جاء نبيُّنا نبي الإسلام ﷺ ليغرسَ بذرة السلام؛ .. السلام الإيجابي الذي يرفع الحياة ويرقيها، لا السلام السلبي الذي يرضى بكلِّ شيء، ويدع المبادئ العليا تُداس في سبيل العافية والسلامة،

 السلام النابع من التناسق والتوافق، المؤلَّف من الطلاقة والنظام، الناشئ من إطلاق القوى والطاقات الصالحة البانية، ومِن تهذيب النزوات والنزعات، لا مِن الكَبْت والتنويم والخمود،

 السلام الذي يعترف للفرد بوجودِه وبنوازعه وبأشواقه، ويعترف في الوقت ذاته بالجماعة ومصالحها وأهدافها، وبالإنسانية وحاجاتها وأشواقها، وبالدين والخُلُق والمُثُل، كلها في توافق واتساق.

إن النبي ﷺ أرسخ في قلوب العباد العقيدةَ الصافية التي تربط بينه وبين ربِّه مباشرة، فقال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: ١٩٦]، وفي ظل هذه القوة تتضاءل قوة الأرض جميعًا، وتتساقط أغشية العظمة الكاذبة، والجبروت الزائفة

 أيضًا فإن النبي ﷺ لا يَكِلُ الإنسان إلى عقيدته الروحية فقط، بل يقف بجنبه عند توفير الضمانات للأمن والسلام، فشرع الإسلامُ ونبيُّ السلام الأمنَ والسلامة لكل فرد من اعتداءِ فرد مثله عليه، أو اعتداء حاكم عليه، فعند ذلك فهو يشعر بأنه يعيش في وسط يحبه ولا يعاديه، ويحرص على ذاته وماله وعِرْضه، فقال ﷺ: (لا يُؤمِن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقال: (كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وعرضه، وماله)،

 (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يأمن جارُه بوائقَه)[شروره].

وليس لأحدٍ عليه مِن سلطان إلا في حدود القانون، القانون الإلهي، يخضع له كما يخضع السلطان سواء، فوفَّر نبي الإسلام ﷺ للإنسانِ في قانونه كلَّ الضمانات التي تحفظ عليه حياته وماله وعرضه، فلا تمسُّ إلا بحق الله فيها، ويحميه من السخرية منه، أو التجسس عليه، أو اغتيابه، أو أخذه بالظنة؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: ١١-١٢].

فأراد النبي ﷺ أن تكون العَلاقة بين الإنسان والآخر، بين الفرد والمجتمع - عَلاقة الود والرحمة، وعلاقة التضامن والتعاون، وعلاقة الأمن والسلام؛ ولذلك قرَّر ﷺ قاعدة التناسق بين الحقوق والواجبات، والتعاون بين المغانم والمغارم، والتوازن بين الجهد والجزاء فيما بينهم.

يبدأ نبي الإسلام والسلام ﷺ بناءَ المجتمع في ضمائر الأفراد والجماعات، ويغرسُ بذرة الحُب، الحب الإنساني الخالص، والرحمة الإنسانية المبرأة، إنه يردُّ الناس إلى ذكرى نشأتهم الأولى من نفس واحدة، ويوقظ في وجدانهم شعورَ النسب والقربى، فإذا رقَّت جوانحهم بهذه المشاعر اللطيفة، كانوا إلى السماحة أقرب، وإلى السلام أدنى، وهانت أسباب الخلاف والنزاع، وسارت عجلة الحياة في يسرٍ ورفق وسماح، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١]؛ هكذا تنتظم البشرية كلها في نسبٍ واحد، وتختفي المنازع والفوارق؛ لتبرز تلك الصلة الكبرى الوثيقة العميقة التي تشمل الناس جميعًا، على اختلاف الأجناس والألوان، واللغات والأقوام.

جعل نبي الرحمةِ ﷺ المؤمنين أقربَ رحمًا بعضهم إلى بعض بطبيعة الحال، بحكم أخوَّتهم في الله، والتقائهم في العقيدة التي يعدُّها الإسلام أوثقَ من روابط الدم، ووشائحِ النسب؛ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠]، وقال ﷺ: (مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمَثَل الجسد؛ إذا اشتكي منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمي).

ويهتف بهم رسول الله ﷺ: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)،

 وينوط الإيمان فيهم بالحب، لا يفرق المرء بين نفسه وأخيه: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)،

 ويحرم عليهم الخصومة أكثر من ثلاث ليالٍ، يفثؤون فيها غضبهم ثم يثوبون إلى المودة والقربى، (لا يحل المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان، فيُعرِض هذا ويُعرِض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام).

والأمن والسلام والرحمة ليست مطلوبةً للمسلمين وحدَهم؛ ولكنها للآدميين جميعًا؛ (ارحموا أهل الأرض، يرحمكم مَن في السماء)،

 بل إن نبي الإسلام ﷺ ليخطو بوجدان الرحمة خطوتَه الكبرى، فيتجاوز بها عالم الإنسان إلى عالم الأحياء، فيشيع في القلب البشريِّ بشاشة ذلك الوجدان، ورقَّته وانعطافه تجاه كلِّ ذي حياة؛ يقول الرسول الكريم ﷺ: (بينما رجل يمشي بطريق اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها فشرِب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش مِثْلُ الذي بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفَّه، ثم أمسكه بفِيه، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له)، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟! قال: (نعم، في كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ).

ولكن الإسلامَ ونبي الإسلام ﷺ يُحقِّق الحب والصفاء في النفوس والقلوب، فإنه يأخذ المسلمين بآداب نفسية وآداب اجتماعية تُعِين على هذه الغاية، وتمنع أن تثور الأحقاد في النفوس، أو تغمر البغضاءُ القلوب؛ ولذلك يكره الكِبْر والخُيَلاء؛ ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ الله لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: ١٨-١٩]،

 وقال في موضع آخر: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: ٣٧]، وقال ﷺ: (إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا؛ حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد).

والإسلام يلحظُ في هذا طبائعَ الناس، فهي تكره المتكبِّرين، وتُبغِض المختالين، وتضيق بالمفتخرين المتباهين، وتحمل الغيظ والحنق والتبرم بهؤلاء الناس، ولو لم يقدموا لأحد مَسَاءة شخصية؛ لأن مجرد تظاهرهم على هذا النحو يثير في الآخرين كبرياءهم، ويحفزهم إلى الرد عليهم بكرههم، والتبرم بهم دون شعور.

والنبي ﷺ يُراعي أدقَّ مشاعر النفس، حتى لينهى أن يتناجَى اثنان في حضرةِ ثالث لا يشترك في الحديث: (إذا كان ثلاثةٌ، فلا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإن ذلك يؤذيه)، وهو أدب نفسيٌّ عالٍ لطيف.

وفي هذا السبيل كان النهي عن المنِّ بالمعروف والصدقة، فالمنُّ خلقٌ خسيس في ذاته، مؤذٍ لكرامة الآخرين كذلك؛ ولهذا فهو يمحقُ الصدقة ويذهب بالمعروف، ويحمل النقمة والموجدة محل الشكر والاعتراف؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: ٢٦٤]

ولا يقف نبي الإسلام ﷺ عند الحدودِ السلبية في هذه الآداب، بل يدفع إلى القمة الإيجابية منها؛ لإضافة شعور الود وإحساس الألفة، فهو يدعو إلى إشاعة الكلمة الطيبة بين الناس: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... ﴾ [الإسراء: ٥٣]، ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: ٨٣]،

 ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء: ٨٦]،

 وإلى إفشاء السلام في كلِّ مكان ولكل إنسان، على معرفةٍ أو على غير معرفة؛ تأليفًا للقلوب، وإشاعةً للطُّمأنينة: (يُسلِّم الصغير على الكبير، والمارُّ على القاعد، والقليل على الكثير)، وسئل رسول الله ﷺ: أي الإسلام أفضل؟ قال: (تُطعِم الطعام، وتقرأ السلام على مَن عرَفت ومَن لم تعرِف).

ويدع إلى مقابلة السيئة بالحسنة: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: ٣٤]،

وهو يدعو إلى الصَّفْح عن المَسَاءة، وضبط النفس عند الغضب، وجهادها لا لتضغن وتحقد، ولكن لتعفو وتغفر، وينصرف ما بها من انفعال، ويحل محله البرء والسماح؛ ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشورى: ٤٣]، ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التغابن: ١٤]، ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٤]، ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى: ٣٧].

أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان، فاللهم صل وسلم وزد بارك عليك سيدي يا رسول الله وآلك وصحبك قادة الحق، وسادة الخلق إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.

وبعد 

فلقد غرَسَ الإسلام بَذرةَ السلام في نفوس الأفراد، السلام الإيجابي الذي يرفع الحياةَ ويرقيها، لا السلام السلبي الذي يرضى بكلِّ شيء ويدع المبادئ العُليا تُهدَم في سبيل العافية والسلامة.

والإسلام في جميع مواقفه لا يتخلَّى عن أخلاقياتِه التي

السلام النابع مِن التناسق والتوافق المُؤلَّف مِن الطلاقة والنظام، الناشئ من إطلاق القُوى والطاقات الصالحة، ومن تهذيب النزوات والنزعات، لا مِن الكبت والتنويم والجمود.

السلام الذي يعترِفُ للفردِ بوجوده ونوازعه وأشواقه، ويعترف في الوقت ذاته بالجماعة ومصالحها وأهدافها، وبالإنسانية وحاجاتها وأشواقها، وبالدين والخُلُق والمُثُل، كلها في توافق واتِّساق.

لذا أوجب الإسلامُ على كلِّ مسلمٍ التمسُّكَ بدعائم الأُخوَّة الدينية؛ بالتعاوُن، والإيثار، والتكافل الاجتماعي، وتجنُّب كلِّ ما يَحُول دون تطبيق هذه القِيَم، وما يُسِيء إلى العَلاقات الفردية والجماعية لتحقيقِ السلام والأمن، فرسوخُ هذه القِيَم في عقيدة المؤمن ينبُعُ مِن إيمانه بربه وخالقه؛ حيث إن الإيمان يجعَلُ بين المؤمنين أُخوَّة أقوى مِن أُخوَّة النسب، والإخاءُ في الإسلام يعني بذلَ صادقِ المودَّة والتناصر بالحق، والمشاركة في الأتراح والأفراح والتكافل على أحداث الحياة.

وإذا كان الإسلام يدعو المسلمين إلى أن يُقاتِلوا المسلمين لردِّ البغي وتحقيق القسط، فهو يدعوهم أيضًا إلى دفع الظلم كافةً، وإلى دفع الظلم عن أنفسِهم، وإلى دفعِه عن كلِّ مظلومٍ لا يملك له دفعًا، على ألا يعتدوا، ولا يَبْغُوا على أحد، حتى في رد العدوان.

لذا كان إعدادُ العدة وتوفيرُ القوة ضرورةً من ضرورات الفكرة الإسلامية لتحقيق السلام، إن الإسلام هو آخرُ رسالة السماء إلى الأرض، وهو جِماعُ العقيدة التي أرادها الله للبشر، وهو "الدين" الذي جاء بقواعده الأساسية كلُّ رسولٍ، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، فكلُّ نبِيٍّ جاء ليأمُرَ الناسَ بعبادة الله الواحد دون شريك، والإسلام له وحده، ثم جاء محمدٌ عليه الصلاة والسلام بهذا الدين؛ ﴿ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: ٤٨].

فإعدادُ القوة واجبٌ؛ ليكون في هذه الأرضِ سلطة عُليا تَرُدُّ الشاردين عن الحق إليه، وتوقف الطُّغاة عن البغي والعدوان، وتحفظ على الآمنين أمنَهم وسلامتَهم، وتعزُّ كلمة الله.

وحين تتحقَّق الحرية والعدالة، فلا يبغي بعضُ الناس على بعضٍ، ولا يستذِلُّ بعضُهم رِقاب بعض، وحين يتحقَّق الأمن للضعفاء الذين لا يملكون عن أنفسهم دفاعًا، ويكفُّ الباغي عن بَغْيِه ويجنح إلى السلم - حينئذٍ يُحرِّم الإسلام الحربَ تحريمًا، ويدعو إلى السلم فورًا، ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٦١]

نحن في أشد الحاجة الآن إلى أن نتَّحِد ونتعاون لتحقيقِ السلام الإلهي، الذي يضمَنُ لهذه الأمة حقَّها، ويحفظ لها كرامتها وحريتها.

إن الأمة المُجزَّأة المُفكَّكة التي تسعى إلى تحقيق المكسب الذاتي، وتُضحِّي بالصالح العامِّ وحقوق رعاياها - لن تصنع سلامًا وأمنًا، بل تصنع حروبًا وفسادًا وهلاكًا، وفي النهاية فناءً محققًا؛ فالأمة الواحدة هي أمةُ السلام والهيمنة والخير والقداسة والحضارة، ولهذا قرن الله سبحانه وتعالى بين هذه الأمة وبين عبادته؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: ٩٢].

إذًا كانَتْ هناك الدعوةُ لأَنْ نكونَ أمةً واحدةً تأمُرُ بالمعروف وتنهَى عن المنكر، وتتعاون على البر والتقوى، ولن يتحقَّق الأمنُ والأمان للفرد ما لَم يَنْعَمِ الجميع بالأمن والأمانِ، والسلام على الأرض يجب أن يكونَ مرتبطًا ومتواصلًا مع السلام في السماء، ولن يتحقق السلام إلا بالارتباط والانتماء لدين الله الواحد وتحقيق سبل السلام في القرآن والسُّنة.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
google-playkhamsatmostaqltradent