محبة النبي صلى الله عليه وسلم
محبة النبي صلى الله عليه وسلم روح
وريحان وروضة من الجنان، هي الحب الراقي والود الباقي، وهي المقصد الشريف والشوق
اللطيف.
محبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست
مجرد شيء مستحب أو مسنون بل فريضة إسلامية وواجب عيني، فقد أخذ النبي صلى الله
عليه وسلم بيد عمر بن الخطاب، فقال عمر: والله يا رسول الله، لأنت أحب إلى من كل
شيء إلا نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا - والذي نفسي بيده
- حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلى من
نفسي. فقال صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"، فلا يستقر الإيمان في
قلب إنسان حتى يكون حُبُّ النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه ومن كل شيء،
ويؤكد هذا المعنى أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن عبد حتى أكون أحب
إليه من أهله ووالده وولده والناس أجمعين".
ويتوعد الله عز وجل بعقابه أن نحب شيئا
أكثر من حبنا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: "قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ
اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا
أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ
فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"(التوبة: 24)، أي إن كانت هذه الدنيويات أحب إليكم من
رسول الله فانتظروا عقاب الله أن يحل بكم.
ولكن هذه الفريضة ليس فيها مشقة ولا
تعب ولا عنت، بل هي لذة ومتعة وحلاوة، وقد سُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف
كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "كان والله أحب إلينا من
أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ"، فكانت
محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أشد من حب العطشان إلى الماء البارد؛ لأن محبة
النبي صلى الله عليه وسلم أحلى في قلوبهم من حلاوة الماء البارد في فم الظمآن،
وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال في حلاوتها: "ثلاث من كن فيه وجد
حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ...".
أشتاق إليك يا قريب النّأْيِ شوق ظمآنٍ إلى زلال الماء
وهذا الصحابي الجليل زيد بن الدَثِنة
الذي أُسِر يوم الرجيع وأخرجه كفار قريش ليقتلوه، فلما حان موعد القتل قال لزيد:
أنشدك يا زيد هل تحب أن محمداً مكانك تُضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال: "والله
ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة فتؤذيه وأنا جالس في
أهلي"، فزيد رضي الله عنه ما يحب أن يكون آمناً والنبي صلى الله عليه وسلم
تؤذيه ولو شوكة، بل يفدي النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى بكل شيء، فقال سفيان:
ما رأيت أحداً أحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.
وقار وحب من شذى المسك أذكى وأطيب ومن قطرات المزن أصفى وأعذب
وهذا أبو دُجانة صاحب النبي صلى الله
عليه وسلم الذي يفدي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وروحه، ففي معركة أُحد لما
انكشف المسلمون وهُزموا لما نزل الرماة من على الجبل، وصعد خالد ومن معه على الجبل
يرشقون ظهور المسلمين بنبلهم، فانكب أبو دجانة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحتضنه ليستره من نبال قريش حتى صار ظهره كالقنفذ من كثرة ما في ظهره من النبال،
فأي حب هذا وأي فداء هذا وأي معالٍ هذه!
معالٍ جازت الجوزا جوازاً وحُسن قد حوى الحسنى وجازا
والكلام يطيب عن ذكر المصطفى الحبيب
صلى الله عليه وسلم من خلال نماذج حية ترجمت حبَّها للنبي صلى الله عليه وسلم في
مواقف صادقة وراقية، والتي منها:
ـ الصحابة في حجة الوداع يتقاتلون على
شعره صلى الله عليه وسلم، قال أنس رضي الله عنه: "لقد رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم والحلاق يحلق رأسه، وطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في
يد رجل منهم"، وظلوا يتوارثون هذا الشعر الشريف حتى تحدث محمد بن سيرين عن
نعمة من نعم الله عليه، فيقول لعبيدة السلماني: عندنا من شعر النبي صلى الله عليه
وسلم أصبناه من قبل أنس، فقال عبيدة: "لأن تكون عندي شعرة منه أحب إلي من
الدنيا وما فيها".
ـ الصحابي الجليل زيد بن حاثة الذي
تعرض للخطف والأسر وهو غلام صغير حتى بيع لخديجة رضي الله عنها، ثم وهبته
للنبي صلي الله عليه وسلم وجاء أبوه وعمه
إلى مكة في فدائه واسترجاعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدعوه فأخيره،
فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء، وإن اختارني، فوالله ما أنا بالذي أختار على من
اختارني أحدا، قالا: قد زِدت على الإنصاف وأحسنت، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم،
وقال له: يا زيد أتعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي وهذا عمي، فقال له النبي عليه
الصلاة والسلام: إن شئت ذهبت معهما وإن شئت بقيت معي، فقال: والله ما أنا بالذي
يختار عليك أحداً، ففزع أبوه وعمه، ونظر إليه أبوه وقال: يا زيد أتختار العبودية
على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهلك؟ فنظر زيدٌ إلى أبيه وعمه وقال: والله لقد رأيت
من هذا الرجل شيئاً، وما أنا بالذي يفضل عليه أحداً قط، فلما رأى ذلك النبي صلى
الله عليه وسلم أخرجه إلى الحِجر، فقال: أشهدكم أن زيدا ابني، أرثه ويرثني، فلما
رأى ذلك طابت أنفسهما.
روحٌ دعاها للوصال حبيبها فسعت إليه تطيعه وتجيبه
يا مدّعي صدق المحبّة هكذا فعل الحبيب إذا دعاه حبيبه
ـ الشجر والحجر يهيم في محبة النبي صلى
الله عليه وسلم ويذوب شوقاً إليه، حيث أقبل صلى الله عليه وسلم من معركة تبوك،
وأشرف على المدينة، وقال: هذه طيبة، وهذا أُحد جبل يحبنا ونحبه، فالأرض والسماوات
حتى الجبال الراسيات تحب النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ وفي صحيح البخاري تأمر امرأة من
الأنصار غلامها أن يصنع منبرا للنبي صلى الله عليه وسلم فلما كان يوم الجمعة
ووُضِع في المسجد، وارتقى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فصاحت النخلة التي كان
يخطب عندها، حتى كادت تنشق، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه،
فجعلت تَئِنُّ أنين الصبي الذي يُسكت، حتى استقرت، قال الحسن البصري معلقاً:
"يا معشر المسلمين الخشبة تَحِن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إليه
فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه".
ولا يزال النبي صلى الله عليه وسلم
يحبه المسلمون وغير المسلمين، والمؤمنون والمشركون والمتقدمون والمتأخرون، حتى قال
النبي صلى الله عليه وسلم في وصف حب هؤلاء: "إن ناسًا من أمتي يكونون بعدي،
يود أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله"، يرغب أحدهم لو يدفع أهله وماله ونفسه
وولده جميعًا ثمنًا لرؤية وجه النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة، نسأل الله تعالى
أن يجعلنا منهم
تزدان محبة النبي صلى الله عليه وسلم
متعة وتزداد لذة وحلاوة، إذا علم الناس مدى محبة النبي صلى الله عليه وسلم لهم،
وخوفه وحرصه عليهم، حتى تمنى الحبيب رؤية أحبابه، وقال: "وَدِدنا أنا قد
رأينا إخواننا" فقال الصحابة: يا رسول الله، أولسنا إخوانك؟ قال: "أنتم
أصحابي، وإخواني الذين يأتون من بعد"، فما أعظم هذه المحبة حيث ينزل النبي
صلى الله عليه وسلم من علياء النبوة ويجعل أحبابه بمثابة الأخ من أخيه، والمواقف
النبوية التي تدل على محبته صلى الله عليه وسلم للأمة كثيرة وعظيمة، والتي منها:
ـ دعائه لأمته في كل صلاة قالت أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها: رأيتُ من النبي صلى الله عليه وسلم طِيب نفس، فقلت:
يا رسول الله! ادع الله لي، فقال: "اللهم اغفر لعائشة ما تقدَّم من ذنبها وما
تأخر، وما أسرَّتْ وما أعلنتْ"، فضحكت عائشة رضي الله عنها حتى سقط رأسها في
حجرها من الضحك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيسرُّك
دعائي؟" فقالت: وما لي لا يسرُّني دعاؤك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "والله
إنها لدعوتي لأمَّتي في كل صلاة"، وفي هذا استجابة نبوية لقوله تعالى:
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ"(التوبة: 103)، أي ادع الله تعالى لهم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم
دعائه لأمته، حتى دعوته المستجابة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل
نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".
ـ شفاعته لأمته صلى الله عليه وسلم كما
جاء في حديث الشفاعة وسجوده صلى الله عليه وسلم الطويل تحت العرش، فقال الله تعالى
له: ".. يا محمد! ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي
يا رب، أمتي يا رب، فيقول: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب
الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب".
ـ حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته،
وبكائه خوفاً عليها من هول يوم القيامة حيث قرأ قول الله عز وجل في إبراهيم:"رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ
مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، وقال عيسى عليه السلام: "إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ"(الْمَائِدَةِ: 118)، فرفع يديه وقال: "اللهم أمتي وبكى فقال الله
عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله ما يبكيك، فأتاه جبريل عليه
السلام فسأله فأخبره - رسول الله صلى الله عليه وسلم- بما قال -، وهو أعلم- فقال
الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك".