recent
أخبار عاجلة

خطبة الجمعة الاتحاد قوة الشيخ/ أحمد عزت حسن

 

 الاتحاد قوة

  الشيخ/ أحمد عزت حسن

 


الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام وأعزَّنا به قوةً وإيمانًا، وألَّف بين قلوبنا فجعلنا أحِبَّةً وإخوانًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنزل كتابه هدًى ورحمةً وتبيانًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، هدى الله به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة، وأعزَّ به بعد الذِّلَّة، وكثَّر به بعد القلة، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الذين كانوا له على الحق إخوانًا وأعوانًا؛ أما بعد:

فإن من أخبث أسلحة أعدائنا اليوم محاولتهم إلهاء المسلمين عن واجباتهم وشغل بعضهم ببعض، وإثارة الفتن والعصبيات، وإذكاء نار الفرقة والانقسامات، ومن هنا كان واجبًا على جماعة المسلمين أن يتيَقَّظوا لِما يُدبِّره لهم الأعداء من المكايد والمؤامرات، ويحوكونه من الدسائس وإثارة النَّعرات، وأن يحفظوا وحدتهم الإيمانية، ويتمسكوا بأُخُوَّتهم الإسلامية.

وقد حذرنا النبي ﷺ من ذلك فقال النبي ﷺ: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يَبِعْ بعضكم على بَيْعِ بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذُله، ولا يحقِره...كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعِرضه) [رواه البخاري ومسلم].

وإنَّ أعظمَ الفِتنِ وأخطرها، فتنةُ التَّفرقِ في الدِّين؛ حيثُ تكثرُ الأهواءُ، وتختلفُ الآراءُ، وتتنافرُ القلوبُ، فيحصلُ التنازعُ والاختلاف، ثم الضَّعفُ والفشلُ، تأمَّلوا يا عباد الله: قولَ الحقِّ جل وعلا: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: ٤٦]، فالمنهجُ القويم، والحلُ الصحيح لأوضاعِ الأمَّةِ المزرية، هو الاعتصامُ بحبلِ اللهِ جميعًا، وأن نتمسكَ بكتابِ اللهِ وسنةَ رسولهِ ﷺ، هذا هو السبيلُ الوحيدُ الذي يجمعُ الأمَّةَ على الحقِّ، ويوحِّدُ الكلمةَ، ويُقوِّي اللُّحْمةَ، ويُسقطُ الراياتِ الزائِفة، ويقطعُ الطريقَ على الأعداءِ المتربصين، 

أيها الإخوة المسلمون: لقد أكرمنا ربنا عز وجل بهذا الدين، وشرَّفنا به من بين العالمين، فلقد علمنا الله به من الجهالة، وهدانا به من الضلالة، وكثَّرنا به بعد القلة، وأعزَّنا به بعد الذِّلَّة، بعد أن لم يكن العرب قبل الإسلام يعرفون للتوحيد دليلًا، ولا للوحدة سبيلًا، فجمع الإسلام على التوحيد شملهم، ووحَّد على الحق رايتهم؛ قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بالله﴾ [آل عمران: ١١٠].

وقد ذكَّرهم الله جل جلاله بهذه النعمة العظمى، وأمرهم أن يشكروه عليها، ويحافظوا على ثمراتها، ويتجنبوا كل ما يُذْهب رِيحَهم، ويفرِّق جَمْعَهم، ويسلُب نعمتهم؛ فقال عز من قائل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٣].

  وكذلك يريدنا الإسلام أن نكون أمةً واحدةً، في ظل راية حق واحدة، لا عصبية تفرقنا، ولا عنصرية تمزقنا، ولا أهواء تزيغ بنا، ولا اختلافات تذهب بقوتنا، تلك الراية التي انضوى تحتها بلالٌ الحبشيُّ، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، رضي الله عنهم، وانضوى تحتها كل عربي رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ ﷺ نبيًّا ورسولًا، فالتقَوا على كلمة التوحيد، وذابت بينهم فوارق الجنس والوطن، واضمحلَّت نوازع العصبيات والفتن، وحلَّت رابطة الإسلام محل رابطة الدم والعشيرة.

فلله دَرُّ الإسلام إذ لم يفرق بين عربي وعجمي، ولا بين أبيضَ وأسود، ولا بين سيِّدٍ ومَسود، إلا بالتقوى والعمل الصالح: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣].

والحفاظ على وحدة المسلمين فرض شرعي، وواجب حَتْمِيٌّ، لا يجوز التفريط فيه بحال من الأحوال؛ إذ الاجتماع على الحق وسيلة لقوة الأمة وتماسكها، وأداة لحفظ كيانها ودفع شر أعدائها، وهو استجابة لأمر الله عز وجل بالاعتصام بدينه، والنهي عن التفرق فيه؛ إذ يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾.

  وإن من أهم ما يحفَظ للأمة قوتها، ويُبقي لها وحدتها: التمسُّكَ بدين الله عز وجل، كتابًا وسُنةً، علمًا وعملًا، فهمًا وسلوكًا، آدابًا وأخلاقًا، والتعاون على البر والتقوى والإيمان، ونبذ التعاون على الإثم والمعصية والعدوان؛ قال الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: ٢].

ومما يجب علينا: الحفاظ على شوكة الأمة ومقومات الشعب الواحد بإيثار المحبة والرحمة، والطاعة والنصرة على أساس من طاعة الله تبارك وتعالى، وطاعة رسوله ﷺ.

ومن أقوى الروابط وأوثق العُرى:

* الشعور بالأُخُوَّة الإسلامية ومراعاة حقوقها، وترسيخ معانيها في القلوب والعقول، وممارستها واقعًا بين أفراد الشعب المسلم، وقد أكد ربنا عز وجل هذه الأُخُوَّة في غير ما آية في كتابه العزيز، وأثنى على أهلها؛ فقال سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٧١].

فالمسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله؛ قال النبي ﷺ: (مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسَّهَرِ والحُمَّى) [رواه البخاري ومسلم].

- إن الله أمرنا أن نكون أمةً واحدةً، ونهانا عن أن نتفرق إلى مِلَلٍ ونِحَلٍ؛ إيثارًا لسلامة الدين، وإبقاءً لوحدة المسلمين؛ حيث قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٩٢].

وتأكيدًا لهذه القاعدةِ الكُبرى، شرعَ اللهُ أعمالًا عظيمةً، ومُناسباتٍ مُتعددةً، تُقوِّي بُنيانَ الائتلافِ، وتشُدُّ عضُدَ الاجتماع، وتجمعُ الكلمةَ، وتوحِّدُ الصَّفَ، فصلاةُ الجماعةِ خمسَ مرَّاتٍ، ثم اجتماعٌ أسبوعي أكبرُ في كُلِّ جُمعةٍ، ولقاءٌ أكبرُ في عيدي الفطرِ والأضحى، واللقاءُ الأكبُر والأعظمُ في موسمِ الحجِّ، كُلُّها شعائرُ ومُناسباتٌ تجمعُ الكلمةَ، وتوحِّدُ الصفَّ، وتؤلفُ القلوبَ، ولقد كانت الأمَّةُ في قرنها الأولِ مجتمعةً على كلمةٍ سواء، ذلك أنَّ الدينَ الصحيحَ هو ما كان يجمعُهم، ومن ثمَّ أصبحوا أمَّةً واحدةً مُتماسِكة، كما وصفهم اللهُ تعالى: فهي أُمَّةٌ واحدةٌ مُتوحدةٌ، ربُها واحدٌ، ونبيُها واحدٌ، وكتابُها واحدٌ، وقِبلتها واحدةٌ، فكانوا جماعةً واحدة، وفي الحديث الصحيح: «يَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ»، هكذا كانت الأمَّةُ في قرونها المفضلة، فلما تفرقَ اللذين من بعدهِم في الدِّين، وخرجت الفِرقُ الضالةُ، وأهلُ الأهواءِ والبِدعِ، تفرقوا إلى طوائفَ ومذاهبَ، واختلفوا شِيعًا وأحزابًا، ثمَّ تنازعوا وعادا بعضُهم بعضًا؛ جاء في حديثٍ صحيحٍ: "افترقت اليهودُ على إحدى وسبعينَ فِرقةً كلُّها في النارِ إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فِرقةً كلُّها في النارِ إلا واحدة، وستفترقُ هذه الأمَّةُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً كلُّها في النارِ إلا واحدة، قالوا: يا رسولَ اللهِ مَن الفِرقةُ الناجيةُ؟ قال: من كانَ على مثلِ ما أنا عليه اليومَ وأصحابي.

 إن كل ما يؤدي إلى ائتلاف القلوب ومودتها، واجتماع النفوس وتآلفها ومحبتها - مطلب شرعيٌّ ضروريٌّ، كما أن كل ما يُسبِّب تباعد القلوب وتنافرها، واختلاف الكلمة وتفرقها، وشق الصفوف وتمزقها - أمر محرَّم في دين الله جل في علاه، فالواجب على كل فرد منا أن ينأى بنفسه عن كل ما يجلب العداوة والبغضاء، والنزاع والشحناء، وأن يعمل على تقوية أواصر التآزر والتعاون والتناصر، ويبتعد عن أسباب الفتنة والتناحر والتهاجر، وألَّا يخوض المرء في أمور لا تعنيه، ويجب ألَّا يأخذه المتربصون على حين غِرَّة، ولا يستغله السفهاء والأعداء؛ فيكون مَطِيَّةً لنشر أضاليلهم، ومَعْبَرًا لنقل أباطيلهم، ومِعْوَلَ هدمٍ وتفتيت، وأداة إشاعات مغرضة وتشتيت، فالزم - يا عبد الله - غَرْزَك، وأمْسِكْ عليك نفسك، واحذر أن تكون أداةً طيعةً لأعداء دينك وأمتك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ودَعْ عنك ما يُنقَل فيها من أخبار كاذبة، ودعاية مغرضة، وقصص مفتراة، وفتن وإشاعات، وأباطيل وإثارات؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: ٣٦].

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أمْسِكْ عليك لسانك، ولْيَسَعْك بيتك، وابكِ على خطيئتك"( الترمذي بإسناد صحيح).

 والاتحاد قوة، والقوة تؤدي إلى النصر، والتفرق ضَعف، والضعف يحقِّق الهزيمة، والتاريخ خير شاهد على ذلك، اتحدَّ المسلمون في غزوة بدر، فانتصروا، واختلفوا في غزوة أُحد، فكان منهم مَن طلَب الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، ومنهم مَن طلب المال والعتاد، فخالفوا أمْر الرسول، فانهزَموا، وقد قال أحدهم: لماذا هُزِمنا وقد وعَدنا الله النصر؟ فأنزَل الله قوله موضِّحًا أسباب الهزيمة: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٥٢].  

وشرح هذا المعنى أحد الحكماء لأولاده؛ ليُلقنهم درسًا في الاتحاد، فقدم إليهم حُزمة من العصي قد اجتمعت عيدانها، فعجزوا عن كسْرها، فلما فُكَّ الرباط، وتفرَّقت الأعواد، تكسَّرت واحدًا واحدًا، وصور ذلك الشاعر العربي، فقال:

 كُونُوا جميعًا يا بَنيّ إذا اعتَـــرى

                                   خَطْبٌ ولا تتفرَّقوا آحــــادَا

  تأبَى العِصِيُّ إذا اجْتمعْنَ تكسُّـرًا

                                   وإذا افْتَرَقْنَ تكسَّرت أفْرادَا 

  ولقد حضَّ الرسول -ﷺ- على مبدأ الإخاء وإعلانه وتطبيقه منذ قَدِم المدينة؛ كما جاء في سيرة ابن هشام؛ حيث روى أن الرسول -ﷺ- حينما قَدِم المدينة كتب كتابًا بين المؤمنين والمهاجرين مع أهل يثرب من المدينة، ومَن جاورهم من اليهود، جاء فيه: (هذا كتاب من محمد النبي رسول الله -ﷺ- بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومَن معهم، فلَحِق بهم، فحلَّ معهم، وجاهَد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس). 

 وهذا أول دستور عرَفته البشرية يُحدِّد إقليم الدولة الإسلامية، وهو المدينة، ويحدد شعبها وهم المسلمون، والأقليات التي تعيش معهم، ويحدِّد دستورها، وهو كتاب الله وسُنة الرسول محمد.  

والواجب على الأمة الإسلامية اليوم أن تتَّحد وتأتَلف، فالتاريخ يحذِّرنا، انظر إلى تاريخ الأندلس مثلاً التي نُلقِّبها الآن بالكنز المفقود، تفرَّق المسلمون، واتَّصلوا بأعدائهم المسيحيين في أوروبا، وكان المسيحيون يستجيبون لهم ويقتل المسلمون بعضهم بعضًا، وهم يقفون موقف المتفرج؛ لعل الأحداث الآن في الوطن العرب كما كانت سابقًا في الأندلس، فالأمة العربية الآن متناحرة، والأعداء حولها يقفون موقف المتفرِّج.  

قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: ٤٦].  

وقال رسول الله -ﷺ-: «ترَكت فيكم ما إن تمسَّكتم به، لن تضلوا بعدي أبدًا، كتاب الله وسُنتي» (يد الله مع الجماعة، والشيطان مع مَن يخالف الجماعة.) 

فاتقوا الله -عباد الله- الذي خلقكم، واستعينوا على طاعته بما رزقكم، واشكروه على نِعَمِهِ كما أمركم، يزِدكم من فضله كما وعدكم، وقابِلوا نِعَمَه بالشكر والعرفان 

أيها الإخوة المؤمنون

ليس هناكَ أمةٌ من الأممِ حظيت بأسبابِ الوِحدَةِ والتآلُفِ، وجمعِ الكلمةِ ووَحدَةِ الصَّفِ، كأمَّةِ الإسلام؛ إذ إنَّ لها دستورًا إلهيًا معصومًا، تكفَّلَ اللهُ بإكمالهِ وحَفِظَه، كِتَابٌ عزيزٌ، ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٢]، نورٌ مبينٌ، ومنهاجُ قويم، وصراطٌ مستقيم، فإذا تنازعَ المتنازعون واختلفُوا، ثم تحاكموا إلى كتاب الله، تَحَطَّمَت عَلَى آياتِ عَدْلِه ضلالاتُ أهلِ الهوى، وتَمزَّقَت شُبَهاتُهم بِددًا، فهو ميزانُ عدلٍ مُطلق، قائمٌ بالقسطِ، لا يحيفُ ولا يميل، مَن تدبرَ آياتِه استنارَ لهُ دربُه، وبانت له محجَّتهُ، وهُدي إلى صراط مستقيم، تأمَّل: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٥]، أي لتَتَضِح السَّبِيْلُ المُوْصِلَةُ إِلى سَخَطِ اللهِ وَعَذَابِه، فإِذَا اسْتَبَانَتْ وَاتَّضَحَتْ، أَمْكَنَ اجْتِنَابُهَا، والبُعْدُ مِنْهَا، بِخِلافِ مَا لَوْ كَانَتْ مُشْتَبِهَةً مُلْتَبِسَةً، فإِنَّهُ لا يَحْصُلُ هَذا المَقْصُوْدُ الجَلِيْل) السعدي ا.هـ.

أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان.

أيها الإخوة المؤمنين لم يكن للعرب قبل الإسلام دولة، فلا قانون يجمعهم ولا سلطان يحكمهم، ولا شريعة ترسم لهم طريق الحياة، إلى أن أذِن الله لهذا الظلام بالزوال، فأرسل رسولنا محمدًا -ﷺ- إلى أهل مكة، فدعاهم إلى عبادة الله الواحد القهار، ونبَذ عبادة الأصنام والأوثان، لكن قريشًا كَبُر عليها الأمر، وتحكَّمت فيها العصبية الجاهلية، فلم يدخل في الدين الجديد إلا نفر قليل، فأذِن الله لرسوله بالهجرة إلى المدينة، وفيها تكوَّنت الدولة الإسلامية الأولى، واستمر الوحي الإلهي ينزل على رسولنا محمد ﷺ يوضِّح له قوام الدولة، ويحدِّد له أهدافها التي تُميزها عن غيرها في عقيدتها وفي مبادئها وسلوكها، ومعاملاتها وعاداتها. 

 فدعا البشرية جمعاء أن تتَّجه بالعبادة لله الواحد الأحد، الذي أنشأهم من نفس واحدة، وخلَقهم في أحسن تقويم، وكرَّمهم ورزقهم من الطيِّبات، وفضَّلهم على كثير ممن خلَق تفضيلاً. 

 دعاهم إلى الوحدة الإنسانية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: ١].

  وإذا كان الناس جميعًا إخوةً في الرحم والإنسانية، فقد دعاهم جميعًا للدخول في الإسلام: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [الأعراف: ١٥٨]. 

 فالناس جميعًا متساوون في أصل الخلقة، لا فضْل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح.  

  فالوحدة الإسلامية لا تقوم على الجنس أو العنصر أو القبيلة؛ كما قال الحبيب محمد -ﷺ-: «كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب» ، ولا نجد نداءً في القرآن خاصًا بالعرب، إنما النداء؛ إما بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: ٢١]، فيعم الإنسانية كلها، وإما بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: ١٠٣]، فيعم المؤمنين ويخصهم. 

 وكما كوَّن النبي -ﷺ- الوحدة الإسلامية، حماها وحَفِظها من كل أمر يُهدِّدها، والأمور التي تهدِّد الوحدة ثلاثة:

 أولها: العصبية، وقد نهى عنها الرسول ﷺ، فقال ﷺ: «ليس منا مَن دعا إلى عصبية»

وقد بين لنا ﷺ معنى العصبية؛ حينما سُئل: أمِن العصبية أن يحبَّ الرجل قومه؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: «إن العصبية أن يُعين قومه على الظلم».  

وثانيها: منَع الرسول القتال بين المسلمين تحت أي لواء، فقال -ﷺ-: «سِباب المسلم فُسوق، وقتاله كُفر» ،

وحماها ثالثًا: بالشورى

فما كان يُقدِم على أمر إلا بعد المشورة؛ استجابة لقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: ١٥٩]، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: ٣٨].

  وإذا كانت الوحدة الإنسانية قائمة، فالناس جميعًا إخوة متحابون، وأعضاء متماسكون، يشتركون على البُعد والقُرب بالنسبة إلى الله، فهو خالقهم، وبالنسبة إلى أصلهم الأول، فهم أُولو أرحام، كلهم لآدمَ، وآدم من تراب.  يقول الإمام الشافعي:

 الناسُ من جِهة التِّمثالِ أكْفـــاءُ

                       أَبوهمُ آدمُ والأُمُّ حــــــــــــــــوَّاءُ

  فإنْ يَكُنْ لَهُمُ في أصْلِهم شَـرَفٌ

                        يُفاخِرون به فالطِّين والمَـــــــاءُ

  ما الفخْرُ إلا لأهْل العِلْم إِنَّهُــــمُ

                       على الهُدى لمَن استهْــــدَى أَدِلاَّءُ

  ففُزْ بعلمٍ تَعِشْ حيًّا به أبَــــــدًا

                       فالناسُ موْتَى وأهْل العلْمِ أحْيَاءُ 

وقد أوجب الله عليهم طاعته وألزَمهم مراقبته، وطلَب منهم عبادته؛ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: ٥٦ - ٥٨].

وأوضح العبادة المطلوبة، فقال - سبحانه -: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [البقرة: ١٧٧].  

فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يجتمعون على عبادة إله واحد بيده الأمر وهو على كل شيء قدير، والعبادة في حد ذاتها مظهر من مظاهر الاتحاد والائتلاف بين الأمة الإسلامية، فالصلاة مثلاً تُنظم صفوفهم، وتوحِّد كلمتهم، وتَجمع شمْلهم، وقد صور ذلك عالم أوروبي فقال: "إذا نظَرت إلى العالم الإسلامي في ساعة الصلاة بعين طائرٍ في الفضاء، وقُدِّر لك أن تستوعب جميع أنحائه، بغض النظر عن خطوط الطول والعرض - لرأيت دوائر عديدة من المتعبدين تدور حول مركز واحد هو الكعبة، وتنتشر في ساحة تزداد قدرًا وحجمًا.  

ثم إنهم في صلاتهم يناجون الله بهذه الصيغة الجماعية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: ٥ - ٧]، فالأمة الإسلامية أمة واحدة، ربهم واحد، ودينهم واحد، وكتابهم واحد، وقِبلتهم واحدة، وعبادتهم واحدة، وهدفهم واحد؛ {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} [الأنعام: ١٦٢- ١٦٣]. فالصلاة بذلك تعطي الأدب الوحدوي؛ فهي عبادة واحدة من أمة واحدة لربٍّ واحد،

  واختلاف الناس في الأجناس واللهجات والألوان، إنما هو من أقوى الأدلة على كمال القدرة الإلهية في خلْق البشر ومساواتهم جميعًا أمام الله؛ {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: ٢٢].  

الدعاء

google-playkhamsatmostaqltradent