الأمل إكسير الحياة
للشيخ/ محمد عبد التواب سويدان
الحمدُ للهِ الذي رفعَ
السماءَ بِلا عَمدٍ، الحمدُ للهِ الواحدِ الأحدِ، الفردِ الصَّمد وأشهدُ أن لا
إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ
وسلَّمَ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين؛ أما بعد؛
فمما لا شكّ فيه أن طبيعة الدنيا التي نحياها الابتلاءات وكثرة المشكلات؛ فهي دار
ابتلاء ومحن؛ ولم لا وقد جُبِلَت على ذلك، وأضحى الإنسان فيها في تعب ومشقّة؛ قال
تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ
فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]
ويقول القائل عن الدنيا:
جُبِلَت على كدَرٍ وأنت تريدها ***
صفوًا من الأقدار والأكْدَارِ
ومُكَلّف الأيام ضِد طباعِهَا ***
مُتطَلِّبٌ في الماء جذْوة نَارِ
آلام وأحزان وفتن وحروب ضاعت معها كثير
من بلاد المسلمين في الفوضى؛ أحوال اقتصادية حرجة، ومعاناة الفقراء؛ ومظاهر الظلم
والقهر - وغير ذلك من أسباب، والتي من خلالها نصب الشيطان شراك اليأس والتشاؤم
لكثير من الناس : "لا فائدة - لا أمل!"
غير أنّ السائر إلى الله تعالى لا يضيق
صدره بطبيعة الحياة فيتألم أو ييأس من روح الله ورحماته؛ لأنه مؤمن بأنّ الأقدار
والكون بيد الله تعالى، وعليه تزداد ثقته ويقينه في ربّه، فينطلق الأمل من الإيمان
بالقدر، ((واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك))؛ [رواه
الإمام أحمد، وصححه الأرنؤوط]
وينطلق الأمل من اليقين في الله: ﴿
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
﴾ [آل عمران: 139]،
ففي أشد الظروف يأتي نداء الأمل ليبعث
في الإنسان الحياة فمع الإيمان لا يأس... مع الأمل لا حزن... مع اليقين لا قنــوط.
فالأمل هو حُسن ظن العباد بربهم، ونور
الحياة، وخلق يؤسس به الشباب مستقبلهم، ويبنون به مجدهم، ويرفعون به رايتهم، وهو
قوة دافعة تشرح الصدور، وتنير القلوب، وتنشط الأبدان، وتعلى الهمم.
♦ وانظر أخي الكريم إلى سورة الشرح التي
كانت تتضمن اليسر والأمل والتفاؤل واقتران الآلام بالفرج والنصر واليسرقال تعالى:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي
أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا
* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ
فَارْغَبْ ﴾ [الشرح: 1 - 8]
وقال ﷺ (النَّصْرُ مَعَ الصَّبْرِ،
وَالفَرَجُ مَعَ الْكَرْبِ، وَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (رواه الخطيب في
تاريخه)
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-
قال: "لو دخل عسر في جحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه؛ لأن الله -تعالى- يقول:
(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا).
"
وكتب أبو عبيدة إلى عمر أمير المؤمنين،
يذكر جموعًا من الروم، وما يتخوف منهم، فكتب إليه -عمر رضي الله عنه-:" أما
بعد، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن من منزل شدة، إلا جعل الله بعده فرجًا، وإنه لن يغلب
عسر يسرين".
♦ والأمل كان سمة النبي ﷺ يبثه في كل
أحواله وبلا استثناء، يؤمل أصحابه وأمته بحصول المقصود من العطاء، والنصر،
والتمكين، والأمن والأمان، وأنَّ المستقبل للإسلام، ويوسع أملهم بقبول أعمالهم
وفوزهم بالجنة.
والمثل الأعلى للمصلحين سيدنا رسول
الله ﷺ فقد ظل في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو قومه إلى الإسلام، فيَلْقَوْن دعوته
بالاستهزاء، وقرآنه باللغو فيه، وحججه بالأكاذيب، وآياته بالتعنت والعناد، وأصحابه
بالأذى والعذاب، فما لانت له قناة، ولا انطفأ في صدره أمل. وقد اشتد أذى المشركين
لأصحابه، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم في ثقة ويقين: ((تفرقوا في الأرض،
وإن الله سيجمعكم)).
• وجاءه أحد أصحابه "خباب بن
الأرت"، وكانت مولاته تكوي ظهره بالحديد الْمُحمَّى، فضاق بهذا العذاب
المتكرر ذرعًا، وقال للرسول في ألم: ألا تدعو لنا؟ كأنه يستبطئ سير الزمن ويستحث
خطاه، ويريد حسم الموقف بين الإيمان والشرك بدعوة محمدية تهتز لها قوائم العرش، فينزل
الله بأسه بالقوم المجرمين، كما أنزله بعاد وثمود والذين من بعدهم.
وغضب النبي ﷺ لهذه العجلة من صاحبه،
وألقى عليه درسًا في الصبر على بأساء اليوم، والأمل في نصر الغد، فقد روى
البخاريُّ في صحيحِهِ عن الصحابيِّ الجليلِ خبّابِ بنِ الأرتِّ رضي الله عنه أنه
قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ
وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا
تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ:”لَقَدْ كَانَ مَنْ
قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ
عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ
رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ
وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ
إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ والذِّئبَ على غنمِهِ ولكنكم
تستعجلون“
• وفي الهجرة من مكة والنبي ﷺ خارج من
بلده خروج المطارد المضطهد الذي يغيِّر الطريق، ويأوي إلى الغار، ويسير بالليل،
ويختفي بالنهار، وانظر إليه حينما يلجأ إلى غار ثور في هجرته مع صاحبه الصديق،
ويقتفي المشركون آثار قدميه، ويقول قائفهم: لم يعد محمد هذا الموضع، فإما أن يكون
قد صعد إلى السماء من هنا، وإما أن يكون قد هبط إلى الأرض من هنا.
ويشتد خوف الصديق على صاحب الدعوة
وخاتم النبيين، فيبكي ويقول: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيقول له النبي ﷺ ((ما
ظنك باثنين الله ثالثهما))، وكانت العاقبة ما ذكره القرآن: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ
فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ
إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ
مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ
تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ
هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]
وفي الطريق يلحقه الفارس المغامر سراقة
بن مالك وفي رأسه أحلام سعيدة بمائة ناقة من حمر النعم - جائزة قريش لمن يأتي برأس
محمد حيًّا أو ميتًا - ولكن قوائم جواده تسوخ في الأرض ويدركه الوهن، وينظر إليه
الرسول ﷺ ويكشف الله له عن الغيب المستور لدينه، فيقول له: ((يا سراقة، كيف بك إذا
ألبسك الله سواري كسرى؟))، فيعجب الرجل ويبهت، ويقول: كسرى بن هرمز؟ فيقول:
"نعم".
ويذهب الرسول ﷺ إلى المدينة، ويبدأ في
كفاح دام مرير مع طواغيت الشرك، وأعوان الضلال، وتسير الحرب - كما هي سنة الله -
سجالاً.
حتى تأتي غزوة الأحزاب، فيتألَّب الشرك
الوثني بكل عناصره، والغدر اليهودي بكل تاريخه، ويشتد الأمر على النبي وأصحابه :
قريش وغطفان، ومن يحطب في حبلهما من خارج المدينة، واليهود والمنافقون من الداخل،
موقف عصيب صوَّره القرآن بقوله: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ
أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11] في هذه
الساعات الرهيبة التي يذوي فيها عود الأمل، ويخبو شعاع الرجاء، ولا يفكر المرء إلا
في الخلاص والنجاة ... في هذه اللحظات والنبي يسهم مع أصحابه في حفر الخندق حول
المدينة يصدون بحفره الغزاة، ويعوقون الطامعين العتاة، يُحدِّث النبي ﷺ أصحابه عن
الغد المأمول، والمستقبل المرجو حين يفتح الله عليهم بلاد كسرى بفارس، وبلاد قيصر
بالشام، وبلاد اليمن بالجزيرة، حديث الواثق المطمئن الذي أثار أرباب النفاق،
فقالوا في ضيق وحنق: إن محمدًا يعدنا كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى
الخلاء وحده! أو كما قال القرآن: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾
[الأحزاب: 12].
روى الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه في
مسندِهِ عن الصحابيِّ الجليلِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ قَالَ وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنْ
الخَنْدَقِ لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ عَوْفٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَضَعَ
ثَوْبَهُ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ:”بِسْمِ
اللَّهِ فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ وَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ
أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ
مِنْ مَكَانِي هَذَا ثُمَّ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ
الْحَجَرِ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ وَاللَّهِ
إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي
هَذَا ثُمَّ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ
الْحَجَرِ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ وَاللَّهِ
إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا”
ماذا تسمي هذا الشعاع الذي يبزغ في
دياجير الأحداث من القلوب الكبيرة، فينير الطريق ويبدد الظلام؟
إنه الأمل الذي نريد وهو الرجاء فيما
عند الله تعالى من رحمة وغفران، وانتظار الفرج وكشف البلاء، والثقة في زوال
المصيبة والمشكلة التي يعاني منها الإنسان، وتوقّع حصول الأفضل، والأمل كلمة كلها
إشراقات ونفحات، إنها شعور عاطفي إذا امتلأت به نفس الإنسان زادت همّته وتنامت
حركته لصالح ذاته والمجتمع؛ فهو الشفاء الذي يعقب المرض: ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ
فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 80]؛ يقول: وإذا سقم جسمي واعتل، فهو يبرئه ويعافيه،
فالمؤمن لا ييأس إن مرض؛ فهو يرجو أجر المرض، ويسأل الله العافية؛ قال النبي صلى
الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يصيبه أذًى، مرض فما سواه، إلا حطَّ الله له سيئاته،
كما تحط الشجرة ورقها)).
الأمل في الذرية بعد العقم : فالمؤمن
كله أمل في كرم الله؛ فهو سبحانه الوهاب، فيقتدي المسلم بالأنبياء، ويسأل رب الأرض
والسماء؛ ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا
وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى
وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾ [الأنبياء: 89، 90].
الأمل في الأمن بعد الخوف واليقين في
تحقق النصر مهما اشتد الظلم وشاع البغي والعدوان على أهل الحقّ ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ
أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [الأنفال: 26]
قال الحسن البصري -رحمه الله-:
"عجبًا لمكروب يغفل عن خمس، وقد عرف ما جعل الله لمن قالهن: قوله -تعالى-:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ
الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ
إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة:155-157)، وقوله: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي
إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ . فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ
مَا مَكَرُوا) (غافر:44-45)، وقوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ
وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو
فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران:173-174)، وقوله: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ
أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ
فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء:83-84)، وقوله:
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ
فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ
مِنَ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ
وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء:87-88)"
فالأمل يعين الناس على مشقات الحياة
يدفع الزارع للزرع أملًا في الحصاد، ويغري التاجر للمخاطرة بماله أملًا في الربح،
ويحفز المتعلم إلى الصبر في طلب العلم أملًا في النجاح، ويتجرع المريض مرَّ الدواء
أملًا في السلامة والعافية، فلولا الأمل ما زرع زارع، ولا تاجر متاجر، ولا تعلم
متعلم، ولا تجرع مريض دواء؛ فيا أيها المسلم مهما كان همُّك (ماديا أو معنويًّا)
فلا تبتئس ولا تحزن ولا تيأس؛ لا تيأس من الفقر المادّي؛ فالفقير قد يغتني، لكن سل
الله ولا تعجز.
لا تيأس وأنت ترى أهل الباطل يتمرّدون
على أهل الحق ويعيثون في الأرض فسادًا.
لا تيأس وأنت ترى الفحش يتسلّط فيصير
سُنّة، بينما صارت القيم بدعة عصرية.
لا تيأس فأشد ساعات الليل ظلمة هي تلك
الساعة التي يعقبها بزوغ الفجر.
لا تيأس فمن وراء الشدة يأتي الفرج،
ومن باطن المِحنة تتولّد المِنحة، ومع العسـر يأتي اليسر.
لا تيأس وطالِع تاريخ السابقين
الأولين، وتعلّم من سِيَرِهِم كيف صمدوا وصبروا وتحمّلوا في وقت المعاناة والشدائد..
هل تذكــــر فتى الأخدود وما حدث معه:
حتى نصـر الله به دعوة الحق وقضـى به على دعوة الباطل والظلم؟
هل تذكر أيوب وقد اشتد به المرض زمنًا
طويلا: ثم شكا إلى المولى ففرَّج عنه وعافاه؟
هل تذكر يونس وقد رقد في مكان لم يصل
إليه غيره: فعافاه الله من أن يهشم له الحوت عظمًا أو يأكل له لحمًا؟
هل تذكر زكريّا كبير السّن وقد أصاب
زوجه العقم: غير أن الله رزقه بالولد؟
ويعقوب -عليه السلام- بعد طول السنين
ينتظر الروح والفرج ويبعث أولاده بالأمل في الله: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ
إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:87).
قالها يعقوب وهو الذي فقد ابنه الحبيب،
وفقد ابنه الآخر، وفقد عيناه، وفقد وحدة أبنائه ومحبتهم لبعضهم، قالها وهو يثق في
أنّ الله لن يخذله؛ فما خذله سبحانه وتعالى.
قد تقول الآن: هؤلاء أنبياء، وتلك
معجزات!!
غير أني أقول لك : إنّ ربهم في زمنهم
هو ربنا في زمننا، القادر على إحداث التغيير في حياتهم هو نفسه القادر على تغيير
أوضاعنا إلى الأفضل، لكن يبقى أن تتنفس الأمل في كل لحظة، ولن يخذلك الله؟؟ فهل
خذل الله وليًّا له يومًا؟!!
وقد مرّت على أمتِنا الإسلاميةِ ظروفٌ
صعبةٌ على مرِّ التاريخ، ولكن بالأملِ والتفاؤلِ بالخير والجِدِّ والعملِ خرجتْ
الأمةُ أقوى مما قبل، فهذا المسجدُ الأقصى وقع في الأسرِ ما يقاربُ الثمانين سنة،
ولكن لم يفقدِ السلطانُ نورُ الدين زنكيّ ولا السلطانُ صلاحُ الدين الأيوبيّ
أملهما في تحريرِهِ؛ حيث قام السلطانُ نورُ الدين زنكيّ بصناعةِ منبرٍ للمسجدِ
الأقصى ليوضعَ فيه بعد تحريرِهِ، فقام السلطانُ صلاحُ الدين الأيوبيُّ بتحريرِهِ
ووضعِ المنبرِ فيه، وأملُنا كبيرٌ بإذن اللهِ تعالى بأن يعودَ المسجدُ الأقصى مرةً
أخرى محررًا عزيزًا من أيدي الغاصبينَ المحتلين، وسيبقى الأردنُ بقيادتِهِ
الهاشميةِ الحكيمةِ القلبَ النابضَ، للشعبِ الفلسطينيِّ والمسجدِ الأقصى حتى يعودَ
الحقُّ لأصحابِهِ، قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ
قَرِيبًا (المعارج) واللهُ غالبٌ على أمرِهِ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون؛ ودوام
الحال من المحال؛ إننا بحاجة أن نتدبر آيات واضحات: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ
قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ
بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 58]، ﴿
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ
مَوْعِدًا ﴾ [الكهف: 59] ﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا
قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ
فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ [الإسراء: 58]، ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً
بِمَا ظَلَمُوا ﴾ [النمل: 52]، ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ *
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ *
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي
الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا
الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 6 - 14].
إذا كانت هذه نصوص القرآن، فهل يستطيع
مَن لا يؤمن به أن يكذب التاريخ الذي يؤكد حقائق القرآن؟ أين أكاسرة الفرس وقياصرة
الرومان؟ وأين وأين ؟؟﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ
بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ *
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ
وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾ [القمر: 43 - 46] نسألُ اللهَ تعالى أن يرزقَنا
الأملَ وأن يرزقَنا الصلاةَ في المسجدِ الأقصى محررا، إنه على كل شيءٍ قدير
وبعبادِه لطيف خبير؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية :
الحمدُ للهِ لهُ النعمةُ وله والفضلُ
وله الثناءُ الحَسَنُ والصلاةُ والسلامُ على سيدنَا محمدٍ سيدِ البشرِ، أمَّا
بعدُ؛ فالأمل هو شعاع يضيء في الظلمات، وينير المعالم، ويوضح السبل، به تنمو شجرة
الحياة، ويرتفع صرح العمران، وبه يذوق المرء طعم السعادة، ويُحس ببهجتها، فتنشرح
نفسه في وقت الضيق والأزمات.الأمل قوة دافعة، تشرح الصدر للعمل، وتبعث النشاط في
النفس والبدن، قوةٌ تدفع الكسول إلى الجد، والمُجدَّ إلى الاستمرار والمداومة،
قوةٌ تدفع المخفقَ إلى تكرار المحاولة، وتُحفز الناجح إلى مضاعفة الجهد.
والكثير منا يتذكر قصة الإسكندر
المقدوني عند انهزامه في إحدى المعارك اختلى بنفسه ليفكر في أمره، فأثار انتباهه
نملة تجر حبة قمح وتحاول الصعود بها، لكنها كانت تسقط منها، فحاولت مرات عديدة،
حتى نجحت في مُهمتها، فتعلم منها درسا عظيما، ألا هو: الأمل للبقاء، والعزيمة التي
لا تكل ولا تنهزِم، فكان ذلك سببا في انتصاراته ونجاحاته كُلها.
بل انظروا إلى الزارع أو الفلاح ما
الذي يدفعه إلى حرث الأرض وسقي الزرع؟ إنه أمله في يوم الحصاد.
وانظروا إلى التاجر من الذي يغريه
بالأسفار والمخاطر؟ إنه أمله في الربح.
وما الذي يبعث الطالب للجد والاجتهاد؟
إنه أمله في النجاح.
وما الذي يحبب الدواء المرَ إلى
المريض؟ إنه أمله في الشفاء.
وما الذي يدفع الإنسان إلى الزواج؟ إنه
أمله في إنجاب الولد.
ولولا الأمل ما أرضعت أم ولداً، ولا
غرس غارس شجراً.
لولا الأمل لامتنع الإنسان عن مواصلة
الحياة، ومجابهة مصائبها وشدائدها.
لولا الأمل لسيطر اليأس على القلوب،
وأصبح الكل يحرص على الموت.
لذلك قيل: اليأس سلم القبر، والأمل نور
الحياة.
الأمل يُنَمِّي فيك الطموح والإرادة،
واليأس يقتلهما، فعليك -أيها المسلم- أن تحرص على الأمل في كل جوانب حياتك، وتمسك
به تمسكك بالحياة، ولا تستسلم لليأس والقنوط أبدًا.
مر كسرى ملك الفرس يوما بشيخ عجوز
يزرَع شجرة زيتون، فقال له متعجبا: “أيها الشيخ! ما بالك تغرِس هذه الشجيرة وهي لا
تُثمر إلا بعدَ أعوام عديدةٍ وأنت شيخ هرم؟ فهل تأمُل أن تأكل من ثمرها؟” فقال له
الشيخ العجوز: “أيها الملك لقد غرسوا من قبلنا فأكلنا، ونحن نغرِس لكي يأكل من
يأتي بعدَنا” فاستحسن جوابه، وأمر له بجائزة.
فهكذا الحياة أمل وعمل. فالأمل له شرط
أساسي ذلكم هو: العمل؛ لأن الأمل بلا عمل أمانيٌّ كاذبة، ووعود زائفة، وجهل مردود
على صاحبه، ولا يَجني من ورائه إلا تعذيب نفسه وتحطيم قلبه.
الأمل بلا عملٍ كالطائر بلا جناحين،
وهل يطير أو يحلق الطائر بلا جناحين؟ فهذا أمر لا نظن أن يقوله عاقل.
فإذا كان الأمر كذلك فكيف نرغب في أمل
محلق بلا عمل؟ وكيف نطمح في الرفعة والكرامة والعز بدون أسباب أو بغير إعداد؟ وكيف
نطمح للأُمّة حِيازةَ القوةِ والمجد والتقدم بغير عمل؟
الأمل وحده لا يكفي، وكل واحد لا يقبل
ذلك في قرارة نفسه.
فلو حدثنا جائعاً وأمَّلناه بالطعام
ولم نقدم له شيئا، ماذا نفيده بذلك؟
لو نام التلميذ عن دراسته مع أمله
بالنجاح فقط لظننا به الجنون.
فالآمال وحدها لا تُشبع جائعا، ولا
تفيد دارسا، ولا تشفي مريضا، ولا تحقق مكسبا من مكاسب الحياة الدنيوية ولا
الأخروية.
الأمل لا يكون ولن يكون مقبولاً من أحد
من الناس ولا تترتب عليه ثماره إلا إذا اقتَرن به عمل نافع بناء، وإلا كان كلامنا
هذا كأحلام اليقظة التي يُحلّق فيها المرء بخياله، ويبني القصور في الهواء، ويجمع
الأماني والأوهام، حتى إذا ما استيقظ تلاشت أحلامه، وتطايرت آماله.
انظروا إلى الأمم الراقية والبلدان
المتقدمة فما علمنا ولا سمعنا أن عاقلاً فيها اتخذ الأحلام الخادعة المُحلِّقة،
ولا الأماني الكاذبة مطية له في حياته، بل لا بد من جمع القرينين: الأمل والعمل،
وتوظيفِ كلَّ واحد منهما في المقام الذي يمكن توظيفه فيه. فنحن قوم أولو رسالة،
وأصحاب عقيدة شعارها: (وَقُلِ اعْمَلُواْ…) [التوبة ] فيجب علينا أن نكون كغيرنا
من عقلاء الأمم والشعوب في اقتران آمالنا بأعمالنا على الأقل، إن لم يكن ذلك منا
متابعة والتزاماً بالشرع، ومراعاةً لضرورة الحياة.
فالأمل مع العمل طاقة يودعها الله في
قلوب البشر، لتحثهم على تعمير الكون بالخير والنفع والصلاح، وقد قال النبي -صلى
الله عليه وسلم- كما جاء في الحديث الصحيح: “إنْ قامَتِ الساعةُ وفي يدِ أحدِكمْ
فَسِيلةٌ فإنِ استطاعَ أنْ لا تقومَ حتى يَغرِسَها فلْيغرِسْهَا”. فالنبي -صلى
الله عليه وسلم- يوجهنا، ويريد منا بأن لا تقتصر آمالنا في الحياة على مجرد
حاجاتنا، ولكن أن نعمل لحاضرنا .وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه
أجمعين..
اللهم آمِّنَّا في أوطاننا، وأبْرِم
لأمة الإسلام أمر رشد؛ يُعَزُّ فيه أهل الطاعة، ويُهدى فيه أهل المعصية، ويُؤمر
فيه بالمعروف، ويُنهى عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين
سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غِلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم!
اللهم آمين!
جمعها ورتبها
الشيخ محمد عبد التواب سويدان
خطيب بوزارة الأوقاف